د. رامي أبو شهاب
في مقالات سابقة تناولنا قيمة الكتابة، بوصفها فعلاً يقع بين ثنائية المتعة والألم، وأن الاحتفاء بالكتابة ليس سوى إحدى أدوات التعويض، كما أن تنشغل بالأسئلة التي لا يمكن أن تشكل سوى امتداد للحياة، ومعضلتها الفلسفية، ومن هنا، فإن تجربة الكتابة لدى بعض الكتاب تبقى جزءاً من ماهيتهم، مع محاولة البحث عما يكونّ الكاتب، وما بواعثه التي تدفعه إلى هذه الممارسة.
في كتاب الروائي ستيفن كينج بعنوان «عن الكتابة» إشارات حملها لنا الكثير من سرود الكتاب، الذي يأتي على شكل مذكرات ترتبط بمحاولة التفسيرات الخاصة بماهية الكتابة وتشكلها، لكن عبر ذاته، ونعني حين يعرض لنا كينج جزءاً كبيراً من حياته على شكل يوميات، أو تفاصيل تتصل بطفولته ووجوده، بما في ذلك يومياته مع والدته، وشقيقه، كما دراسته، وزواجه، ووظائفه، ومعاناته، كما المدن، والأمكنة التي عبرها، وجميعها أنتجت منظوره في مواجهة الحياة ليصل في النهاية إلى مقولة تنطوي على الكثير من العمق، حيث يقول إن الكاتب: «لا يُصنع إنما يتشكّل» وهنا نلاحظ أن الكتابة لا تبدو لنا سوى تلك التفاصيل التي تبدو يومية، لكنها تتصل بأكبر قدر من التوتر، حيث تصوغ شخصية الكاتب، مع عدم إنكار عامل الموهبة، غير أن الكاتب يتميز بذلك الإحساس القائم على التغاير والاختلاف، حيث إنه لا يرى العالم على ما هو عليه… إنما يراه من مبدأ الرافض، أو الناقد، أو يمكن القول وعي القلق المتوجس؛ ولهذا فإن تكوين الكاتب يبقى أحد أكثر التفسيرات تعقيداً، فلا جرم في أن يتخذ موقفاً من دروس أو دورات تعليم الكتابة الإبداعية التي لا يرفضها بالكلية، من منطلق أنها قاصرة عن تمكين ذلك الحس، أو تخليق الكاتب الحقيقي، ما لم يوجد في داخل المرء، كما يذكر في كتابه.
يمكن النظر في بعض الأحيان إلى الكتابة بأنها فعل اختيار، كما يرى جورج أورويل، الذي كان يرى نفسه كاتباً من مرحلة الطفولة، فالنصوص التي تعبرنا في هذه المرحلة تشكل في تكوينها عالما آخر، وهنا تتحدد مرحلة الانفصال لا عن العالم، لكن عن فكرة تقبل العالم كما هو، فالإدراك يتأتى من أن الكتابة محاولة تشكيل جديد ينسخ القائم، لكن تتخذ هذه الغاية مراحل، حيث يمكن القول إن معظم الكتاب بصورة عامة يبدؤون شعراء، لكنهم – ربما – ينحرفون عن الشعر نحو كتابة الرواية أو القصة، أو ربما النقد، وهذا ما نراه ماثلاً لدى العديد من الكتاب، الذين وجدوا في الشعر إحدى الأدوات القادرة على تشكيل هواجسهم بداعي الاختلاف، ما يعني أن الشعر في تكوينه العميق، وصيغته، يستجيب لهذه النزعة، التي تبدو أكثر مواءمة لتكوينه الخام، الذي ينهض على تشييد علاقات مع المحيط؛ بما في ذلك الأشخاص، والعالم والطبيعة، والفرح والحزن، والأهم الحب.
يذكر إمبرتو إيكو، أنه كتب قصائد في السادسة عشرة من عمره بتأثير حب أفلاطوني صامت، هذا النسق أو التكوين يبدو فاعلاً لكل من مارس الكتابة في بداياته الأولى، فيبدو أقرب إلى نموذج قابل للمحاكاة والبناء، وهي نزعة تبدو طفولية أو بدائية، تُتخذ أحياناً من أجل التخفيف من المغالاة فتسمى كتابة الخواطر، وهي لغة مخففة أو محتشمة لتجنب كلمة شاعر، لكن في كل الأحوال، فإن الشعر في هذه المرحلة يبدو صيغة مبسطة، فحين يتقدم الإنسان يدرك أن الشعر قيمة تنهض على الرؤية، والتحرر شبه الكلي من القيود كافة، وذلك لا يقل صعوبة عن أي فن من الفنون الأخرى، وإلى أن يحين ذلك تتحدد مسارات الكاتب وتوجهاته، فثمة صيغ الحكي التي تتيح الكتابة القصصية أو الروائية، وثمة النهج المنطقي، الذي يتداخل مع الأكاديمي لبناء صيغة الفيلسوف أو الناقد أو الصحافي، لكنها جميعها تتصل بتك اللعنة الأولى للكتاب، وفعل القراءة.
تبقى الكتابة أمراً لا يمكن أن نجزم ببواعثها بصورة مطلقة، وهنا تكمن عبثية أن تكون كاتباً، حيث يمكن أن تلغي العوالم، وأن تقيم عوالم أخرى ممكنة، وأن تختلق الحقائق التي تريدها، وأن تعيد العالم لتجعله أشد فوضى أو نظاماً، أو أن تكتب طالما أن لديك الرغبة في الكتابة.
من الكتّاب الذين حاولوا تفسير بواعث الكتابة، الإنكليزي جورج أورويل، حيث يرى في مقالته التي حملت عنوان الكتاب عينه «لماذا أكتب» وهي تتعلق بتفسير خيار الكتابة من لحظة نشوء التخيل أو تشكيل القصص عن الذات في مرحلة الطفولة كما يقول، ومع تطور الذات عبر الزمن تتشكل مقاصد الكتابة بصورة أكثر وعياً، ويحددها في أربعة عوامل هي: حب الذات الصرف من منطلق تعالي الذات، وهي إحدى صور النيل من الآخرين، وهي نزعة ذات هوى، في حين يتحدد العامل الثاني في الحماس الجمالي تجاه العالم، وتحقيق قدر من التوافق معه، وهنا نرى أن الواقع المشوّه يكون جزءاً من الطرف الآخر للمعادلة، والعامل الثالث يتحدد في الحافز التاريخي أو الأشياء، وهنا تبدو معنى الحقيقة جزءاً محورياً من الموضوع، فتمسي الكتابة أداة لنقل رسائل للآخر، والأهم للأجيال القادمة، وأخيراً العامل الرابع الذي يتحدد بالسياسي، حيث الرغبة في التغيير في قضايا تتعلق بالمجتمع، مع عدم نفي وجود التحيّز السياسي، ولعلنا لا نبتعد حين نرى أن جورج أورويل، كان ممثلاً لهذه النوازع في أعماله التي بدت هجاء للأنظمة الشيوعية في زمنه، وبدا متصلاً بموقفه الأيديولوجي العميق.
لا شك في أن الكتاب يخوضون الكثير من الحروب مع النماذج الشاذة، والمهيمنة للأفكار، ويصطدمون بالمؤسسة، كما فعل الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو، حين استجلب لنفسه غضب الكنيسة بداعي أحد أعماله، في حين هناك العديد من الأسماء في الشرق والغرب انخرطت في مواجهة المسكوت عنه، والمؤسسة، والأهم تقويض بعض المفاهيم التي كرست لتمكين الهيمنة على الإنسان، وهنا لا يمكن أن نعدم فكرة البواعث التي أكدّ عليها جورج أورويل، إذ هي تكاد تنصهر كلها في بوتقة واحدة، لتمسي اختزالاً لفكرة تكوين الكاتب الذي يبقى معنيّاً بالجمال، والأنا، والاتكاء على مقولة إن لديه ما يقوله لمن يأتي بعده، وهذا يتباين تبعاً لكل كاتب، وتوجهاته ومواقفه، حيث نرى اتجاهات متعددة في تقديم جانب على جانب آخر، فهناك من ينخرطون في نقد العالم، وتمكين المقصد السياسي، وهناك من يتمثل الجانب الجمالي، أو الإنساني وهكذا، لكن يبقى مركز الكتابة هو الذات المأزومة.
إن الكتابة عبارة عن محاولة النجاة من الإخفاقات كما يقول أورويل، ولعل هذا ما يدفعنا على سبيل المثال لنرى كم كان غابرييل غارسيا ماركيز قريباً من الإخفاق قبل أن ينشر روايته الشهيرة «مئة عام من العزلة». لقد بدت الكتابة بالنسبة إليه أداة لتجاوز حافة الهاوية، لكن لا يمكن للكتابة أن تقدم للبعض النجاة بمعنى تحصيل نواتج مادية كما نتوقع، وهذا يبدو أقرب للتوافق، فأشد العقول عظمة كانت مشغولة بتحصيل معاشها، وربما ماتت مفلسة مقهورة، فالكتابة لدى البعض ليست سوى نوبة طويلة من الألم أو المرض، إنها أشبه بجرثومة أو لعنة، أو لعلها نجاة معنوية، فلا جرم أن يبدو مؤلف رواية «اسم الوردة» حزيناً لأنه بدأ كتابة الرواية في الخمسين من عمره، حيث يتساءل – كما تساءل رولان بارت – يوما ما قائلاً: لماذا لا ينظر إلى كتابات الفلاسفة على أنها أعمال إبداعية، ولماذا ينظر إلى هذا النوع من الكتابة على أنه أقرب لكتابة محضر، أو مخالفة مرورية، أو تقرير موظف بنكي! هل هذا يعود إلى كونها كتابة تتصل بالوقائع، ربما تبدو الكتابة الإبداعية جزءاً من هوية الإنسان، أو هوية الكاتب، وهي التي يمكن أن تجعله على أقل تقدير مطابقة لبواعث جورج أورويل، فلا تبقى سوى فكرة الحقيقة، فما كتبه الروائي هرمان ملفيل، ربما لا يختلف عما كتبه داروين، وغيره من العلماء الذين يقدمون معلومات عن الحوت أو القرد، فرواية «موبي ديك» لا تقدم لنا معلومات عن الحوت الذي اختلقه سردياً وحسب… إنما تقدم حقائق عن الحب والحياة والزهو والإصرار كما يذكر إمبرتو إيكو في كتابة «اعترافات روائي ناشئ».
في الختام، تبقى الكتابة أمراً لا يمكن أن نجزم ببواعثها بصورة مطلقة، وهنا تكمن عبثية أن تكون كاتباً، حيث يمكن أن تلغي العوالم، وأن تقيم عوالم أخرى ممكنة، وأن تختلق الحقائق التي تريدها، وأن تعيد العالم لتجعله أشد فوضى أو نظاماً، أو أن تكتب طالما أن لديك الرغبة في الكتابة.
كاتب أردني فلسطيني
القدس العربي