راشد الغنوشي يكتب:انقلاب السودان وانقلاب تونس .. الدرس؟

راشد الغنوشي

انقلاب السودان.. السياقات

ليست الانقلابات بدعة في السودان، فتاريخه الحديث عرف التبادل بين الحكم الديمقراطي وحكم العسكر، وفاقت مدة حكم العسكر مدة حكم الصناديق، فانقلاب البرهان (10/25) سبقه انقلاب عمر البشير (1989) وسبقه انقلاب سوار الذهب (1986) وسبقه انقلاب النميري (1969).

وبين كل انقلابين شهدت السودان مرحلة ديمقراطية قصيرة، آخرها الفترة التي خلفت حكم البشير مدة سنتين وانتهت بانقلاب البرهان، ودلالة ذلك واضحة على مجتمع متعدد يبحث عن معادلة استقراره ونخب فشلت في التوصل إلى توافقات بينها على قيم ونمط للحكم.

قيم يتم التراضي حولها، وعلى أساسها يتبادل الفرقاء الاعتراف بينهم وتتم دسترة قواعد اللّعبة السياسية، وعلى أساسها أيضا يتم تداول السلطة بين النخب، وهو ما تم في التجارب الديمقراطية الغربية ولم يتم في السودان ولا في أي بلد عربي آخر.

وهو ما يجعل مما يحدث في السودان من لجوء إلى استخدام الأدوات الصلبة، أي العنف، سواء منظما عبر الجيوش أم كان شعبيا عبر الحروب الأهلية، معرضا له كل بلد عربي إلا ما رحم الله.

الثورة السودانية تتأثر بالتجربة التونسية

تأثرت تجربة الثورة السودانية بزعامة القوى “الحديثة” بتجربة الثورة التونسية من حيث الشعارات “الشعب يريد تغيير النظام” واعتماد حركة الشارع في إطار جبهة واسعة “الحرية والتغيير”، تفاعلت مع تراث السودان في الانتفاض ضد الاستبداد الذي انتهى إليه حكم استبدادي بقيادة فريق كبير من “تيار إسلامي”، تسلّم الحكم بانقلاب على وضع ديمقراطي هش سنة 1989، واضعا على مجتمع سوداني مفتوح، يدا ثقيلة، راهنت على الاستحواذ على كل السلطات وتسخيرها لصالح تفكيك مجتمع متعدد لصالح نموذج أحادي باسم الإسلام، استبعد بقوة الدولة كل الآراء والمصالح الأخرى..

وما كان لهذا النموذج السلطوي أن يحقق شيئا ممّا وعد، بل تفاقمت مشكلات العيش، فاجتمع الفقر والقمع على الناس.. وتهيأت الأجواء للتفاعل مع الربيع التونسي، وذلك بزعامة القوى “الحديثة” التي اجتمعت تحت لافتة” الحرية والتغيير”، الذين جاؤوا إلى الحكم مملوءة قلوبهم غيظا وتصميما على الانتقام والثأر من التيار الإسلامي الذي أقصاهم، ممثلا في حزب المؤتمر الوطني الذي حكم لمدة ثلاثين سنة مستفردا بالسلطة..

فلم يكتفوا بتجريده من السلطة بل استحدثوا مما استحدثوا هيئة سموها هيئة “إزالة التمكين” ردّا على خطة منسوبة للإسلاميين اشتهرت بمسمى “التمكين “وأعطيت هذه الهيئة سلطة واسعة للمصادرة وحلّ الشركات المملوكة أو المشتبه في علاقتها بالإخوان ونكّلوا بأصحابها وبأهل النظام القديم شرّ تنكيل.

ولم يكتفوا بحلّ الحزب الحاكم ومصادرة أمواله بل تتبعوا أفراده فردا فردا بنوع من التطهير الأيديولوجي..

وهكذا يبدو أنهم لم يبقوا أمام خصومهم سبيلا غير التفكير والتخطيط للحلول العنيفة، وذلك في غياب سياسات توافقية، بما يعيد إلى الأذهان خطة “اجتثاث البعث” التي اعتمدها حكام العراق الجدد بعد الغزو الأمريكي في التعامل مع الحكام السابقين..

انقلاب السودان وانقلاب في تونس

وكما تأثر ثوار السودان في مقاومة حكم البشير، حكم الاستبداد، بتجربة الثورة التونسية، حاملين شعارات مشابهة مثل “الشعب يريد تغيير النظام”، فقد تأثر القائمون بالانقلاب السوداني بقيادة البرهان، رئيس مجلس الدولة، بالتجربة التونسية في الانقلاب الذي قاده قيس سعيد رئيس الدولة وأعلن عنه في (25/7) وفصّله وأكده في (22/7).

لقد أكد السيد البرهان لنا نحن التونسيين، أن ما تم في تونس (25-7) هو انقلاب، وذلك لمن لا يزال يصرّ على رفض أن ما أتاه رئيس الدولة انقلاب تام الشروط، كامل الأوصاف.. انقلاب على الدستور وعلى الثورة، وعلى الديمقراطية لصالح تجميع كل السلطات بيد الرئيس على أنقاض قاعدة فصل السلطات باعتبارها أساس كل ديمقراطية..

البرهان أكد لنا بما لا شك فيه أن ما حدث في تونس انقلاب، باعتبار القواسم المشتركة بين انقلاب سوداني يقوده جنرال، وبين انقلاب يقوده أستاذ قانون دستوري وذلك بالنظر لتشابه الاجراءات التي اتخذها كل منهما..

كلاهما سارع إلى حلّ المؤسسات الدستورية المتوفرة، الحكومة ومجلس الدولة في السودان والميثاق الدستوري، وفي تونس تمت الإطاحة بالحكومة ومجلس النواب وبالدستور وبالمحكمة المؤقتة لرقابة دستورية القوانين والهيئة الوطنية لمقاومة الفساد، لينفرد بذلك قائد الانقلاب في الحالتين بالحكم.

كما أن كلا منهما برّر الانقلاب بحملة شديدة على الأحزاب وعبثها بالسلطة وبالبرلمان “في تونس” وبمجلس الدولة في السودان.. كل من الرجلين بذل ما في وسعه من موقعه رئيسا للدولة في تعفين الأوضاع السياسية والاقتصادية حتى يتقدم منقذا..

ففي تونس عطّل الرئيس تشكيل المحكمة الدستورية كما عطّل أداء اليمين لعدد من الوزراء بما جعل الحكومة مشلولة، كما لم يبذل أي جهد للحصول على تلاقيح ضد الكوفيد19، حتى يتأزم الوضع الصحي، وحالما أُعلن الانقلاب تهاطلت اللّقاحات، أما في السودان ما ندري ماهي البركات التي ستنزل على شعب السودان من وراء هذا الانقلاب؟ هل ستخمد النيران الملتهبة في شرق السودان وفي غربه؟ اشتعالها يبدو أنه كان جزءا من تهيئة المسرح…

الموقف الغربي من الانقلابين رغم التشابه بين الانقلابين بما برّر الموقف السلبي الغربي منهما وهو تطور تنبغي ملاحظته وتثمينه، إذ بالقياس إلى موقف الغرب من انقلاب السيسي الذي تم تمريره وتسويقه دون عقبات ولا عقوبات ولا حتى تهديد بذلك ، كان الاعتراض شديدا وجادا على انقلاب البرهان، بينما الاعتراضات على انقلاب قيس سعيد أقل من الاعتراضات على البرهان.. في حين أن المقارنة بين الانقلابات الثلاثة تكشف عن أنها ولئن استحقت كلها التفظيع، فإن المقارنة تكشف أن الأكثر جدارة بالتفظيع الأشد هو انقلاب السيسي وانقلاب قيس، وذلك بالقياس إلى تعريف الانقلاب بأنه إسقاط مؤسسة منتخبة بالقوة وتنصيب بديل عنها بالقوة.. وبهذا المقياس يبدو واضحا أن كلا من قيس والسيسي قد أقدما على الإطاحة بمؤسسات منتخبة، الدستور ومجلس نواب الشعب والحكومة، في الحالة التونسية.. وفي الحالة المصرية أقدم قائد الجيش على الإطاحة برئيس منتخب وبمجلس نيابي منتخب وبحكومة منتخبة وبالدستور..

أما في الحالة السودانية فإن البرهان ولئن أقدم على إزاحة مجلس الدولة وأطاح بالحكومة، بما يعنيه ذلك من تراجع عمّا كان أبرمه من توافقات مع قادة “الحرية والتغيير”، وهو نكوص عن العهود مدان ولا ريب، ولكن تبقى الفروق واضحة بين الإطاحة بمؤسسات منتخبة وبين التراجع عن توافقات.. فالأول أشد فظاعة..

بينما لا تبرز ذلك ردود الأفعال الغربية، فقد صمتت عن انقلاب دموي غليظ جدا في مصر، بينما ردت بشدة كبيرة على انقلاب البرهان واعترضت بمستوى أقل بكثير على انقلاب قيس.. فلم اختلفت ردود الأفعال على هذه الانقلابات؟

واضح أن المسألة ليست مبدئية محكومة بالقيم التي تقضي بتشابه الأحكام إذا تشابهت الوقائع، بينما الأمر اختلف من حالة إلى أخرى بحسب المستفيد من الانقلاب والمتضرر.. اختلفت بحسب اللّون الأيديولوجي للمنقلب وبحسب موقفه من القوى الغربية.

إن المتضرر الأساسي من انقلاب السودان القوى الحديثة التي قادت الثورة على عمر البشير، والمتضرر القوى “الإسلامية” المتحالفة مع نظامه والتي تعرضت خلال حكم الثورة “حكومة حمدوك “إلى ضروب شنيعة من الانتقام والتشفي على يد هيئة “إزالة التمكين”.

أما في تونس فقد اختلف الوضع، القائم بالانقلاب لقي الترحيب والدعم من معظم القوى الحداثية، المخاصمة للنهضويين الإسلاميين، كما لقي الدعم من القوى غير الديمقراطية مثل الأحزاب القومية وقوى أقصى اليسار إلا القليل، باختصار لقي الدعم من القوى المضادة للثورة ومن الدولة العميقة والقوى الصلبة.

الدرس الأساسي المستخلص

الدرس المستخلص من هذه التجارب في الانتقال الديمقراطي أن أوضاع العرب مع اختلافها تتشابه قيما وبنى، ولذلك يؤثر بعضها في بعض. إن من أهم عقبات الانتقال الديمقراطي والمهددة بالانتكاس إلى حد الانقلابات والتحارب الأهلي وتمزيق الأوطان، هو ضعف إلى حدّ الغياب لثقافة المواطنة والعيش المشترك والتوافق بين جماعات النخب، بما أعلى من خطابات الاستئصال والشعبوية والإقصاء والتحريض على المخالف إلى درجة تهديد وجوده وكيانه الفردي والجماعي، ومن ذلك ضعف أو غياب التوافق بين “الحداثيين” والإسلاميين وبين القوى التي حكمت قبل الثورة وبين القوى “الثورية” التي جاءت بها الثورة، ومن ذلك سيادة نهج “الاجتثاث” وثقافة “التمكين” أو “إزالة التمكين” أو “العزل السياسي” أو “تحصين الثورة”.

أما الخطابات الشعبوية التي يمثل الرئيس قيس نموذجها الأبرز فهو أجلى وصفة للخراب والدمار لأنها النقيض من كل وجه لسياسات التوافق والحوار والعيش المشترك والمواطنة، هي نقيض للتجارب الناجحة في التحوّل الديمقراطي مثل تجربة جنوب إفريقيا، في تجاوز مآسي التمييز العنصري بما حوّل رئيس دولة التمييز العنصري الرجل الثاني في العهد الجديد بدل تعليق رقبته، وفي تاريخنا الاسلامي أنموذج ساطع للتحوّل الناجح من حياة الفوضى والتوحش إلى حالة الدولة والتحضر، تجربة النبي العربي عليه السلام في إعادة دمج العرب في كيان واحد، إذ لم يكتف يوم دخوله مكة منتصرا بإعلان العفو العام على من قاتلوه ولاحقوه بل فتح أمامهم أبواب الاندماج في الجماعة الجديدة “من دخل دار أبي سفيان فهو آمن” وذلك هو النقيض لثقافات الاستئصال والإقصاء والانتقام والتشفي”.

تجربة التوافق

الذين يعيبون تجربة التوافق في تونس بين حزب إسلامي وحزبين علمانيين (2012-2013) ثم تجربة التوافق بين النداء والنهضة أي بين معتدلي النظام القديم (الدساترة المعتدلين) وبين النهضة (الإسلاميين المعتدلين) وذلك بعد أن تمكنت كتلة النهضة من إسقاط مشروع تحصين الثورة الهادف إلى إقصاء النظام القديم جملة، وقد حكم البلاد زهاء نصف قرن، الذين يعيبون عليها أنها بذلك فتحت الباب أمام عودة النظام القديم، يغفلون مغمضين أعينهم عن النهضة التي لم تحصل قط على أغلبية.. وأن التجارب المماثلة للتحوّل الديمقراطي التي اعتمدت سياسة الإقصاء للنظام القديم بدل إعادة إدماجه، واعتمدت سياسات العقاب الجماعي بدل العفو والاستيعاب آل أمرها إلى انقلابات أو حروب أهلية، لم تكد تخمد نيرانها.

كما يغفلون أنّ تونس نعمت في ظل التوافق بأطول فترة من الاستقرار، في وقت كانت التجارب المماثلة تتلظى بالفتن وأن بسقوط تجربة التوافق بوفاة الباجي اندلعت عديد من الشعبيات شعبوية قيس وعبير والكرامة، فما تتعرض إليه تجربة التحوّل من أخطار خلال السنتين الأخيرتين وغياب الاستقرار، هو ثمرة غياب سياسة التوافق لحساب سياسات الإقصاء والاستقطاب والشعبوية.

إن ديمقراطية التوافق بديلا عن ديمقراطية المغالبة بالأغلبية هي الأضمن والأقل كلفة من أجل قطع صحراء الانتقال الديمقراطي في سلام، وما يحدث في تونس من خطر جسيم على انتقالها الديمقراطي المهدد ليس ثمرة لسياسات التوافق بل نتيجة لغيابها لصالح ريح الشعبويات العاصفة.

المصدر: الراي العام التونسية

Comments (0)
Add Comment