البابور الموقع العربي

قراءات في كتاب ” آلهة من ورق “للكاتب الأستاذ سمير حجاوي

434

د. مضر رياض الدبس

مقدمة

عندما تقرأ ” آلهة من ورق ” تدرك منذ الصفحات الأولى أنك أمام كاتب مفعم بالإنسانية و حب الحياة الكريمة.

ويأتي ” آلهة من ورق ” ضمن تحولات تاريخية تشهدها العديد من الدول العربية، ليس على الصعيد السياسي فحسب إنما على الصعيد الإجتماعي كذلك، و أكاد أجزم أنها تطال سيكولوجيا الفرد العربي إلى حد كبير.

يقدم سمير حجاوي حكاية لتفاصيل تلك التحولات ووجهة نظر منها عند زمن حدوثها ضمن مجموعة من المقالات تتناول عدة مواضيع ترتبط بفترة الثورات العربية.

و سأتناول ” آلهة من ورق ” في دراستي هذه ضمن المحاور التالية:

أولاً: أسباب الثورة

ثانياً: ثالوث الشر

ثالثاً: المعجزة الإلهية

رابعاً: مفهوم الحرية

خامساً : خاتمة

د. مضر الدبس

المحور الأول:   أسباب الثورة

من يتمعن في كتاب ” آلهة من ورق ” سيجد أن الكاتب قد قدم أسباب للثورات العربية في عدة مواضع، وتوصل إليها بتحليل لحظي و مبسط ليضعها أمام القارئ ، فيما يلي سنحاول شرح أسباب الثورات العربية كما رآها الحجاوي في ” آلهة من ورق ” من ثم سنحاول دراسة ما توصل إليه من أسباب.

أسباب الثورة في ” آلهة من ورق “

  1. أسباب تتعلق بنوع النظام الحاكم

طبيعة النظام:

 يقول الكاتب تحت عنوان ” البلطجوقراطية ” معللاً نزول الشعب إلى الشوارع لإسقاط النظام :

في العالم سمعنا مصطلحات مثل ديموقراطية و تعني حكم الشعب و ثيوقراطية أي حكم رجال الدين ، و أرستوقراطية طبقة الأغنياء ، لكن بلطجوقراطية ولدت على يد نظام مبارك في مصر، وبالطبع يضاف إليها “حرامي قراطية” أي حكم الحرامية، و إذا ما اجتمعت “البلطجوقراطية و الحراميقراطية” معاً فإن النتيجة تكون حكومة يقودها سياسيون و رجال أعمال فاسدون و موظفون مرتشون و إعلاميون منافقون تؤدي بالنهاية إلى خروج الشعب إلى الشوارع و الميادين من اجل إسقاط النظام و هذا بالضبط ما حدث في تونس و مصر

كفنان محترف ينقل الواقع، يرسم هنا الحجاوي صورةً للوضع  فلا دولة أو نظام حكم إنما حرامية لنهب الشعب، و لا عسس أو شرطة في خدمة الشعب إنما بلطجية لإرهاب الشعب.

الاخطاء القاتلة:

يكمل الكاتب رسم لوحته موضحاً دور الطغاة في استمرار الثورة بل و ازدياد نطاقها الجغرافي و رفع سقف مطالبها، إذ يصور غباء هذه الانظمة سياسياً و “أخطائها القاتلة”

التي ساهمت في سرعة سقوطها فيبين في مقالة تحت عنوان “أخطاء الاسد القاتلة”:أن الإعتقالات و الإمعان في سفك الدماء و القمع شكل دافعاً للإستمرار في التظاهر و عدم التوقف و أن اعتقال الذكور في بلدة البيضاء في سوريا مثلاً قد أدى الأمهات للخروج في مظاهرات، و يرى الكاتب:

 ” في مجتمعنا العربي عندما يخرجن الأمهات للتظاهر، فإن أي شاب يكون على استعداد للموت دفاعاً عن أمه و أخته و ابنته دون تردد أو تفكير أو جدال”.

و يصف في نفس المقالة أن هذه الحركات و الخطاب المستفز للشعب و “الخالي من الدسم” و تراكم الاخطاء أدت إلى اتساع رقعة المظاهرات و كذلك رفع سقف المطالب إلى إسقاط النظام.

الدم :

 تحت عنوان “سوريا و الثورة المتدحرجة” يرى الحجاوي أن الثورة تتدحرج.

” فعندما يخرج الناس إلى الشوارع و يسقط الضحايا و يسفك الدم فإن الوضع يصبح اكثر تعقيداً و اشتعالاً لأن الدم هو وقود الثورة، و هذا يفسر لماذا يستمر الناس بالتظاهر في سوريا”

بعد هذه الجولة في طيات الكتاب نجد ان الحجاوي يجد أن أسباب الثورة التي تتعلق بالنظام تكمن في أن هذة الأنظمة أقرب لأن تكون مجموعة من الحرامية قمعت الناس بالقتل و الإعتقال و خاطبتهم  بالاوعي و هذا ادى إلى زيادة الإصرار على الثورة.

  • أسباب تتعلق بالمجتمع

الشرارة:

 تحت عنوان ” 2011 ..عام على الثورات العربية ”  يكتب الحجاوي واصفاً الحركة الجماهيرية العربية:

 ” ثورة أشعلها الشهيد العربي التونسي محمد البوعزيزي، ذلك الشاب القاطن في سيدي بوزيد، إحدى افقر المناطق المهمشة في تونس، ثورة اشعلتها صفعة الشرطية فادي حمدي للرجل الباحث عن رزقه و لقمة خبزه على عربة للخضار، صفعة أهانت رجولته و كرامته و شخصه، لكنها صفعة سمع صداها في كل أرجاء تونس و العالم العربي.”

إذاً نبدأ بفهم اسباب الثورة حسب الحجاوي من الصفعة التي وجهتها الشرطية للشاب “الباحث عن رزقه” و يرى أنها بهذا اعتدت على كل الشعب الذي ثار ليسترد كرامته.

ذلك الشاب يصفه الحجاوي فهو:

 “ليس قائداً ثورياً و لا منظراً اممي أو أحد انبياء الخلاص، و ليس زعيماً في التفسير الديالكتيكي”

و بهذا هو ليس مؤدلج و لم يمارس السياسة و كذلك قامت ثورة بعد موته غير مؤدلجة بل ثورة شعب.

الحرمان:

 و تحت عنوان “فقر و خبز و كرامة ..و ثورات” يستمر الكاتب في مقاربة أسباب الثورات فيقدم صورة إنسانية للطفل العربي المحروم و يخلص في نهاية المقال:

” هؤلاء المحرومون هم أنفسهم الذين تحولوا إلى خزانات غضب ووقود ثورة التي تجتاح عالمنا العربي بحثاً عن الحرية و الكرامة و العدالة و الخبز..”

ولنعرف ما يقصد بالمحرومين نعود لبداية نفس المقال لنقرأ أنه ليس المقصود بالحرمان الفقر فقط بل الحرمان من الكرامة و الحرية و العدل و الخبز.

“يا صغيرتي..يا ابنة جيل الغضب.. جيل محمد البوعزيزي الذي اشعل النار بنفسه فأشعل عالم العرب كله ضد الإستبداد و الفساد و الظلم و الطغيان..الجيل الذي يواجه الطغاة بالجسد العاري و الدم المسفوك في الشوارع بحثاً عن الكرامة و الحرية و العدل و الخبز.”

الإحباط:

 و في موضع آخر تحت عنوان غضبة التونسيين تكلم الكاتب عن الإحباط الذي ساد الشارع التونسي خلال  حكم بن علي مستشهداً ببرقية للسفارة الأمريكية مسربة من ويكيليكس تقول :

 “معظم المواطنين التونسيين يشعرون بالإحباط بسبب غياب الحريات السياسية، و ارتفاع مستوى البطالة، والفساد في السلطة، و عدم المساواة، كما يشكل التطرف تهديداً متواصلاً، و يفاقم المشكلة أن الحكومة التونسية لا تتحمل اي انتقاد أو حتى نصيحة سواء على المستوى المحلي أو الدولي، و بدل ذلك تشدد الحكومة التونسية الرقابة اكثر من اي وقت مضى، بما في ذلك استخدام الشرطة.. و النتيجة تونس مضطربة و علاقتنا معها ايضاً.”

إذاً يصور الحجاوي مجتمعاً يعاني من انتهاك للكرامة و مصادرة للحرية، و انعدام للعدل و المساواة، وعوز في لقمة العيش، بالإضافة للإحباط، فكان جاهزاً للثورة و قام بها بعد شرارة موت البوعزيزي.

و تكمل الثورة طريقها و تنتصر لأن استرتيجية الأنظمة معها هي “استرتيجية من سراب” على حد وصف الكاتب لاستراتيجية النظام السوري في التعامل مع الثورة.

قراءة في اسباب الثورة من منظور الحجاوي

ضمن تفسير الكاتب المباشر للحوادث، يقدم مقاربة تكاد تلامس الواقع والسبب الحقيقي للثورات، وإن بدا ذلك غير واضح تماماً في الكتاب، فكان على القارئ أن يبحث عن اسباب الثورة في عدة مواضع و يعيد ترتيبها ليخلص لما تقدم. وربما هذا يعود للمنهج الصحفي الذي اتخذه الكاتب، فقدم مجموعة من البيانات و المعلومات وترك لمن يريد الغوص بها و ترتيبها و قراءتها من عدة مواضع.

بعد الترتيب و التمحيص في تلك المعلومات نجد أن الكاتب قد قدم سبباً منطقياً و صحيحاً للثورة و لكن بدون الغوص في السؤال الرئيسي الذي يحتاج لإجابة عند تفسير اسباب الثورات و نزول الناس للشارع و السؤال هو: لماذا الآن؟ لماذا صبرت الشعوب العربية أربعة عقود على الطغاة لتثور الآن؟

الم يَقتلو في السجون؟ الم يعذبوا الاطفال أمام آبائهم من قبل و بمعرفة الناس ؟ ألم تصل بعض الانظمة أن اغتصب أزلامهم النساء في الطرقات و اختطفوهن أمام المارة في الشارع و لم تثر الناس؟

إن تفسير الكاتب للثورات و جزمه في عدة مواضيع بقوله: “لهذا نزل الناس للشارع” كان سطحياً و يحتاج لعمق أكبر في تفسير هذه الظاهرة الكبيرة، والتي فاجأت العالم بمختلف اختصاصاته و مشاربه الفكرية.

فإن كان الكاتب قد قدم صورة للأنظمة بشكل واضح وفيه ما قلَّ ودل، فإنه قد أجحف في حق المجتمع، ولم يدخل في صلب أسباب ثورته. و جزم أن الموضوع ببساطة فقر و إحباط و انتهاك للحريات و انعدام للعدالة، و مع استمرار القمع كانت شرارة البوعزيزي فحركت الثورة و في هذا قراءة سطحية و غير مرضية.

أعتقد أن أجوبة هذه الاسئلة تكمن في علم الإجتماع، الذي خربش الكاتب على سطحه دون الدخول في عمقه و استكشاف ما يملك من معلومات نيرة.

و أرى أنه لتكتمل صورة اسباب الثورة لدى الحجاوي، لا بد لنا من تقديم المقاربة التالية و التي سأوضحها باختصار:

وصلت ديكتاتوريات عاتية إلى السلطة، وفعلاً بدأت حقبة “البلطجوقراطية” وأهم ما أدت إليه أن أوصلت كل فرد أو اسرة او حتى جماعة ( إثنية أو طائفية ….إلخ ) إلى تسوية مفادها: نحن نضحي بالحرية و العدل و الكرامة أحياناً كثيرة و نرضى بالفتات للعيش مقابل أن يمنحنا الطاغية _صاحب القوة_ الأمن و الا يقتلنا و يقتل أبناءنا و يعتقلهم.

(راجع “الربيع العربي و الإغتراب..مقاربة تحليلية” المرفق مع الدراسة)

هذه التسوية كان لها الأثر الأكبر في رسم سيكولوجيا الإنسان العربي المقهور.

موت البوعزيزي انتحاراً يحمل احتجاجاً شديداً، يعني أن الفقر و نقص الخبز و نقص الكرامة و العدل و الحرية وصلا إلى مرحلة عالية بعد كل هذه السنين بحيث أصبح هذا النقص مصدر انعدام الأمن. و بالتالي هنا انكسرت التسوية و قامت الثورة.

و هذا ما يبرر قيام الثورة الأن و هذا ايضاً ما يبرر أن القمع المعتاد يزيد الثورة و لا يخمدها.

فما اصطلح عليه بكسر حاجز الخوف إنما هو كسر للتسوية القائمة على الرضى بالبؤس مقابل الأمن.

 وبدون السير في عمق هذا البعد الإجتماعي و النفسي لا يمكن إجراء مقاربة كاملة لأسباب الثورة.

قد يقول البعض أن ” آلهة من ورق ” لم يُكتب لغرض توضيح أسباب الثورات وهي ليست دراسة تقام في هذا الصدد، و إن هذا لكان ادعاء مقبول لو لم يُقدَم الكتاب على أنه “القصة الكاملة للثورات العربية”، وإن كان أهم ما في قصة الثورات نتيجتها فإن الأسباب سيكون لها أهم التأثير على النتائج.

و هنا أنا لا أجزم انني في سياق هذا النقد قدمت سبباً موضوعياً حقيقياً ووافي للثورات العربية. بل إن هذا الموضوع يبقى مفتوحاً لدراسات عميقة و لكني آخذ على ” آلهة من ورق ” إغفال جانب في غاية الأهمية يخص سيكولوجيا الإنسان الثائر و الإنسان المقهور.

المحور الثاني: ثالوث الشر

في ” آلهة من ورق..القصة الكاملة للثورات العربية ” و تحت عنوان جذاب هو “الإسلاميون..و مصائد الفئران” يستهل الكاتب هذه المقالة كما يلي :

“يواجه الإسلاميون هجوماً متعدد الروس يقوده التحالف الثلاثي الغرب و العلمانيون و الفلول. و ذلك بعد اكتساهم الإنتخابات في تونس و المغرب و مصر، و هي هجمات مركزة تستخدم أسلحة متعددة مثل التشكيك و التخويف و التأليب و التحريض و الإستفزاز بهدف جرهم إلى معارك جانبية”.

ثم يضيف:

 ” ما يقوم به هذا التحالف الثلاثي هو محاولة تشتيت تركيز الإسلاميين ببعثرة جهودهم و استنزافهم في الرد على جبهات مختلفة، وهي حيلة مكشوفة لأنها من محفوظات العمل السياسي التي تعتمد على نصب الكثير من المصائد الحقيقية و الوهمية لجعل الخصم في حالة استنفار دائم، و  في حال فشل هذه المصائد يتم الإنتقال إلى خطوات عملية مثل التأثير على الاوضاع الإقتصادية بواسطة رجال أعمال و تجار و تحريض الشارع و صولاً إلى تحريض الجيش و استخدامه للإنقلاب على نتائج صناديق الاقتراع و الإطاحة بالفائزين غير المرغوبين فيهم..”

و يمضي الحجاوي في توضيح مؤامرة “ثالوث الشر” فيكتب:

“على ثالوث الشر أن يكفوا عن ألاعيبهم و خداعهم و مؤامراتهم و معاركهم القذرة و ضربهم تحت الحزام، و أن يحترموا قواعد اللعبة الديمقراطية و صوت الشعب و صناديق الإقتراع، و على الإسلاميين ان يحذروا من مصائد الفئران التي ينصبها هؤلاء لهم لاستنزافهم، و الكف التعامل مع الحاضر بعيون تنظر إلى الماضي و الكف عن خوض معارك النقاب و البكيني فهموم الشعب اكبر و أعقد..”

لنلقي نظرة تحليلية على معاني كلمات ثالوث الشر كما وردت في ” آلهة من ورق “.

الغرب:

نفهم من سياق الكتاب أن الغرب مقصود بها الدول الغربية ( أوروبا و أمريكا )، ويركز الكاتب على الولايات المتحدة الأمريكية غالباً، فيندر أن يستعمل كلمة الغرب إلا وأضاف “أمريكا” أي الولايات المتحدة.

ورغم أن الغرب هو أول ثالوث الشر لم يجد الكاتب حرجاً من أن يكتب تحت عنوان “فيتو مزدوج ضد وقف النزيف السوري” ما يلي :

“..لأول مرة يجد يتجه الشارع العربي في عدائه نحو روسيا و الصين، و نجد انفسنا في توافق مع أمريكا و أروبا، و هو توافق مقبول شعبياً و مرغوب و مطلوب في نفس الوقت”

ما نوع التوافق بين ثورة سلمية للحرية والكرامة والعيش الكريم و بين الشر؟ سؤال مهم يوجَه للكاتب.

الفلول:

 عبارة واضحة المقصود بها بقايا النظام السابق و أنصاره.

العلمانيون:

 يعترف الحجاوي بعدم معرفته بحقيقة أفكار العلمانيين، و ذلك عندما يقول تحت عنوان “الشعب التونسي الجاهل”:

“الغرب ومعه ما يسمى الليبراليون العرب و هم خليط ممن العلمانيين و بقايا اليسار الذين يحملمون خلطة من “أفكار لا نعرف حقيقتها”، و لا نعرف عنها سوى عدائها للإسلام و الإسلاميين، و لا هم لهم سوى التشكيك بنتائج الإنتخابات إذا فاز بها الإسلاميون و الوطنيون”.

و يضيف في نفس المقال :

 “هؤلاء العلمانيون التونسيون و العرب كانوا دائماً و أبداً حلفاء الإستبدادية و الدكتاتورية و الإستعمار، لا هم لهم سوى سلخ الأمة عن عقيدتها و جذورها و دينها و تاريخها و رميها في أحضان الغرب قيمة وثقافة.  دورهم كان دائماً حاضنة للإستبداد و إثارة الزوابع والتشكيك بكل ما هو إسلامي علناً أو سراً و تأليب الغرب ضد الثقافة العربية و الإسلامية.”

   فالبرغم من قول الكاتب صراحةً أن العلمانيين يحملون أفكاراً “لا نعرف حقيقتها” فإنه لم يتردد في الهجوم اللاذع عليهم و اتهامهم بالعمالة للإستعمار و العداء للإسلام.

و يختم مقالة الإسلاميون و مصيدة الفئران بنصيحة للإسلاميين تقول:

 ” يا أيها الإسلاميون..لا يخدعنكم العلمانيون و الفلول عن مهمتكم في الحكم و لا تسمحوا لهم  باستنزافكم و شمروا عن سواعدكم لخدمة الشعوب التي منحتكم ثقتها و احذروا فخاخ “فئران المصائد” و المعارك الجانبية.”

إذا استخدمنا نفس منهج الكاتب السابق فلنا أن نقول هنا: إن هذه النصيحة حجة معدة سلفاً للإسلاميين في حال فشلوا في إدارة دفة البلاد،  و بالطبع هذا الإستنتاج سيكون غير مقبول بالنسبة للكاتب. و هذا يبين خطأ منهجيته في مقاربة قضية العلمانية العربية ووصفها في ثالوث شر مع الغرب و الفلول.

و إذا كان المقصود بالإسلاميين هم من فازوا في الإنتخابات و هذا يفهم من السياق، فإن الكاتب اعتبر أن العلمانيين جميعاً يعادون الإسلام وعملاء للغرب منطلقاً من “أنك إما معي او ضدي”.

لفهم أفضل دعونا نوضح أن الكاتب أصاب إذ قال أن الإسلاميين ليسوا غيلاناً، و لكنه أغفل هنا أن مفهوم “الإسلام الغول” هو من روجت له الأنظمة البائدة، وبخطاب وضعت نفسها فيه مكان الوسط بين العلمانية و الإسلام، ونجد أن الكاتب في مقاربته استخدم نفس المنهج الموروث ليصل لنتائج تخوينية مشابهة. ويسوق الجميع بعصا واحدة، هذا المنهج يمنع من معرفة الآخر وقبولة والتشارك معه في بناء الوطن، و خصوصاً أن الثورة كانت من كل المشارب و الأطياف و لا تحمل اي إيديولوجيا.

إن إقصاء أي نمط فكري لا يكون ضمن مصلحة الوطن، بل إن المطلوب هو التعددية الفكرية تحت سقف المواطنة، وتكوين مفهوم جديد مبني على قبول الآخر و الإقرار بحقه في التعبير عن رأيه وافقناه أم خالفناه.

و من هذا المبدأ الموضوعي أبني نقدي و ليس دفاعاً عن علمانيين أو هجوماً على إسلاميين.

فبدلاً من هذا الطرح التخويني و الخلافي، يمكن القول أن العلمانيين يتلاقون مع الإسلاميين في جوانب كثيرة، وكما يقول أحد الإسلاميون وهو الشيخ الأستاذ رياض درار: أن لا تنافر من طرح قضية العلمانية في مجتمع إسلامي، فالعلمانية تعني فض الإشتباك بين السلطتين الزمنية والروحية ، وفض الإشتباك ينجم عنه تخليص الدين من هيمنة الدولة ، عدم قيام سلطة استبدادية باسم الدين بتخليص الدولة من هيمنة رجال الدين. و يضيف درار ” بهذا تتبنى الدولة الحياد الإيجابي بين جميع الأطراف من اصحاب العقائد و الأديان، و لا ننسى أنه في التجارب العلمانية التحمت تجارب الشعوب لمصلحة الإنسان ضد الطغيان حيثما حل، و من أي جهة جاء و فيها مبادئ هي صلب قضية الإسلام :

1- حرية المعتقد و الإختيار يقابها ( لا إكراه في الدين )

2- حرية التعبير عن الرأي يقابلها ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)

3- اختلاف القوميات و الثقافات و الأعراف هي سنة من سنن الخلق لأجل التعارف    ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا )

4- المساواة بين الذكر و الانثى و هو أصل في الدين : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بث منها رجالاً كثيراً و نساء )

5- حق الكرامة الإنسانية و صونها أصل في الدين ( ولقد كرمنا بني آدم ) و ليس المسلمون وحدهم.”

و يستخدم سمير الحجاوي نفس المنهجية المسنتدة إلى نظرية المؤامرة غير المثبتة، فيتهم المجلس العسكري المصري مثلاً و يكتب تحت عنوان “الثورة المصرية و فخ العسكر”:

“الجنرالات المصريون في المجلس الأعلى للقوات المسلحة أو ما يطلق عليه اختصاراً المجلس العسكري يراوغون و ينصبون الفخاخ للشعب المصري و قواه الثائرة للبقاء في السلطة على الرغم من إعلان المشير حسين طنطاوي أن العسكر زاهدون في السلطة.هذه المراوغة تكشفها فقرة في خطاب الطنطاوي الأخير قال فيها: إن القوات المسلحة ممثلة في المجلس الأعلى لا تطمح في الحكم و أنها على استعداد تام لتسليم المسؤولية فوراً و العودة إلى مهمتها الأصلية في حماية الوطن إذا أراد الشعب ذلك من خلال استفتاء شعبي إذا اقتضت الضرورة ذلك..و هو هنا يشير إلى أن العودة للثكنات ستكون عبر استفتاء، مما يعني وضع لغم يمكن تفجيره في اي لحظة لإيجاد مبرر للبقاء في السلطة.”

لا أدري لماذا علينا أن نفهم من كلام المشير ما توصل إليه سمير الحجاوي في الوقت الذي أتى فيه الكلام واضحاً يتضمن الإيجاب أكثر بكثير من السلبية.

و على جميع الأحوال، لنقارب الأن بنفس منهجية الكاتب و نتائجة و نضعها في دولة مثل مصر فنجد:

العسكرمراوغون و ينصبون الفخاخ
العلمانيون الليبراليون الفلول (يساقون بعصا واحدة)عملاء للإستعمار و ينصبون الفخاخ للإسلاميين

فنقصي بذلك على كل من كان في الميدان و كل من حماهم من الديكتاتور باستثناء من كان منهم “إسلامي” ثم نقول أن الأخرين لا يحترمون قواعد اللعبة الديمقراطية و نحن نحترمها. ذلك مع اعتراف من الكاتب بأن الإسلاميون أتوا للميدان متأخرين و أن بعضهم فاوض النظام في الوقت الذي أراد الشعب إسقاطه.

من يعرف الكاتب سمير حجاوي شخصياً لا يستطيع أن ينكر عليه إيمانه بالديمقراطية و التعددية و احترام الآخر و حريته..و لكنني أعتقد جازماً أنه وقع في خطأ منهجي في مقارباته لما أطلق عليه “ثالوث الشر” مقابل الإسلاميين و هذه المنهجية الغير دقيقة أوصلت إلى نتائج خاطئة على الكاتب ان يراجعها و ينظر في دلائل صحتها. و هذا ما يثبته أن يكتب نفس الكاتب في ” آلهة من ورق ”  تحت عنوان “الإسلاميون و تحديات السلطة” مطالباً الإسلاميين

 “باحترام حقيقة أنهم يقطفون ثمار الثورات التي قامت بها الشعوب، دون عون هذه التيارات الإسلامية، و دون تحرك فاعل لم يأت إلا في وقت متأخر.”

المحور الثالث: المعجزة الإلهية

إن الكاتب قدم في مواضع مختلفة من الكتاب أسباب للثورات، وكنا قد درسناها بالتفصيل في المحور الأول، ولكنه يقدم الثورات بشكل مختلف تماماً في المقالة ذات العنوان “ماذا نقول لربنا” و يكتب ما يلي:

 “تعلمنا في الجامعات أن لا نذكر الله عندما نحلل السياسة لكي نحافظ على ما يسمى بالموضوعية، و لكن هل يمكن تفسير ما يجري في العالم العربي إلا بالمعجزة التي حدثت عندما ثارت الشعوب و حطمت الأصنام و خلعت من كانوا يعتبرون أنفسهم مخلدين للأبد، إنها معجزة إلهية، إنها إرادة الله التي أشعلها ذلك التونسي محمد البوعزيزي في سيدي بوزيد، حتى بت أشك أن البوعزيزي من الاولياء و القديسين..فكيف استطاع ان يفجر كل هذا الغضب و ينفث كل هذه النار في صدور العرب.”

إذاً تمرد الكاتب على “ما يسمى بالموضوعية” ليتوصل إلى أن الثورات معجزة إلهية، وليرى الحقيقة في زاوية أخرى سنناقشها فيما يلي:

  إن كلمة معجزة لغوياً تعني :

  1. الأعمال المثيرة للعقل و التي جاء اختراعها مثيراً للدهشة فالحوسيب الإلكترونية معجزة من معجزات القرن العشرين.
  2. أمر خارق للعادة غير مألوف حدوثه أو رؤيته
  3. أمر نادر الحدوث يعجز الإنسان العادي عن الإتيان بمثله ( اختراق الفضاء إحدى معجزات القرن) و بهذا المعنى تأتي على يد أناس غير عاديين من حيث المعرفة و العلم و الإضطلاع. ( قاموس المعاني )

نجد أن المعاني اللغوية تشترك بوصف المعجزة “بالحدث غير العادي ” و لكن هل كانت الثورات العربية فعلاً حدثاً غير عادياً؟

إن المفاجئة التي شكلتها الثورات للمتابعين و المحللين و الباحثين و حتى لأجهزة الإستخبارات لا يجعل منها أمر غير عادي، بل أمر لم يتم التنبؤ بحدوثه، ربما بسبب ضعف مراكز الدراسات المحلية العارفة بتفاصيل هذا المجتمع و افتقارها للوسط و التمويل اللازمين في ظل الأنظمة البائدة، و كذلك رؤية الأجانب للوضع من منظور الغريب الذي لم يهتدي لمعرفة سيكولوجيا الإنسان العربي المقهور ضمن محيطه و ثقافته، وبالتالي لم يستطع التنبؤ بالتغيرات التي حدثت مع التبديل في السلوك الجمعي والفردي.

لو عدنا لفرضية أن الإنسان العربي اقام تسوية مفادها الرضى بالبؤس ونقص الكرامة و الحريات أمام الأمن، وأنه مع قتل البوعزيزي لنفسه انكسرت هذه التسوية لأن البؤس ونقص الكرامة و نقص الحريات بحد ذاتهم أصبحوا يهددون الأمن. فلنا أن نقول:  إن المجتمع قد أوجد الثورة من رحم البؤس و الإغتراب، و صلَّح نفسه تلقائياً و كأنها و ظيفة مناعية تقتضي قيام ثورة كرد فعل طبيعي للقضاء على البؤس ، فالثورة في بلاد الربيع العربي هي استحقاق تاريخي ومنظومة شفاء اجتماعي تلقائي تجدد المجتمعات بموحبها نفسها عندما تتجاوز المعاناة الحدود المسموحة ضمن ثقافة تلك الشعوب و تاريخها و فهمها للحياة، وستفرز معطيات جديدة تؤدي لنقلة تاريخية نوعية على طريق الرفاهية و بناء الوطن و الإنسان. 

و بهذا المعنى فإن الثورة ليست معجزة ولا يمكن أن يكون نظام الشفاء الذاتي في المجتمعات معجزة و أمر غير عادي بل هو ظاهرة طبيعيه و استحقاق تاريخي.

( راجع مقالة “الربيع العربي و الإغتراب..مقاربة تحليلية” المرفقة مع هذه الدراسة)

ننظر الأن في المعنى الديني للمعجزة، فنجد أنها أمر خارق للعادة يظهره الله على يد نبي تأييداً لنبوته و لا يستطيع الناس العاديون القيام به أو حتى من لديهم مهارات عليا من الناس فهي معجزة من صنع الله، كمعجزة القرآن الكريم الذي لا يستطيع أي نوع من البشر الإتيان بمثله، أو معجزة عصا موسى عليه السلام، وإسراء و معراج النبي محمد (ص).

و هذه “معجزات إلهية”.

يرى الزرقاني المعجزة في كتابه “مناهل العرفان في علوم القرآن” أنها ” أمر خارق للعادة يعجز البشر متفرقين و مجتمعين عن الإتيان بمثله”

و بعد هذا التقديم لمفهوم المعجزة الديني نسأل هل من الصواب وصف ثورات الربيع العربي “بالمعجزة الإلهية”؟

إن هذا و بلا شك يفتقر للصحة، نحن إذ نصف الثورات هكذا فإننا نساويها بمعجزة القرآن و شق موسى علية السلام للبحر وإسراء ومعراج النبي محمد (ص) وبهذا خطأ واضح.

لا نصادر على أنفسنا وعلى الكاتب الإيمان والقول بأن الله تعالى قد وفق الشعب في ثورته و نصر المظلومين على الطغاة واستجاب لدعوات الثكالى والفقراء.أما أن نصف الثورة بالمعجزة الإلهية فذلك يحمل جانباً كبيراً من المبالغة في الوصف و يفتقر للدقة في المعنى.

أما في ما ساور الكاتب من شك بأن البوعزيزي من “الأولياء و القديسين”، كان بسبب عدم بحثه عن السؤال الذي تبادر إلى ذهنه و هو: كيف استطاع البوعزيزي أن يفجر هذا الغضب و ينفث كل هذه النار من صدور العرب؟

لم يبحث الحجاوي عن الإجابة بالإستناد للعلوم فكان اسهل طريق هو بأن يقول “أراد الله ذلك و لهذا تم” و هذه الجملة، بالرغم من صحتها، فإنما هي جواب سهل لأي سؤال سببي، ولا تتناسب مع طرق البحث السليم و الموضوعي للوصول للأسباب التي تستخدم لنتائج أفضل، و ليس في هذا أي عيب ديني أو اخلاقي.

نعود الأن لنبحث في شك الحجاوي بأن البوعزيزي كان “ولياً و قديساً” لنبين فيما يلي أن هذا الشك لا معنى له و لا مبرر له، و فيه الكثير من المغالطة و الخلط في المفاهيم، و لهذا نقف عند مفهوم الولي فنجد:

يعرف القاشاني الولي بأنه: من تولى الله أمره و حفظه من العصيان و لم  يخله ونفسه بالخذلان، حتى يبلغه في الكمال مبلغ الرجال، قال الله سبحانه وتعالى: “وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ“(سورة الأعراف ، آية 196)

أما عند الجرحاني فالولاية هي من الولى بمعنى القرب، فهي القرابة الحكمية الحاصلة من العتق أو من الموالاة.

أما الولي فيعرفه قائلاً: فعيل بمعنى الفاعل، وهو من توالت طاعته من غير أن يتخللها عصيان، أو بمعنى المفعول، فهو من يتوالى عليه إحسان الله وأفضاله، والولي هو العارف بالله وصفاته، بحسب ما يمكن، المواظب على الطاعات المجتنب للمعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات (الجرحاني التعريفات).

يقول ابن حجر في فتح الباري: الولي هو العالم بالله تعالى المواظب على طاعته، المخلص في عبادته، و يدل على ذلك بقوله تعالى:” أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ . لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ” ( سورة يونس، الآيات 62-64)

يقول ابن كثير في تفسيرها : ” يخبر الله تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما فسرها ربهم، فكل من كان تقيًّا كان لله وليًّا… “

بعد هذا التقديم نعود لشكوك الحجاوي في ان البوعزيزي كان ولياً.

إن الحجاوي يبرر شكه هذا بالسؤال حول كيفية “استطاعة البوعزيزي أن يفجر كل هذا الغضب و ينفث كل هذه النار من صدور العرب”

 و من فهم معنى الولي فيما سبق نجد انه ليس هناك مبرر منطقي لنربط بين استجابة الناس لموت البوعزيزي و بين أنه ربما يكون ولي.. ثم لنتسائل هنا هل يمكن للولي البعيد عن المعصية أن يقدم على الإنتحار؟

إذاً: إن هذا إسقاط تعسفي و إن الشك بان البوعزيزي ولياً ليس له ما يبرره أو يثبت صحته، و هذا لا يتعدى حدود أن يكون كلاماً لا معنى له.

كان الأحرى بالحجاوي أن يذهب إلى الأسباب الموضوعية للثورة، التي يدرك هو ماهيتها و قدم الكثير منها في هذا الكتاب، بدل الذهاب الى التفسير بالمعجزات الإلهية والوقوع في مطب الخطأ الفكري و الديني.

كان الأجدر أن يذهب لعلم الإجتماع ليرى لماذا حرك موت البوعزيزي الثورة و شكل الشرارة لها، بدل القول أن هذا لأن البوعزيزي ربما يكون “ولياً أو قديساً”.

المحور الثالث: مفهوم الحرية

تثير مقالة ” الإعتداء على الله ” في ” آلهة من ورق ” سؤال مهم جداً يتعلق بطريقة فهم الإنسان العربي الثائر للحرية، وهو الذي نادى بها في ميادين الثورة، و هل ستنتج الثورات فعلاً حرية حقيقية للإنسان العربي؟

يثير الحجاوي هنا موضوع المخرجة التونسية نادية الفاني صاحبة فيلم “لا ربي لا سيدي” المثير للجدل و يشن هجوماً عليها ضمن المقال.

لن أتناول هنا موضوع هذا الفيلم أو قبوله من عدمه أو مدى صحة أو خطأ ما قامت به الفاني، و لكني سأستغل مقالة الحجاوي لتناول اتجاهين فكريين ينطلق كل منهما من منطلق الحرية كمثال من اهم المُثل و يذهب كل منهما بفهم مختلف:

ففي الطرف الأول يرى معارضو الفيلم و منهم كاتبنا أنه “لا يجوز الإعتداء على المقدسات و التجذيف ضد الله باسم الحرية.” و أن عرض الفيلم استفزازاً للشعب التونسي المسلم المؤمن من شخصية أعلنت إلحادها و عدم ايمانها بالله. و يطالب الكاتب في نفس المقالة بمحاكمتها و ليس تكريمها و ذهب البعض إلى أبعد من ذلك ووصفها “بالخنزيرة الصلعة الملحدة”.

و بالمقابل ففي الطرف الثاني فإن الفاني تدافع عن نفسها بالقول أنها ملحدة و تقول أن هذا شأنها كما هو التدين شأنهم. وأن حرية التعبير يجب ان تكون مصانة و تحت حرية التعبير هي تفعل ما تفعل.

إذا تناولنا هذان الموقفان تناولاً موضوعياً و بشكلهما المجرد نجد: إن كل من الطرفين قد استند لمفهوم من مفاهيم الحرية، وهو محق فيه من وجهة نظره، وحسب فهمه للحرية، فمفهوم الحرية بربطها بالمطلق وهو الله سبحانه وتعالى هو مفهوم متأصل في مجتمعنا العربي، أو كما يحلو لعبدلله العروي تسميتها “طوبى الحرية” و الحرية بهذا المفهوم هي الإتفاق مع ما يوحي به الشرع و العقل.(راجع مفهوم الحرية –عبدالله العروي)

و أما الطرف الأخر المستند إلى الحرية الليبرالية التي هي منظومة فكرية تحمل في عنوانها كلمة الحرية. فتعتبر الحرية المبدأ و المنتهى ، الباعث والهدف، والأصل والنتيجة في حياة الإنسان ولا تطمع لشيئ سوى وصف النشاط الإنساني الحر وحماية الفرد من المجتمع.

وربما نفهما في قول ستيورات ميل ” يجب أن ننظر إلى المعتقدات كأنها تحد موجه لجميع الناس لكي يبرهنوا على فسادها”

و يقول طواكفيل أحد أقطاب ليبرالية القرن التاسع عشر: أن معنى الحرية الصحيح هو أن كل إنسان نفترض فيه أنه خلق عاقلاً يستطيع حسن التصرف، يملك حقاً لا يقبل التفويت في أن يعيش مستقلاً عن الأخرين في كل ما يتعلق بذاته و أن ينظم كما يشاء حياته الخاصة.

و يرى العروي أن الحرية الليبرالية بالمعنى الدقيق هي أدلوحة حرية أو دعوة إلى الحرية و لا تحمل نظرية الحرية.

نعود إلى “الإعتداء على الله” و لقطبي النزاع الفكري، وربما يحق لنا أن نراهما بشكل شخصيتين اعتباريتين الأولى الحجاوي الذي يمثل مفهوم الحرية الديني الإسلامي و الفاني بوصفها ممثلة للتيار الليبرالي. و لفهم سلوك الطرفين لا بد من العودة للعروي في أنه “كلما ضاق مجال الحرية كواقع معاش ازدادت قوة و دقة كرمز و مفهوم”

و نجد أن الشخصيتين في زمن وسط الأن من حيث بدأت الحريات تتحسن مع انتهاء الثورة التونسية كواقع معاش و ربما من الطبيعي أن يحل النسق الليبرالي في الممارسة بعد الحرمان، بالإضافة لإرث من الضيق في ممارسة الحرية كواقع، وقوة في الرمز و المفهوم.

و الفترة الزمنية لهذا الحوار ( الحجاوي-الفاني) تعطي كلا الطرفين نوعاً من التطرف في الطرح فتأتي الفاني باندفاع ليبرالييّ القرن الثامن العشر و يرد الحجاوي بمفهوم الحرية المرتبطة بالمروءة مع تكريس الفكر الإسلامي، كلاهما يرفعان شعارات تذكرنا بحرية الثورة الفرنسية فلا حرية لأعداء الحرية ولا بد من إجبار الناس على ان يكونوا أحراراً.

و يتأزم هذا الصراع بين زملاء الميدان الذين هتفوا معاً للحرية ليجدوا أنهم، وقد ذهب الإستبداد، مختلفين في معناها، فللحجاوي أن يستشهد بحسن الحنفي: “إن الله هو الحرية..و هو كذلك حتى نكسب نحن حريتنا”

فكيف لي أن أتفاوض في معنى الحرية مع من ينكر وجود الله من الأساس.

و للفاني أن تستشهد بقسطنطين رزق في سياق فهما للحرية بانها عملية تحرر مستمرة:

 “إذا كان جوهر التحضر هو التحرر فإن سبب تخلفنا هو أننا لم نُجِز ما جازته الشعوب التي سبقتنا في هذا المضمار”.

إن هذا الحوار يجب أن يوضع موضع دراسة و بحث، الآن أكثر من أي وقت مضى، ولجميع العرب، ويجب أن يكون تحت عنوان قبول الآخر. وإذا كان تياراً قد استُفِز من ممارسات معينة واستنكر ذلك، وهذا حقه، فإنه بالمقابل ليس عليه ان يكون مهاجماً بل محاوراً وصولاً للفكرة السليمة.

كما يقول الحجاوي :

“العنف أقصر الطرق للخسارة و علينا أن نلاحقهم بوسائل الضغط السلمية و محاصرتهم ثقافياً و عزلهم اجتماعياً وملاحقتهم قانونياً ومتابعتهم في كل المحافل و الوقوف بثبات في وجه كل القوى السياسية و الإقتصادية التي تدعمهم و تؤازرهم و توفر لهم الغطاء”

فإننا إذا نوافق الكاتب في اللاعنف و ما أسماه “وسائل الضغط السلمي” فنجد أن الحصار الثقافي و العزل الإجتماعي ليسا من وسائل الحوار السليم.

و ختاماً أسجل أنني حاولت في كل ما سبق أن أكون موضوعياُ و حيادي، ولم أقحم وجهة نظر أو قناعة شخصية، تاركاً للقارئ أن يحكم، وداعياً لفسح المجال امام حوار فكري لفهم أفضل للحرية.

خاتمة

إن مساهمة سمير حجاوي في ” آلهة من ورق ” مساهمة قيمة في مقاربة الثورات العربية. قدم فيها الكاتب أحداث و سلط الضوء على مفاصل مهمة في تاريخ الثورات العربية، وطرح عدة تساؤلات جوهرية ورافقها ببعض المقاربات و التفسيرات، وإن كان بعضها يعتمد على قدرة القارئ على اكتشافها و ربطها و إعادة تركيبها.

” آلهة من ورق ” غنيٌ في تعدد طروحاته، يحمل عناوين كثيرة وكبيرة في هذه المرحلة من تاريخ العرب .

لم يكن الكتاب اختصاصي بمنحى أو موضوع معين، إنما كُتب بمنطق الصحفي الذي يقدم المعلومات و يترك للقارئ استكشاف المعرفة خلف هذه المعلومات مع إرشادات توجه فكره و تهديه، فكان شيّقاً من حيث الفكرة و الإسلوب. وأرى أن هذا يبرر تعدد المنهجيات و تناول المواضيع بمقاربات مختلفة حسب الهدف من كل مقال على حدى.

تتعدد زوايا النظر لموضوع واحد مع الإنتقال في مقالات الكتاب، الأمر الذي يبدي تأثر الكاتب في أحداث الفترة الزمنية المعينة من عمر الثورات التي كُتبت فيه المقالة، فعلى سبيل المثال: تتعدد زوايا رؤية الكاتب للتدخل الخارجي بين القبول به و التلاقي معه حيناً، وبل إلى حد الذهاب أن الله قد سخره للثوار، ومروراً برفضه أحياناً في فترات لم يشتد فيها القمع في الثورات اللاحقه كسوريا، مع التحفظ و التحذير من خطره و الحذر من الوقوع كطرف في تجارة الحرب بإدارة الرأسماية العالمية.

لا يخفى على قارئ ” آلهة من ورق ” هامش جيد من الموضوعية رغم جوانب التعاطف مع جهات فكرية معينة، فالكاتب كان موضوعياً في نظرته لأحداث البحرين. وإنه إذ أثنى على

جهود قطر كدولة إسلامية مساندة للثورات وتعاطف معها، فلم يفته نقدها في مجال حقوق الإنسان و تحديداً نظام الكفالة.

سمير الحجاوي أبدع في وصف آلهة سقطت، وآلهة متساقطة، وأثبت أنها ” آلهة من ورق “.

“النهاية”

ملحق بالدراسة

الربيع العربي و الإغتراب

مقاربة تحليلية

ليس من الصعب إطلاقاً على المراقب للمجتمع العربي أن يرصد أشكالاً عديدة من الإغتراب و خصوصاً فيما أصبح يسمى اليوم بدول الربيع العربي. و الإغتراب كما يعرفه كارل ماركس هو الظاهرة النفسية الناتجة عن ظروف العمل التي أوجدها المجتمع الرأسمالي و التي لا تعطي العامل الفرصة و الإمكانيات الكافية  لتحقيق الرفاهية الإقتصادية و الإجتماعية التي يسعى من أجلها فيتحول إلى كائن مغترب عن الطبيعة الحقيقية للإنسان طالما أنه لا يحصل على ثمرة جهوده و أتعابه.  و في الحقيقة لقد اخذ الإغتراب مفهوماً أوسع من تأثر الإنسان بعلاقات الإنتاج و النظام الإقتصادي السائد فحسب بل إن للإغتراب أسباباً أخرى أيضاً وربما يبرز ذلك بشكل أوضح في تعريف إيريك فروم للإغتراب بأنه تلك الحالة التي لا يشعر فيها الإنسان بأنه المالك الحقيقي لثرواته بل يشعر بأنه كائن ضعيف و يعتمد كيانه على وجود قوى خارجية لا تمت لذاته بصلة. بينما يذهب سيمن إلى القول بأن الإغتراب هو شعور ينتاب صاحبه فيجعلة غير قادر على تغيير الوضع الإجتماعي الذي يتفاعل معه. و بقراءة للواقع العربي من هذا المنطلق نجد أن أربعين سنة من الإستبداد كانت كفيلة بخلق هذا الكائن العربي الضعيف _وفق مفهوم إيريك فروم_ الذي يعتمد كيانه على إرادة قوى الإستبداد التي تمنحه ما تريد و تمنع عنه ما تريد بل وأكثر من ذلك فإنها تسوق لاستبدادها بشعارات وطنية و قومية برَّاقة و باسم تلك الشعارات تعزز من فرض سيطرتها حتى على العقول و نمط التفكير ناهيك عن لقمة العيش و الوضع الإقتصادي فتخلق إنسان مغترب غير قادر على تغيير الوضع الإجتماعي الذي يتفاعل معه وفق مفهوم سيمن و كذلك هو كائن مغترب عن الطبيعة الحقيقية للإنسان وفق ماركس.

و تجاوبَ الإنسان العربي مع اغترابه بعدة أشكال رسمت جزءً كبيراً من حالتة النفسية و أرى أنها ربما سترسم جزءً كبيراً من تاريخ الشعوب العربية و سأتناول الإغتراب في دول الربيع العربي بالأنواع التالية : 1) اغتراب الفرد 2) اغتراب النُخب 3) اغتراب الجماعات.

أولاً- اغتراب الفرد:  انعكس تجاوب الأفراد مع حالة الإغتراب في ظل الإستبداد بعدة أشكال و لعلَّ أهمها ظاهرتي اليأس و البؤس اللَّتين وسمتا طبيعة الإنسان العربي بشكل عام في دول الربيع. و تَمثلَ البؤس في قناعة الأفراد بصعوبة تحسين ظروفهم المادية بعد اصطدام كل محاولاتهم الفردية لتكوين أنفسم بحقيقة دخلهم المحدود و الحالة الإقتصادية الصعبة عموماً و قلة فرص العمل أو انعدامها أحياناً و بالتالي صعوبة تحقيق الرفاهية التي يحلمون بها. و بالتحليل البسيط يدرك افراد المجتمع كافة أن هذا الوطن محكوم من مستبد و حاشية مقربة منه يسرقون خيراته و يستمتعون بالكثير من ثروته ، وأن الصدام مع هذا المستبد أو مع حاشيتة أو جهازه الأمني سيؤدي إلى الإختفاء في أقبية التعذيب و غياهب السجون و الأدلة عندهم كثيرة جداً.

و بالتالي يرضى الفرد بالبؤس مقابل ضمان أمنه و هذة التسوية توصل إليها الكثير من الأفراد مع ذواتهم ( والتي سنجد أنها ستنهار خلال الثورة) و خصوصاً في ظل غياب عناصر التوعية و النخب الثقافية عن مشهد الحياة ، و مع تسوية كهذه يُفقد الأمل تماماً و بالتالي يكون من السهل تبني أفكار من قبيل “أن الفقر قدر لا مهرب منه” و “أن العذاب مكتوب علينا و لا مهرب من المكتوب” أو أفكار عكسية من قبيل “إن الله قد خذلني” و ربما الإلحاد الكامل ، ولكن في الغالب يصبح الفرد اليائس مستعداً لكل ما هو روحاني و غير دنيوي.    

 ثانياً- اغتراب النُخب الثقافية: لاشك أن الكثير من النخب المثقفة كانت تقاوم الإغتراب بشكل او بآخر و لكن النخبة ككل مجموع لم تكن بمنأًى عن الإغتراب و كانت تعاني البعد عن الطبيعة الحقيقية للسلوك النخبوي فالمجموعة النخبة تماماً كالأفراد كائن ضعيف ، سلوكه و كيانه مرهون برضى المستبد البعيد كل البعد عن فكر تلك النخب و طبعاً  لا نغفل و جود نخب تعمل لخدمة المستبد و لكنها أيضاً تعاني الإغتراب و تقدم ثقافة لا يمكن إلا أن تقع أسيرة تناقضها حتى و لو بعد حين.

لم تستطيع النخب الثقافية أن تخاطب ظاهرتي البؤس و اليأس الآنفتي الذكر عند أفراد المجتمع أمام قمع المستبد الشديد لحرية الكلام و الإنغلاق الفكري المفروض على الوطن عموماً و تكميم الأفواة و مصادرة الأراء الفكرية. فما كان من النخب الفكرية المغتربة إلا أن

أخلت الساحة لنخب دينية تعاني الإغتراب أيضاً و لكن مع مفارقة أن المستبد في بعض الدول _مصر مثلاً_ سمح لتلك النخب الدينية أن تخاطب البؤس بالصدقة و اليأس بالوعد بالجنة و الخلود فيها. و ضمن هذا السيناريو الإجتماعي انطوت النخب الثقافية على نفسها و خاطبت ذاتها دون المجتمع في حالة اغتراب نخبوي أدى إلى زيادة ظهور تيارات كالنوستالجيا مثلاً و هو الذي يتمثل بالحنين للماضي و المفاخرة به و تيارات تَدَّيُن المثقفين و تقمصهم للدين كسلوك يعكس اغتراب المثقف  من خلال “محاولة التوفيق بين المعتقدات الدينية الموروثة و الآراء و المعارف العلمية التي توصل إليها الإنسان”، محاولة التوفيق هذة هي التي يوضحها الدكتور صادق العظم في كتابه “نقد الفكر الديني” و يقسِّم العظم محاولات التوفيق تلك إلى عدة أنواع سأكتفي بذكر ثلاثة منها لتعزز فرضية اغتراب النخبة المثقفة و هي :

 1) توفيق خطابي و هو الذي ينكر أي فجوة بين العلم و الدين لأن “الدين من الله و الله هو الحق كما أسمى نفسه تعالى ، ولا يصدر عن الحق إلا حق ، و ما صح من العلم فهو حق ” و يضيف نفس الكاتب واصفاً هذا النوع من التوفيق بأنه “منطق المجاملات و جبر الخواطر الذي يرضي جميع الأطراف و لايزعج أحداً”  و أرى أن دافع هذا الخطاب في سيكولوجيا النخبة ككل إن صح التعبير إنما هو ناتج عن اغتراب النخبة و بالتالي تفضيل المجاملات و جبر الخواطر _على حد وصف العظم_ على مواجهة أفكار رجعية ربما تفقدهم الأمن الإجتماعي ضمن المجتمع المشبَّع بأفكار رجعية تُرسَخ من قبل الحاكم المستبد.

2) توفيق تبريري : ضمن هذا النوع من التوفيق يقوم المثقف المتدين “بتبرير الأوضاع الإجتماعية و السياسية القائمة مهما كان نوعها على اساس انسجامها التام مع الدين الحنيف و تعاليمه و شرعه” هؤلاء مثقفون جعلهم الإغتراب مرتزقة و هم من سيحاولون امتطاء الثورة لاحقاً بعد انتصارها.

3) التوفيق التعسفي : إنها عملية “إقحام تعسفي و سخيف” لكل كبيرة و صغيرة في العلم الحديث داخل الكتب الدينية و الزعم أنها منذ البدء تحتوي على العلم برمته . و أرى أن هذا النوع من التوفيق مرة أخرى هو تعبير عن يأس النخبة التي تعاني الإغتراب و بالتالي تبحث عن ما هو علمي و دنيوي في الروحاني و السرمدي و ربما يكون ذلك إرضاءً للنفس.

ثالثاً- اغتراب الجماعات: عزز المستبد في دول الربيع العربي الولاءات العشائرية و الدينية و المناطقية و ربما الإثنية أحياناً على حساب تغييب المواطنة و الولاء للوطن معززاً بذلك تكوين مفهوم الجماعات و نمو فكر الأقليات ، و ضمن ذلك المفهوم روج الإستبداد لنفسه بين تلك الجماعات الأقلية على أنه الحامي الوحيد لوجودهم و الضامن لأمنهم و سعى لخلق فجوة بين تلك الجماعات و القوم الأكثرية و هذا لم يقتصر على الجماعات الدينية فحسب _و إن كان لها النصيب الأكبر من هذا المشروع الإستبدادي_ بل أيضاً على الجماعات الإثنية و حتى الفكرية إن وجدت.

و مع تزايد القمع و في ظل هذا الفكر التسويقي للمستبد وجدت هذة الجماعات نفسها في حالة انغلاق فكري و اجتماعي و في حالة عزلة عن المحيط و عن المناخ العام للوطن _و خصوصاً الدينية منها و التي عانت تاريخياً من اضطهاد ممنهج يسهُل استغلاله للقيام بعزلهم اجتماعياً و فكرياً_ و مع الزمن ازداد انطواء تلك المجموعات بحيث أصبحت غريبة عن الطبيعة الحقيقية للمجموعة فيما يمكن تسميته “اغتراب الجماعة” و الذي شكل صورة خطيرة للإغتراب لا تقل خطورة عن اغتراب الأفراد و النخب المثقفة.

و لفهم العلاقة بين مفهمومي الثورة و الإغتراب لا بد من النظر في شرارة الثورة الأولى المتمثلة في موت محمد البوعزيزي في تونس و ذلك وفق الفرضية المتضمنة أن البوعزيزي قبل وفاته كان يعاني من اغتراب حاد (كفرد) و قد وجد نفسه كائن ضعيف مغلوب على أمره و قد حرمه الطغاة أبسط الحقوق و اشتد عليه الإغتراب لدرجة تطور معها إلى مرض نفسي جعله يفقد معنى الحياة و يقرر تركها بصورة احتجاجية و كأنه بهذا السلوك يرسل رسالة مفادها أن المستبد يتحمل المسؤولية الكاملة عما آل إليه حاله.

و نرى أن موت البوعزيزي أدى إلى كسر تسوية “الرضى بالبؤس مقابل الأمن” فلقد ازداد البؤس إلى حد أصبح هو يهدد الأمن و من رحم تلك المعادلة القائمة على البؤس و الإغتراب و الأمن تكونت الثورة على الإستبداد بعد الوصول إلى مرحلة تحطمت فيها تلك التسوية النفسية عند أفراد المجتمع ، و ازداد الإيمان بعدم جدواها مع كل ضحية سقطت أثناء الثورة و ذلك على عكس ما توقع النظام القمعي للإستبداد فالإمعان في القمع هذة المرة يزيد الطين بلةً على المستبد و ليس ككل مرة ، هذا ما فشلت كل أنظمة الربيع العربي الساقطة و المتساقطة في فهمه و قراءتة بالشكل الصحيح فما كان منها إلا أن أوغلت بالقمع الذي لم يزد الثورات إلا إصراراً  ، و هذا ما

اصطلح على تسميته  “كسر حاجز الخوف” وأرى أنة إذا توخينا الدقة فإنه كسر لتلك التسوية النفسية التي بناها الفرد مع نفسه لسنين طويلة والتي تنص على الرضا بالبؤس مقابل الأمن.

هذا ماكان على الصعيد الفردي و أما على الصعيد النخبوي فلقد وجدت النخبة نفسها هذة المرة خلف الشعب و هي من تتلقن الدروس منه بل و كأن الشعب كان بمثابة البوعزيزي الذي جعلها تخرج من انطواءها و تكسر حاجز الخوف و الترهيب و تكسر تسويتها النفسية هي الأخرى اللهم إلا تلك النخب التي تم تدجينها فكرياً في مدرسة الإستبداد و في الغالب هؤلاء في مثل تلك الظروف هم أوراق محروقة و يعيشون وهماً كبيرا.

أما اغتراب الجماعات بعد الثورات فما زال قائماً و لكن الثورات تتقدم أيضاً في علاجه و ربما هذا سيأخذ وقته الكافي وربما يتطلب ثورة فكرية موازية لإسقاط مفاهيم لا تقل استبداداً عن المستبدين الذين سقطوا و يتساقطون، و لإسقاط فكر رجعي زرعه المستبد على مر سنين حكمه الطويلة أدى إلى تغييب المواطنة و عزز الإنطواء و الولاء للمجموعة على حساب الولاء الوطني. و ربما جماعات دينية أقلية كالدروز و الإسماعيليين و المسيحيين في سوريا أو إثنية كالأكراد في ذات البلد تشكل مثالاً واضحاً لاغتراب الجماعة و المُعزز من قبل الإستبداد.

إن أولى طرق العلاج لاغتراب الجماعة تقوم بها الثورة بذاتها إذ تنمي الحس الوطني و تحاول بشتى الوسائل استيعاب تلك الأقليات بالفكر الثوري و ترسل برسائل الطمأنة من خلال شعارات الثورة و أدبياتها التي تؤكد و حدة الجغرافيا و المصير و هذا ما كان حاضراً في الثورة المصرية عندما أدى الأقباط قداس الأحد في ميدان التحرير تحميهم الأكثرية المسلمة أو في الثورة السورية إذ هتفت هتافات من قبيل “الشعب السوري واحد” و “كلنا وحدة وطنية” حتى قبل الهتاف بإسقاط النظام.هذا السلوك الثوري يتيح فهماً أفضل للتسامح الليبرالي و يشكل قاعدة لدمج الجماعات الأقلية في نسيج الوطن الكبير.

إن المجتمع قد أوجد الثورة من رحم البؤس و الإغتراب و صلَّح نفسه تلقائياً و كأنها و ظيفة مناعية تقتضي قيام ثورة كرد فعل طبيعي للقضاء على البؤس ، فالثورة في بلاد الربيع العربي هي استحقاق تاريخي لا بد لها أن تتنتصر حتى و لو بعد حين ، و لا شك أن الظروف الخاصة تتفاوت بين دولة و أخرى و تؤثر في زمن انتصار الثورة و لكنها تشترك بمجموعة عوامل تجعل من الثورة ضرورة ستنتصر في النهاية لتبدأ حقبة جديدة بمعطيات جديدة.

من خلاصة ما تقدم أجد أن الثورة منظومة شفاء اجتماعي تلقائي تجدد المجتمعات _ومنها المجتمعات العربية_ بموحبها نفسها عندما تتجاوز المعاناة الحدود المسموحة ضمن ثقافة تلك الشعوب و تاريخها و فهمها للحياة و ستفرز معطيات جديدة تؤدي لنقلة تاريخية نوعية على طريق الرفاهية و بناء الوطن و الإنسان.   

د. مضر رياض الدبس – كاتب وباحث سوري

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار