“من روس إلى روسيا”
مقدمة المترجم: عاطف معتمد
في عام 1998 تعرفت على كتاب المفكر السوفيتي الشهير “ليف غوميليوف”. يمكنك أن تعتبره في مقام جمال حمدان أو سليمان حزين. لا يكتب الرجل تاريخا أو جغرافيا بالمعنى التقليدي بل يتعمد صياغة “أطروحة” حضارية متكاملة.
لم ينحت غوميليوف اسمه من العدم فهو ابن عائلة شهيرة في الشعر والأدب، وإذا كان سليمان حزين قد اشتهر في عهد طه حسين بالحفائر الأثرية التي أجرتها كلية الآداب في اليمن الشقيق فإن غوميليوف اشتهر برئاسته للحفائر في مصب نهر الفولجا في بحر قزوين في الجنوب الروسي المتماس مع العالم الإسلامي.
وإذا كان سليمان حزين قد صعد في السلم الإداري والسياسي رئيسا لجامعة أسيوط ثم وزيرا للثقافة وما ارتبط بذلك من إعطاء اهتمام للسياسة والإدارة، فإن غوميليوف كان معارضا للنظام السوفيتي لا سيما نزعته الاستبدادية.
لم يهاجر غوميليوف ولم يهرب، ولم يشارك في السلطة بل اختار اختيارا يعرفه كل من فضل أن يموت في أرضه رغم الاستبداد ، خيار الهروب إلى الماضي بهدف فهم الحاضر والمستقبل وتفاديا بالطبع لبطش الحاضر الذي لا يفهم ولا يستطيع أن يميز بين من يحبه حقا ومن يمهد له الطريق إلى الهاوية، أخذ الرجل يؤلف ويبحث من أجل الوصول إلى أطروحة الهوية والوجود للشعب الروسي.
توصل غوميليوف إلى صياغة نظرية شهيرة في صعود الأمم وهبوطها أسماها نظرية “الشغف الخلاَّق”.
يذهب مؤلفنا الكبير إلى أن الأمم مثلها تماما مثل الأفراد لديها شغف، شغف خلاَّق، هذا الشغف هو المسؤول عن التقدم والتوسع والنمو والصعود.
لماذا يخفت شغف الأمم؟ وهل هناك دورات لهذا الشغف؟ وما علاقة ذلك بتاريخ روسيا المعقد، المتشابك، الغارق في التفاصيل، تلك التفاصيل التي تبدو مربكة حتى للمواطن الروسي.
حصلتُ على نسخة من كتاب غوميليوف وأنا بعد طالب في مرحلة الدكتوراه في جامعة سان بطرسبرغ، كنت أترجم يوميا بمعدل فقرة واحدة من خمسة أسطر على سبيل التدريب والتهوين على النفس في وسط يوم طويل بارد مشحون بموضوعات مرهقة في رسالتي عن “الجغرافيا الطبيعية لمنطقة حلايب” في جنوب شرق مصر.
وحين عدت لجامعة القاهرة في عام 2001 عرضت الكتاب على أكثر من جهة من أجل ترجمته، ولأن الجمعية الجغرافية المصرية لم تتشجع للاقتراح أخذت الكتاب إلى المؤرخ العظيم الراحل الجليل د.رؤوف عباس فاستقبلني أجمل استقبال ولكنه في نهاية اللقاء اعتذر لأن الجمعية التاريخية ليس لديها تمويل كاف لنشر ترجمة هذا الكتاب المهم، لكنه نصحني – رحمة الله عليه- أن أعرض الكتاب على مراكز أخرى لعل الموضوع يهمها، وظل يتابعني بالهاتف غير أن كل المحاولات باءت بالفشل، واعتذر كثيرون بحجة أن الموضوع بعيدا عنهم، كنا آنذاك في تبعات أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، كان العالم يحبس أنفاسه حول المستقبل الدموي الغامض، لم يكن تاريخ روسيا والدروس المستفادة منها يهم أحدا في بلادي.
ظل الكتاب حبيس مكتبي لنحو 15 سنة، وقبل أربع سنوات فقط نجحت في إقناع المركز القومي للترجمة بنقله لقراء العربية.
وقد صدر الكتاب الأسبوع الماضي، في الأيام الأولى من عام 2022، وأرجو أن يكون متاحا للجمهور في معرض القاهرة الدولي للكتاب.
العنوان الذي تجدوه على الغلاف هو من بنات أفكاري، فالعنوان الأصلي الذي أعطاه المؤلف العظيم لكتابه هو “من روس إلى روسيا”.
“روس” هو الاسم القديم لأول قبيلة كانت نواة تشكيل روسيا بمعناها الجغرافي الشاسع الفسيح الكاسح عبر قارتين.
“روس” هو الاسم الذي حملته القبيلة الصغيرة في شرق أوروبا والتي صارت اليوم تمنح اسمها لأكبر دول العالم مساحة.
في رحلة طويلة، رصينة، شيقة ومرهقة يأخذنا غوميليوف من أول ظهور لهذه القبيلة البدائية الوثنية وحتى تكوين روسيا بمعناها الشاسع عبر قارتين وبقدراتها التي صارت معها أمة كبيرة الوزن بين أمم العالم.
وبعد أن استشرت الزميلين العزيزين اللذين شاركاني الترجمة (د. سعد خلف ود. وائل فيهم) أعطينا الكتاب اسم “تاريخ روسيا: من القبيلة إلى الأمة”.
قراءة هذا الكتاب في لغته العربية تعطينا دروسا بالغة الأهمية لعل أهمها:
– أن الأمم العظمى اليوم بدأت في الأصل نواة صغيرة وقبائل متفرقة، ولم يعطها مكانتها بين الأمم إلا الوحدة والتجمع والتكتل.
– أن الدين كان دوما وسيلة بالغة الأهمية لصبغ هوية الأمم وتوحيد كلمتها، واستخدم الدين دوما آداة فاعلة لتمرير أكبر البرامج السياسية، ورفع الدين والمذهب رايات خفاقة عمدا لأهداف سياسية أبعد ما تكون عن الدين في حد ذاته.
– حين نحدق في مسيرة روسيا بحثا عن ملامح هويتها وبنيتها تأخذنا الدهشة من العدد الهائل لتلك اللحظات الفارقة التي بدت فيها ضعيفة هشة توشك على السقوط أو بدت أضعف من أن نقارنها بريشة في مهب الريح، ثم ينهض بعض أبطالها (المنسيون البعيدون) يعيدون إليها بوصلتها من جديد.
– أن روسيا هي ابنة الشرق والغرب معا، وأن الغزو المغولي المهين علمها الاستبداد كما علمها النظام والدستور والقانون والإدارة، وأن علاقتها بالغرب علمتها المنافسة والحرب والتقليد التقني والمهني والفني والسياسي كما علمتها الندية والتناحر والصراع كتفا بكتف.
– أن أمة بلا شغف لا مستقبل لها
المصدر: رشف – قاعدة بيانات الكتب العربية