فخري صالح وجوهر تحديات النقد العربي هنا والآن

إدريس الخضراوي

 لا شكّ في أن الناقد الفلسطيني فخري صالح يعدّ من بين النقاد العرب الذين أسهموا بأعمالهم النقدية في تجديد النقد الأدبي العربي المعاصر، وتطوير أدواته وافتراضاته النقدية والمنهجية. ولعل ما يعطيه هذه المكانة في الحقل الثقافي العربي، هو اتساع ثقافته الغربية واتصاله الوثيق بالأدب العربي المعاصر، ذلك أنه ظلّ منذ ثمانينيات القرن الماضي متابعًا لتجاربه القوية في الشعر والرواية والقصة والمسرح. ومن المؤكد أن عمق الاهتمام الذي يوليه للأدب العربي المعاصر وقضاياه الفنية والموضوعية، لا يناظره من حيث التأثير في الحياة الأدبية سوى اهتمامه بالنظريات والإبدالات النقدية الإنسانية، وتمثّله لرصيدها ومكتسباتها من أجل تجديد النقد الأدبي، وقدرته على الإنصات للنصوص، والكشف عن تداخلاتها في مسعى للإضاءة على جوانب متعددة من العلائق المترابطة بين الأدب والمجتمع. ولعلّ ما يسترعي الانتباه في المنجز النقدي لفخري صالح، هو أن اهتمامه بالأدب العربي المعاصر لم يقتصر على التفكير في الأجناس الأدبية الحديثة، كالقصيدة المعاصرة والقصة القصيرة والرواية والمسرح، بل تجاوز ذلك إلى الانشغال بقضايا النقد وإشكالياته النظرية والمنهجية، بما في ذلك أيضًا موقعه ضمن حقل نظرية الأدب، وعلاقة ذلك كلّه بالأسئلة التي يطرحها الحقل الثقافي والاجتماعي. في هذا السياق، أصدر فخري صالح العديد من الكتب التي لم تعلن عن اختياراته النقدية وحسب، بل باتت تمثّل مرجعًا مهمًا للبحث في الشعر والقصة والرواية والنقد. ومن بين مؤلفاته: “في الرواية الفلسطينية” (1985)، “أرض الاحتمالات: من النص المغلق إلى النص المفتوح في السرد العربي المعاصر” (1988)، “وهم البدايات: الخطاب الروائي في الأردن” (1993)، “شعرية التفاصيل: أثر ريتسوس في الشعر العربي المعاصر” (1998)، “دفاعا عن إدوارد سعيد” (2000)، “قبل نجيب محفوظ وبعده: دراسات في الرواية العربية” (2010)، “محمود درويش: على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة (اختيار وتقديم)” (2021). كما ترجم مجموعة من النصوص الأساسية في حقل نظرية الأدب منها: “النقد والإيديولوجية” لتيري إيجلتون (1992)، “النقد والمجتمع” لمجموعة من النقاد (1995)، “ميخائيل باختين: المبدأ الحواري” (1992) لتودوروف، “موت الناقد” لرونان مكدونالد (2014).

“لم يقتصر صالح بالتفكير في الأجناس الأدبية الحديثة، بل تجاوز ذلك إلى الانشغال بقضايا النقد وإشكالياته النظرية والمنهجية وموقعه ضمن حقل نظرية الأدب، وعلاقة ذلك بالأسئلة التي يطرحها الحقل الثقافي والاجتماعي”

ولما كان صالح يتميّز بأنّ له منظورًا حول النقد العربي المعاصر يمسك بأدق إشكالياته المنهجية والنقدية، فإننا، ومن أجل تقريب القارئ من وعيه النّقدي وأهمّ ما يمنحه هذا الوعي من خلاصات دقيقة يمكن الإفادة منها للتفكير في النقد وعلائقه بالإبداع العربي المعاصر، نقترح التفكير في أهم الجوانب ذات الصلة باهتماماته البحثية والنقدية بالاستفادة من آرائه وتقصّياته التي تنطوي على فهم عميق ومتجدد بالخطاب النقدي العربي المعاصر، وذلك انطلاقًا من محورين أساسين، يتصل أولهما بالاتجاهات النقدية المؤثرة في حقل النقد الأدبي المعاصر، خاصّة تلك التي تكونت ضمن أفق ما بعد الحداثة كالدراسات الثقافية والنقد الثقافي ونظرية ما بعد الاستعمار، واستطاعت أن تفتح أمام النقد الأدبي في جغرافيات مختلفة منافذ إلى مسارات جديدة في القراءة والتأويل، بالإضافة إلى علاقة النقد العربي بالعلوم الإنسانية، وكيفيات الاستفادة منها في الارتقاء بالمعرفة عن الأدب إلى أفق الإنتاجية، أما المحور الثاني فيحيل على ترجمة النظرية الأدبية التي قدّم فيها إنجازًا مهمًا، وهو ما تشهد عليه أعمال أساسية في النظرية الأدبية، صدرت له في ترجمة إلى اللغة العربية.



عن نقد النقد والعلاقة بالغرب

لا شكّ في أن المتتبع للنقد العربي المعاصر، يستطيع أن يُلاحظ أن آفاق التغيير التي يرتادها يؤدي فيها التفاعل مع التيارات والاتجاهات النقدية الإنسانية دورًا مؤثرًا، ولعل ما يعزّز هذا الأمر، ليس فقط المناهج النقدية الحديثة التي اشتغل بها النقاد العرب منذ روحي الخالدي إلى يومنا هذا، وإنما أيضًا الأعمال والدراسات التي ما انفكّ أصحابها ضمن منظور نقد النقد، يسائلون ما يترتب على هذه العلاقة من مشكلات وتحديات، ويستكشفون وقعها على النقد العربي سواء أكان ذلك على مستوى المصطلح، أم درجات التمثل، أم على مستوى الإجراء النقدي. ومن المؤكد أن السجال الذي دار خلال حقبة التسعينيات من القرن الماضي، يظهر مدى الاختلاف الذي وصلت إليه مواقف النقاد بصدد هذه العلاقة؛ بين من يقول بضرورة بناء نظرية نقدية عربية، وبين من يذهب مذهبًا مغايرًا بالتأكيد على كون النظرية في هذا العصر باتت إنسانية وعابرة للثقافات والحدود إلى الحدّ الذي لم يعد معه في الإمكان نسبة منجزها إلى أي ثقافة قومية بعينها. وفي هذا السياق، من المؤكد أن لفخري صالح رؤية خاصّة، ذلك أنه إذا كان يشدّد على أهمية التعدّد والتنوع الذي يسم مناهج النقد المعاصر، ومن مترتبات ذلك الإمكانيات المتعددة في القراءة والتأويل التي تجد سندها بالأساس في طبيعة الأدب الذي تبنيه العديد من الخطابات والنصوص الأخرى، فإنه في دفاعه عن المثاقفة لا يتعالى على الإشكاليات والتحديات الكبيرة التي تعترض النقد العربي في علاقته بمناهج النقد الغربية، ومنها تحدّي “التبعية الثقافية”.

“يظهر السجال مدى الاختلاف الذي وصلت إليه مواقف النقاد بصدد هذه العلاقة؛ بين من يقول بضرورة بناء نظرية نقدية عربية، وبين من يذهب مذهبًا مغايرًا بالتأكيد على كون النظرية باتت إنسانية وعابرة للثقافات والحدود”

في هذا السياق يقول صالح: “لا شك في أن هذه الوفرة من المناهج والتيارات النقدية، التي أثّرت وما زالت تؤثر، هي عاملٌ إيجابي في إثراء المشهد النقدي العربي الذي فيه بعض العلامات المضيئة التي تجعله جزءًا من التحولات النقدية في العالم، خصوصًا في أوروبا وأميركا الشمالية. فنحن ندور في فلك المدرستين النقديتين: الفرنسية، والأنجلو – أميركية، ولا نتفاعل إلا قليلًا جدًا مع ما يصدر في بلدان كالهند أو الصين أو اليابان، لأسباب تاريخية تتصل بهيمنة النموذج الغربي، كما تتصل بكون بلداننا العربية كانت، وأحيانًا لفترات زمنية طويلة، محتلة من قبل الكولونياليات الأوروبية، وخصوصًا الاستعمارين البريطاني والفرنسي. وهو ما جعل تبعيتنا الثقافية للغرب محكومة بعاملي الانبهار والتبعية، من جهة، والصراع والرفض والمقاومة من جهة أخرى. إن علاقتنا بالغرب إشكالية، وهي تنسحب على النقد والنظرية، كما تنسحب على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للعرب في الوقت الراهن. وبغض النظر عن العوامل المثرية في هذا التفاعل بيننا والغرب، إلا أن الإشكالية الأساسية التي تنوء بثقلها على المشهد النقدي العربي المعاصر تتمثّل في تحول معظم النقاد العرب، وخصوصًا من يدرِّسون في أقسام الأدب منهم، إلى مجرد نقلة منبهرين بكل ما ينتجه الغرب من نظريات، وتقليعات نظرية، واللهاث الدائم وراء كل جديد هناك، حتى أن بعض النقاد يغيّرون مناهجهم النقدية كما يغيّرون ملابسهم. ولا بد من أن نقرَّ بأن هذا التقليد الببغاوي لا ينتج معرفة نقدية، لا ينتج علمًا، أو يطور معرفتنا بالنصوص العربية المعاصرة، أو تلك الآتية من التراث، ولا يضيف أي جديد إلى الكتابة النقدية العربية”.

يقول مؤلف “أرض الاحتمالات”: “لست ممّن يدّعون إلى إنتاج نظرية نقدية عربية، كما شاع في بعض الكتابات النقدية العربية في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين؛ كما أنني لا أؤمن بالعودة إلى نظريات التراث نستمد منها رؤى تكشف لنا عما يكتبه معاصرونا. لست من أنصار القطع مع الغرب، لأسباب تتصل بالماضي الاستعماري والمركزية الغربية، ولست ممن يقدّسون التراث ويظنون أن لدينا ميراثًا نقديًا يضيء لنا عتمة الطريق. هذان الموقفان المتفاصلان يغفلان عن التراكم النقدي، وما يرفده من فلسفة ومعارف وعلوم إنسانية، عبر العصور، وفي أحضان ثقافات ولغات متعددة، ومن ضمنها الثقافة واللغة العربيان. لكن النظرية بنت شرطها التاريخي، وهي لذلك تبالغ أحيانًا، وتشدّد على عناصر محدّدة دون عناصر أخرى؛ تحتفل بالعنصر الشكلي في الأدب، مشيحةً البصر عن الشرط التاريخي الثقافي لإنتاج النصوص، أو أنها تقلّل من أهمية العنصر الشكلي وأدبية الأدب لصالح قراءة أشكال الهيمنة والتحيز، والتمييز العنصري أو الإثني أو الجندري، والاستبعاد والإقصاء في النصوص الأدبية. ولا يمكن، انطلاقًا من هذا، إغفال تاريخية النظرية وارتباطها بالشروط السياسية والاجتماعية والثقافية التي أنتجتها. لكن معظم المشهد النقدي العربي يتعامل مع النظريات بوصفها حقائق ثابتة، صالحة لكل زمان ومكان، وهذا غير صحيح لأن البارادايم المعرفي والنقدي يتغير عبر الحقب والمراحل والعصور. فالنموذج التفسيري الذي نُخضع له الظواهر ذو شروط تاريخية؛ في العلوم الإنسانية، كما في العلوم الرياضية والطبيعية.والحق أننا لو نحن أمعنا النظر في هذا التشخيص الدقيق للنقد لوجدنا أن فخري صالح عندما يكشف عن الإشكاليات التي تعتري خطاب النقد العربي المعاصر مما يجعله غير قادر على مواكبة التطور الذي يعرفه الأدب العربي، أو تجديد المعرفة بمنجزه، فإنه لا يستند في ذلك إلى رؤية للنقد أو الثقافة تتسم بالوقوع ضمن دائرة النسق المغلق، كما أنه لا يتقصّد من ذلك الدعوة إلى نظرية نقدية عربية، كما يقول بذلك بعض النقاد، بل هو يعتبر المثاقفة عاملًا أساسيًا وحيويًا للارتقاء بالنقد، عندما تتأسس المثاقفة على معرفة عميقة بواقع الثقافة العربية، وبالشروط التي ينتج في إطارها الأدب العربي المعاصر.

“في دفاعه عن المثاقفة لا يتعالى صالح على الإشكاليات والتحديات الكبيرة التي تعترض النقد العربي في علاقته بمناهج النقد الغربية، ومنها تحدّي “التبعية الثقافية””

ومن هنا، على الناقد، والباحث في العلوم الإنسانية، أن يختار ما يناسب موضوعه، وما يكشف عن هذا الموضوع من الداخل والخارج، وما يثري معرفته بهذا الموضوع. أما أن يظل الناقد أسير المقولات النظرية والتطبيقات، التي يستعيرها من هذا الناقد الغربي أو ذاك، فهذا هو ما أدى إلى الفقر الشديد، إن لم نقل الضحالة، الذي يسم المنجز النقدي العربي خلال العقدين أو الثلاثة الماضيين. لقد كان هناك نوع من انفجار المعرفة النقدية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وقد نقل عدد من النقاد العرب الذين اطلعوا على العديد من التيارات النقدية الأساسية، البنيوية أو ما بعد البنيوية، أو حتى تيارات التاريخانية، والمظاهر الجنينية الأولى للدراسات الثقافية ونقد ما بعد الكولونيالية، هذه المعرفة إلى زملائهم من النقاد العرب، وإلى طلبتهم كذلك. لكننا الآن نشهد نقلًا وتلخيصًا وتقميشًا، وقفزًا من تيار نظري إلى آخر، دون أن نتحصَّل على معرفة جديدة بالموضوعات أو النصوص التي نكتب حولها. والكتابة لجمهور أوسع من القراء، من غير المتخصصين أو الأكاديميين، لا تعني التبسيط، أو كتابةً تشيح ببصرها عما تراكم من معرفة نقدية ونظرية، في مجال الادب، كما في الفلسفة والعلوم الإنسانية، ونظريات الاستقبال، والعلوم الاتصالية، وحتى علوم الأعصاب. بل إنه يعني أن علينا أن لا نسجن أنفسنا في إطار لغة اصطلاحية مغلقة، لا تعرفها إلا قلة مخصوصة من المطلعين، وأن نسعى إلى نشر المعرفة وتوصيلها إلى جميع الراغبين في هذه المعرفة. هذه هي أهمية ما سميته مرة “النقد التنويري” بالمعنى المعرفي، والسياسي والاجتماعي”. 

 لماذا تراجع دور الناقد الأدبي

في عالمنا المعاصر؟

إذا تأملنا حقل النظرية الأدبية منذ سبعينيات القرن الماضي، لوجدنا أن الكتب التي ظهرت خلال العقود الأربعة الماضية، يغلب عليها التوجّه نحو وضع الأدب موضع مساءلة شديدة، لا تقتصر على سؤال ما الأدب؟ بل تتجاوز ذلك إلى مراجعة الوظيفة التي ينهض بها، وأيضًا الموقع الذي يحتلّه الناقد في الحياة الثقافية والاجتماعية. ويمكن هنا أن نفكّر بنقاد ومنظّرين من طراز سارتر وبارت وإدوارد سعيد وتودوروف وويليام ماركس وأنطوان كومبانيون ورونان ماكدونالد… الذين فكّروا، من مرجعيات مختلفة، في سؤال ما الأدب؟، ولا شكّ أن الأفكار التي تنطوي عليها جهود هؤلاء المنظّرين، تدفع إلى التساؤل عما إذا كان ثمة ما يَستوجبُ طرحها في السياق النقدي العربي المعاصر، خاصّة عندما نستحضر كون سؤال ما الأدب؟ قد لا يشكّل انشغالًا أساسيًا بالنسبة لنقاد آخرين مقارنة بالنص الأدبي الذي يتعيّن، من منظورهم، بوصفه الموضوع الأساس للناقد. وعن هذه المسألة يرى فخري صالح أن هؤلاء النقاد “قد حصَّلوا لنا معرفة بالنصوص، وأدبية الأدب، وشروط إنتاج النصوص، وعلم اجتماع النص، وتاريخانية المعرفة الأدبية، وما زال عددٌ آخر من الباحثين الجادين في العالم يضيفون جديدًا إلى هذه المعرفة. لكن النقد العربي الذي حاول في السبعينيات والثمانينيات تعريف القارئ العربي بالنظرية الأدبية، وتياراتها المتتابعة المختلفة، التي يَطلُع بعضها من قلب بعض، كما طبَّق هذه النظرية على نصوص عربية من التراث والمرحلة المعاصرة، تراجع وبدأ يلهث وراء الجديد في هذه النظريات، دون أن يسأل نفسه ماذا تضيف هذه النظريات إلى معرفتي بثقافتي والنصوص المنتجة ضمن لغتي. إننا في حاجة ماسة إلى وقفة مع أنفسنا لنحدد ما ينفع الناس ويمكث في الأرض. لكن ضعف المؤسسة الأكاديمية العربية، وضعف التعليم بعامة، وضعف التكوين المعرفي في الجامعات، أدى إلى ضعف النقد وانسحابه من المشهد الثقافي العربي. علينا أن نعترف أن دور الناقد اضمحل خلال السنوات الأخيرة، لا في العالم العربي فقط، بل في العالم أجمع، لأسباب كثيرة يطول شرحها؛ ولا أظن أن تحميل وسائط التواصل الاجتماعي، وثورة الاتصالات، والتطور الهائل في عالم تكنولوجيا المعلومات، كما يظن رونان ماكدونالد في كتابه “موت الناقد”، تكفي لتفسير تراجع الناقد الأدبي في عالمنا المعاصر”.

“الإشكالية الأساسية التي تنوء بثقلها على المشهد النقدي العربي المعاصر تتمثّل في تحول معظم النقاد العرب إلى مجرد نقلة منبهرين بكل ما ينتجه الغرب من نظريات وكل جديد هناك، وهذا التقليد الببغاوي لا ينتج معرفة نقدية”

معروف أن التحديات التي تواجه النقد العربي عديدة ومركّبة، ولعل من بينها التحدّي المتعلق بالكيفية التي يستطيع بها الخطاب النقدي العربي أن يواكب العصر بالانفتاح على ما تعرفه العلوم الإنسانية والاجتماعية من مظاهر التجدد والتطور على مستوى المناهج والأدوات الموظفة، وأن يجيب، في الوقت نفسه، عن الأسئلة التي يطرحها الأدب العربي المعاصر، والتي لا تنفصل عن حاجات الإنسان العربي، وتوقه إلى التمتع بالحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. في هذا الإطار يقول فخري صالح: “أظن أن على الناقد العربي أن يعرف ما ينتج من نظرية ونقد تطبيقي في العالم، ففي كثير مما ينتج فائدة أكيدة. لكن عليه أن لا يشعر بالانبهار تجاه ما ينتجه الآخرون، ويقع في دائرة السحر والتعبّد لما يقرأه في اللغتين الإنكليزية أو الفرنسية. فثمة في اللغات الأخرى منجز قد يكون أهم، في بعض الأحيان، مما ينتج في هاتين اللغتين المهيمنتين على فضائنا المعرفي. ولن يشعر الناقد العربي بالقدرة الخلاقة على الاستفادة والإضافة إلا إذا تحرر عقله ووجدانه من التبعية، والترداد الببغاوي لما يقوله ويكتبه الآخرون. ذلك يحتاج إلى إصلاح جذري للتعليم، وتشجيع الخلق والابتكار، وتخريج طلبة قادرين على إنتاج المعرفة عندما تكون المؤسسات التعليمية التي ينخرطون في إطارها راغبة في تخريج طلبة يتمتعون بالحرية والخلق والإبداع”. 



الترجمة كتمكينٍ للقارئ

لا يتمثل إسهام فخري صالح فقط في الأعمال النقدية التي أنجزها بما تنطوي عليه من آراء نقدية عميقة وتقصيات لماحة للنص الإبداعي العربي، بل يتعدّى ذلك إلى الإسهام من خلال الترجمة، ذلك أن منجزه الترجمي يكتسي قيمة مميزة تجعل منه واحدًا من أبرز المثقفين المساهمين في تمكين القارئ العربي من التعرّف على الإنجازات النقدية الرائدة التي تتحقّق في الثقافات الأجنبية، وبخاصة الثقافة الإنكليزية. ويستطيع المتابع لعمله في حقل الترجمة، أن يتبين أن هذا الناقد يبدي اهتماما نوعيا بالأعمال التي طوّرت المقاربات السوسيولوجية للأدب، ومنها أعمال ميخائيل باختين وتيري إيجلتون وإدوارد سعيد، وغيرها من النصوص النقدية التي تهتم بالتفكير في الأدب في ضوء العالم الذي يتحقق فيه والشروط الاجتماعية التي تحدّده، وهنا يمكن التفكير بالترجمة التي أنجزها لكتاب “النقد والإيديولوجية” لـ تيري إيجلتون و”المبدأ الحواري” لـ ميخائيل باختين، وأيضًا “موت الناقد” لـ رونان ماكدونالد. ولا أظن قارئا ملما بمنجزه، لا يستطيع أن يتنبّه إلى تلك النقطة التي تتقاطع فيها هذه الاهتمامات، مع ما هو معروف عن فخري من كونه من أشدّ المدافعين عن الحرية والقيم الإيجابية، ودور الثقافة ليس فقط في معرفة الواقع، وإنما أيضا في تحرير الفرد والمجتمع. وهذا ما يلمح إليه عندما يقول موضحا اختياراته في حقل الترجمة: “لا شك أنني أميل إلى ما يتصل من النظرية بالشروط السياسية والأيديولوجية والاجتماعية والتاريخية لأسباب تتعلق بنشأتي وتكويني المعرفي واهتماماتي، وشرط الحرية الذي أحلم به، والمكان الذي جئت منه. وأعني هنا كوني فلسطينيًا سُلبت أرضه، وتوزَّع معظم شعبه في المنافي، وجُرِّد من هويته. فهل تظن أنني قادرٌ على سجن نفسي داخل النصوص، والنظر إليها بوصفها مكتفيةً بذاتها؟ فعلاوةً على كون هذه النظرية تبدو عتيقة الطراز، مُتَجاوَزَةً الآن، وغير قادرة على الكشف عما يمور في أعماق النصوص، فإن إيماني بتاريخية الأدب، إضافة إلى نصوصيته، يجذبني إلى نقاد من طراز إدوارد سعيد وتيري إيجلتون، وتزفيتان تودوروف، خصوصًا في المرحلة الثانية من تجربته التي بدأت تباشيرها في ثمانينيات القرن الماضي، فتحول من شكلانيته وبنيويته الصارمتين إلى مؤرخ للأفكار وناظرٍ إلى الشروط التاريخية لإقامة النصوص. لكنني لا أنكر اهتمامي بالجانب النصي في تحليل الأدب. لقد فعلت ذلك في الكثير مما كتبته من دراسات حول الرواية والشعر، لكنك ستجدني أحاول في نهاية التحليل ربط هذا النوع من التحليل الشكلي – البنيوي، المتحرر من دوغمائية بعض النقاد البنيويين، بالمعاني السياسية والاجتماعية والتاريخية للنصوص، وكثيرًا ما أشدد على رؤية العالم في هذه النصوص، ما يقربني بصورة من الصور من البنيوية التكوينية. أنا أنظر إلى نفسي كعابر للنظريات، مثالي الأعلى في ذلك، ولربما يعود ذلك إلى تجربتنا الفلسطينية المشتركة ومشاغلنا الوجودية ذاتها، هو إدوارد سعيد الذي تقرأ في نصوصه النظريةَ المرتحلةَ، المتغيرة، المتأثرة بالشروط التاريخية، التي قد تفضي إلى ضدها إذا ما احتكت بحاجات وشروط مختلفة في ثقافات ولغات ومجتمعات وأزمنة أخرى”. 

“معظم المشهد النقدي العربي يتعامل مع النظريات بوصفها حقائق ثابتة، صالحة لكل زمان ومكان، وهذا غير صحيح لأن البارادايم المعرفي والنقدي يتغير عبر الحقب والمراحل والعصور”

للتدليل على الأهمية التي تكتسيها جهود فخري صالح في ميدان الترجمة، وبخاصة ترجمة النظرية الأدبية، يمكن أن نتخذ من كتاب “المبدأ الحواري” لتودوروف مثالًا ملائمًا نتبيّن من خلاله كيف أبصر هذا الناقد في عمل ميخائيل باختين ما يمكن أن يشّكل نقطة دفع قوية للنقد العربي. وليس أدلّ على ذلك من صدور كتاب: “المبدأ الحواري” هذا العام في طبعة عربية هي السادسة. وفي تقديمه لميخائيل باختين يقول فخري صالح: “ميخائيل باختين، رغم اكتشافه المتأخر، في بلده روسيا، كما في بلدان العالم الأخرى، يمثل رؤية منفتحة واسعة للأدب والفلسفة والعلوم الإنسانية. فهو رغم المتخلل الديني الأرثوذكسي في الكثير من نصوصه، يقدم رؤية منفتحة لمعنى الإنسان. إنه ينجز نوعًا من الأنثروبولوجيا الفلسفية التي تعيد النظر في معنى الذات، الأنا في مقابل الآخر، ولا تعترف بوجود الذات إلا عبر مرورها من خلال عيني الآخر. ليست هناك ذات متوحدة، مكتفية بنفسها، بل ذات من خلال الآخر. لقد طوَّر فلسفة الغيريَّة Alterity بصورة مدهشة. ولعل هذا أن يكون أعظم إنجاز له في ميدان الفلسفة والعلوم الإنسانية. إن عمله يقدم نموذجًا مضادًا لسمِّ الهوية وتقوقعها، لكل سياسات الهوية وكراهية الآخر التي تنتشر، كالنار في الهشيم، في كل ركن من أركان الكرة الأرضية المهدد بجنون الهوية والعصبيات التي ازدادت شراستها خلال العقدين الأخيرين”. ورغم أن النقد العربي انفتح على اجتهادات باختين منذ مطلع الثمانينيات من خلال أعمال فيصل دراج وجمال شحيد ومحمد برادة ويمنى العيد وحميد لحمداني ومحمد البكري وبطرس الحلاق… وأيضا مع نقاد من جيل لاحق كالبشير قمري وشكير نصر الدين الذي ترجم مجموعة من أعمال باختين الأساسية، فإن المتأمل في التلقي العربي لهذا المنظر الروسي، يستطيع أن يستنتج أن باختين لم يُقرأ بشكل جيد في السياق العربي، بالشكل الذي يمكّن من الاستفادة مما تنطوي عليه جهوده من تصوّرات منهجية قادرة على الإسهام في تطوير النقد العربي ليتخطى الصعوبات التي يواجهها. إذ ما تزال الطروحات الأساسية التي تمكّن باختين من إبداعها من داخل المدرسة الشكلانية وضمن منظور شعرية اجتماعية، تفرض على الناقد العربي بذل مزيد الجهد لاستثمارها في إنتاج معرفة مختلفة ليس فقط بالأدب، وإنما أيضا بالثقافة. وإذا تساءلنا مع فخري صالح عن هذا الخلل لوجدنا أنه يحدده في كون “شهرة باختين في العالم العربي، وفي الدراسات النقدية المكتوبة في العربية، تتمحور حول تنظيراته في الرواية، رغم أن نظريته في الرواية لا تحتفي إلا بأشكال روائية قديمة تنتمي إلى العصور القديمة. ولا ينجو من ذلك سوى فيودور دوستويفسكي الذي حظي بإعجاب باختين واهتمامه، حيث كرّس له كتابًا أساسيًا صدر في عشرينيات القرن العشرين، ثم أعاد كتابته ونشره بعد حوالي ثلاثة عقود من الزمن. لا شك أن منجز باختين أوسع من نظريته عن الأنواع الثانوية من الرواية، ومفهوم الحوارية، والأنواع المونولوجية والتعددية اللغوية، وهي مصطلحات تجدها في كل بحث عربي حول الرواية.

“الكتب التي ظهرت خلال الأربعة عقود الماضية يغلب عليها التوجّه نحو وضع الأدب موضع مساءلة شديدة، لا تقتصر على سؤال ما الأدب؟ بل تتجاوز ذلك إلى مراجعة الوظيفة التي ينهض بها، والموقع الذي يحتلّه الناقد في الحياة الثقافية والاجتماعية”


لقد تحولت هذه المصطلحات إلى نوع من التعزيمة السحرية، إلى طوطم، إلى تأكيد على عبور النصوص إلى عالم النوع الروائي. فإذا لم تكن هناك حوارية، أو تعدد لغوي، أو بوليفونية، فإن الناقد يشطب النص الذي يكتب عنه ويخرجه من جنة الرواية! ومع أن معظم نصوص باختين، وحلقته، قد ترجمت مؤخرًا إلى العربية، بغض النظر عن مستوى هذه الترجمات، وقدرتها على التقاط ظلال المعاني المركبة لعمله، فما زال تأثيرها ضعيفًا في كتابات النقاد العرب”. ولا شكّ في أنّ فكر باختين يقع اليوم في صميم التيارات النقدية الجديدة كالدراسات الثقافية ونظرية ما بعد الاستعمار ودراسات العولمة، تشهد على ذلك المفاهيم المحورية التي أبدعها، واستطاعت أن تهاجر إلى حقول مختلفة من العلوم الإنسانية والاجتماعية، وأيضا المؤتمرات والندوات التي تقام حول أعماله في قارات العالم المختلفة، خاصة في أوروبا وأميركا وآسيا، بينما لا نجد لباختين ذلك الحضور الذي يليق به في الثقافة العربية. وفيما يرتبط بوضع باختين في الثقافة العربية يقول فخري صالح: “بلى، حضور باختين ظاهر الآن في ميادين مختلفة من المعرفة، ويجري استخدام تصوراته النظرية، حتى تلك التي تبدو غامضة وملتبسة ومتشابكة، وصعبة على الفهم أحيانًا، في محاولة لتوليد معارف جديدة في العلوم الإنسانية. وكما أشرت، فإن على الناقد العربي، والمشتغلين في العلوم الإنسانية في بلادنا، أن يعيدوا النظر في معرفتهم بنظريات باختين واستبصاراته. إن عمله من الغنى بحيث يفتح الكثير من الآفاق للنقد والبحث العلمي”. ورغم المكانة التي احتلها مؤلّف “شعرية دوستويفسكي” في المشهد الثقافي العالمي، فقد ظهرت في الفترة الأخيرة مجموعة من الدراسات التي تضع موضع شك مسألة كون باختين هو، بالفعل، مؤلف الأعمال التي ظهرت بتوقيع زميليه فولوشينوف وميدفيديف، ومن هذه الأعمال دراسة الباحثين جون بول برونكار وكريستيان بوتا بعنوان: Bakhtine démasqué. هذان الباحثان يذهبان إلى أن الأعمال التي نشرت مع نهاية القرن العشرين، بما في ذلك الحوارات مع باختين، قدّ بيّنت العكس. أي أنّ باختين لم يكن دقيقا فيما قاله بخصوص الظروف التي تتعلق بمشاركته في كتابة هذه الأعمال.  وبخصوص النقاشات التي أثارتها نسبة مجموعة من الأعمال لباختين، يقول مترجم “المبدأ الحواري”: “لم أطلع على ما كتبه الباحثان جون بول برونكار وكريستيان بوتا، لكني قرأت ما كتبه العديد من الباحثين والمشتغلين على باختين بخصوص هذه المسألة، وعلى رأسهم بالطبع تزفيتان تودوروف، ومايكل هولكويست، وآخرون، إضافة إلى بعض الباحثين الروس الذين كشفوا عن مخطوطات لباختين لم تنشر إلا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أي بعد وفاته عام 1975. وعلى قدر ما أعلم، ومن خلال قراءاتي، فإن ميخائيل باختين لم يقل، بشكل واضح، إنه مؤلف الكتب التي ظهرت باسم ميدفيديف وفولوشينوف. وما استند إليه من ينسبون الكتب الثلاثة: المنهج الشكلي في الدراسات الأدبية، والفرويدية، والماركسية وفلسفة اللغة، هو وحدة الفكر والأسلوب التي تجمع هذه الكتب بكتب ميخائيل باختين التي ظهر اسمه على أغلفتها. لقد كان ميدفيديف وفولوشينوف من أعضاء حلقة باختين، ولا شك في أن أعضاء الحلقة ناقشوا هذه الكتب معه أو على الأقل أفكارها الأساسية. وما يهمنا بالفعل، ليس نسبة هذه الأعمال إلى اسم باختين، بل الأفكار الواردة فيها، وهي تقدم قوسًا واسعًا من الموضوعات التي فكر بها باختين. ولقد نُشرت بعض ترجمات باختين إلى عدد من اللغات بوصفها إنجاز باختين وحلقته. وهذا ما يوفر نوعًا من الحل لإشكالية نسبة النصوص إلى باختين. ما فعله تودوروف في كتابه “ميخائيل باختين: المبدأ الحواري” هو أنه اقترح الحل التالي للمسألة، فعندما يذكر تلك الكتب فإنه يكتب فولوشينوف/ باختين، أو ميدفيديف/ باختين”.  

العربي الجديد

Comments (0)
Add Comment