الإجرام الإسرائيلي يقبر أحلام 42 عائلة في برج “أنس بن مالك”.. “تحويشة” العمر قُبرت تحت الركام

غزة – يحيى اليعقوبي

يقف بين ما تبقى من حجارة منزله، وبقايا حطام ذكرياته يستحضر صورةَ كل ركن فيه، واضعًا يده على عمود ما زال يسند نفسه بين الركام هو ما تبقى من منزله شاهدا على أحلام وذكريات قبرت. وكأنه جاء بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي على غزة لقراءة الفاتحة عليه،

يبحث العم عماد عابد “أبو علاء” عن فرحته المفقودة وأحلام أبنائه التي تناثرت بين الحجارة وتحتها، وجهه الواجمُ قهرًا يسأل عن الذنب الذي ارتكبته اثنتان وأربعون عائلة، كي تصبحَ في خمس دقائق مشردة بلا مأوى.

يتأمل أبو علاء “عروسا بلاستيكية” كانت طفلته تلهو بها، وقد وجدها ممزقة بين الركام، يقف على أطلال الدمار، يطل الحزن من عينيه واضحًا وضوح الشمس في كبدِ السماء، لم تستطع نظاراته الطبية إخفاء تلك الملامح، ترافق الحسرة نبرات صوته وهو ينظر إلى باب خزانة غرفة نومه بين ركام الحجارة ومفرش سريره ممزقًا، لم يهنأ بالأثاث الجديد الذي اشتراه في العاشر من رمضان، وألبس به البيت حلةً جديدةً.

يحمل غضبهُ ويجول به بين الحطام يضربُ كفيه ببعضهما “مليش عشرين يوم مجهز البيت بعفش جديد، بعد ما سديت آخر قسط الشهر الماضي ولم أبدأ بعد القسط الأول من سداد أثاث البيت”. تنطلق كلمات الغضب من فمه كبندقية تفرغ رصاصاتها بوجه المحتل “الجيش الفاشي فتح لي حسابا جديدا، لأبدأ من الصفر بمديونية جديدة”.

يمسك بقايا الملابس الممزقة تحت الردم، رفعها قبالة وجهه، بلهجة عامية ينطلق صوته كذلك “هي اللي طلعت فيه من الدولة اللي بتدعي الديمقراطية”.

تعب السنين

بعدما كان يجلس العم “أبو علاء”، ببيته منعمًا مكرمًا، الآن ذهب للعيش مع ابنه في بيت للإيجار، يحاول التأقلم على الوضع الذي أجبرهم الاحتلال على العيش فيه مثل بقية سكان برج “أنس بن مالك” الواقع بشارع اليرموك بمدينة غزة ودمره الاحتلال، يعيش “حياة تشرد” كأدق تعبير لم يجد أفضل منه لوصف حالته.

يمسك “أبو علاء” بأطراف أصابعه عمود بيته المتبقي كأم حانية تلمس طفلها، يختزن صوته حنينًا للمكان، متممًا حكاية حلمه: “يمثل البيت ثمرة خمسة وخمسين عاما، فكل حجر وقطعة أثاث وضعته بحب واستمتعت بشرائها، لأنه البيت الذي اردت الاستقرار فيه بقية حياتي، في المكان الذي اخترته”.

يفرد يديه بالمحيط حوله، تلتف عيناه لكومة الدمار التي يقف عليها يشقُ القهر طريقًا بين قسماتِ وجهه وصوته: “فجأة، تجد نفسك في ثلاث دقائق مشردًا بعد أن يتصل بك ضابط الشاباك الإسرائيلي ويطلب منك بكل وقاحة وتهديد ووعيد إخلاء البيت في غضون خمس دقائق، ويمنعك من إخراج أي شيء وإلا سيقوم بقصفك”.

في ذلك اليوم الذي تلقى “أبو علاء” اتصالاً من ضابط المخابرات الإسرائيلي (في 16 مايو/ أيار 2021م)، وقتها كان يساعد في البحث عن أخت زوجته من عائلة أبو العوف التي أصيبت في مجزرة “شارع الوحدة”، وبينما لم يزل مشهد القصف يتحرك أمام عينيه، يقول: “جئت إلى هنا وكان الجيران قد أخلوا منازلهم (..) وقتها منعني الجيران من دخول المنزل، لأني أفضل الموت داخله على أن أستجيب للتهديد”.

يستند أحمد المدهون، أحد سكان البرج، إلى حائط مقابل الحطام يجلس على مقعد تحت ظلال شجرة هاربًا من شمس الظهيرة، تفرد أغصان الشجرة جناحيها حاجبة الخيوط الصفراء عن الوصول إليه، تشعر بالوجع والقهر يفرض نفسه على ملامح وجهه، والتعب والأرقُ جاثم على عينيه الخضراوين.. يعيش تفاصيل حياة مشردًا فيها هو وعائلته، لا يصدق أن هذا البرج الذي كان يؤوي اثنتين وأربعين عائلة وتعج فيه الحياة، هو كومة الحطام والركام أمامه. مشهد مرعب يكتف يديه شاردًا في الفضاء الواسع حوله وكأنه يودع صديقًا عزيزًا، يجثم الحزن على صوته الخافت مستذكرًا لحظة الخروج من المنزل: “أصوات قرع الباب كانت شديدة، فتحت زوجتي الباب وكان أحد الجيران يطلب منا الخروج فورًا، لم أر زوجتي بهذا الذعر حينما أيقظتني من النوم ويكتسح الخوف ملامحها وصوتها: “يلا بدنا نطلع.. بدهم يقصفوا الدار”.

في تلك اللحظة لم يفرك زوجها عينيه، ولم يطرح عليها أي سؤال، مباشرة نهض من سريره مثل لاعب رياضي، أمسك حقيبتين ممتلئتين بالأوراق المهمة جهزهما لأي طارئ وخرج من المنزل مع عائلته، بلا أثاث أو أغراض، وبعد عدة محاولات عثر على بيت في الإيجار. لو أن أحد المفكرين النفسيين استطاع اختراع مقياس للقهر مثل مقاييس الزلازل كنت ستصف حجم القهر المدفون بداخل ملامحه، “حينما ترى قصف بيتك أمام عينيك، ترى “تحويشة” عمرك، فماذا سيخرج موظف من الدنيا سوى ببيت وسيارة؟ كل تفصيل في البيت فيه قصة وذكرى، حينما أحضرت تلك القطعة أو عدلتها”.

“الآن تعود أعواما للوراء، ومن ناحية معنوية تفتقد أقل الأشياء والتفاصيل، ولكي تتعافى نفسيًا من ذلك تحتاج لشهور أو سنين، لترتب حياتك من الصفر”.. كانت تعابيره هنا خارجة عن إمكانية الوصف، فقد امتزجت بها كومة مشاعر وتجمعت فيها كل خصال الألم.

باب يطل على فراغ أمام العمارة يشير جاره باسم الخضري بإصبعه نحو باب منزله الذي بقي من شقته المدمرة التي انهارت بفعل القصف مع باقي الشقق، أصبح هذا الباب يطل على فراغ وهواء وركام بعدما كان مدخلا لبيت جميل وادخار عمرٍ جمع بين جدرانه أحلام عائلته.

أطلق ضحكة في الهواء ممزوجةً بمرارة الواقع الذي فرضه عليه “كما ترى لم يبقَ سوى ذلك البيت من ذكريات وصور وحياة جميلة (..) كنا آمنين نائمين في بيوتنا، ثم فجأة بدأ الجيران بالصراخ والنزول والخروج من البرج، وكأنها لحظة وداع كان مثل يوم القيامة الجميع كان ينفد بروحه.. والحمد لله ربنا يصبرنا على ما أصابنا”. بوداع قسري غادرت تلك العائلات البرج المكون من ثلاث عمارات متلاصقة، وشاهدوه يدمر أمام أعينهم، خرجوا والدموع تنزل من عيونهم مثل جرح غائر لا يتوقف، بلا ملابس ولا أي شيء سوى حقائب تضم أوراقا ومستندات مهمة، بعضهم ذهب لمراكز النزوح، وعاشوا تفاصيل الحرب هكذا، وبعضهم ذهب لأقاربهم، والآن ينتظرون أملا بإعادة إعماره ورد فرحتهم من جديد، وحتى يتم الإعمار يدرك هؤلاء السكان أن عليهم عيش حياة صعبة سيفتقرون فيها لأقل الأشياء التي كانت تتوفر بسخاء في شققهم المدمرة، ليحطم الاحتلال الإسرائيلي أحلام 42 أسرة بلمح البصر.

فلسطين أون لاين

Comments (0)
Add Comment