لهيب “الجنيه المتهاوي” يحرق جيوب المصريين

أزمات الجنيه المصري تشعل حريق الأسعار في مصر

بعد 46 عاما على انتفاضة الخبز الشعبية في 18-19 كانون الثاني/يناير 1977 ما تزال معضلة توفير الغذاء الرئيسي للمصريين قائمة بلا حل؛ فلا الدولة استطاعت وضع خطة لحلها من جذورها، ولا المجتمع المدني ابتكر لها حلولا تعاونية تساعد على تخفيف حدتها، وتقليل تكرارها. كلما ارتفعت أسعار القمح في العالم ترتفع أسعار الخبز، وفي بداية كل سنة مالية تمتلئ أوراق الصحف وبرامج الإعلام بحكاية «دعم الخبز» الذي تتحمله ميزانية الحكومة، وكأن من يمول هذه الميزانية أشباح فضائية وليس أفراد الشعب جميعا، الفقراء قبل الأغنياء. هذا العام وقع «رغيف العيش» ضحية أزمة مركبة، تداخلت فيها عوامل داخلية وخارجية، تضمنت أزمات في سعر الجنيه، وفي سعر القمح، وفي سعر الوقود، وفي تكلفة تمويل الاحتياجات المالية لصناعة الخبز المحلية، وفي معدل التضخم العام، لتصنع هذه الأزمات معا «أزمة غلاء المعيشة» التي تعم العالم كله، لكن نصيب مصر منها كان أكبر، بسبب ضعف القدرة على التحمل.
وعلى وقع أزمة الجنيه المصري، وانتشار أزمة الغلاء في بقاع كثيرة من العالم، ومحاولة منه لتخفيف عبء مدفوعات استيراد القمح من روسيا، المورد الأول للقمح إلى مصر، اتخذ البنك المركزي الروسي قرارا جريئا يوم 18 من الشهر الحالي باعتبار الجنيه المصري عملة قابلة للتحويل، وهو قرار يمكن أن يسهم إلى حد كبير في تخفيف أزمة الجنيه وغلاء المعيشة وشحة السلع الغذائية الأساسية في مصر، خصوصا القمح وزيوت الطعام، ومحاصيل الأعلاف التي تشمل الذرة وفول الصويا. كما أن القرار سيخفف التزام البنك المركزي بتسوية مركزه المالي مع البنك المركزي الروسي بالدولار، الأمر الذي يمنح مصر فرصة لالتقاط الأنفاس، وتخفيف أزمة شحة الدولار في البنوك. وطبقا لقرار البنك المركزي الروسي بلغ سعر التحويل للروبل مقابل الجنيه 43 قرشا مصريا، أي أن الجنيه المصري يشتري حوالي 2.3 روبل.
وسوف يخفف القرار أيضا الضغوط على كثير من الأسر المصرية، من الطبقة الوسطى، التي أرسلت أبناءها لتلقي العلم في الجامعات الروسية. القرار الروسي له أيضا أبعاد اقتصادية وجيوسياسية بعيدة المدى، خصوصا وأن روسيا أعلنت أكثر من مرة إنها تسعى لتأسيس نظام نقدي موازي للنظام الدولاري، منذ تم إخراجها من نظام «سويفت العالمي» في اذار/مارس الماضي. ضم الجنيه المصري هو مجرد خطوة سبقتها ترتيبات مهمة لتعزيز قوة الروبل، باسناده باحتياطي ضخم من الذهب، ثم إقامة نظام مباشر للتحويل بين الروبل الروسي واليوان الصيني، وتوسيع نطاق هذا النظام ليصبح نظاما متعدد الأطراف يضم عملات أخرى من بينها حتى الآن الدينار القطري والدرهم الإماراتي، والروبيه الإندونيسية، وعملات جورجيا وصربيا ونيوزيلندا، ومن المرجح أن تنضم إليه الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل وإيران، التي ترتبط هي الأخرى باتفاقات جزئية لتسوية المعاملات التجارية بالعملات المحلية مع كل من روسيا والصين. في هذه الحالة، ونظرا لوجود اتفاق مبادلة عملات محلية بين مصر والصين منذ سنوات، فإن الضغوط على الدولار، التي تسببت جزئيا في أزمة غلاء المعيشة ستتراجع كثيرا، نظرا لأن مصر تستطيع من خلال النظام المتعدد الأطراف أن تستخدم عملات الدول الأعضاء بدلا من الدولار في تسوية مدفوعات معاملاتها التجارية داخل النظام. الدولار وأسعار الفائدة وأسعار الغذاء والطاقة هي أهم محركات أزمة غلاء المعيشة في مصر. وإذا نجحت مصر في فك عقدة الدولار، فربما يعني ذلك خروجها من عنق الزجاجة. لكن تحقيق ذلك يتوقف على شرطين: الأول هو تكثيف الاستثمار في الإنتاج العيني لزيادة الصادرات وتقليل الواردات، والثاني هو تقليل الإقتراض بالدولار لتجنب حدوث مزيد من الضغوط على مواردها الدولارية المحدودة لسداد أعباء الديون القائمة.

تدهور حال الطبقة الوسطى

أزمة غلاء المعيشة هي الأزمة الرئيسية لكل بيت في 99 في المئة من بيوت الأسر المصرية، بما فيها الطبقة الوسطى، الأشد معاناة من غيرها في الوقت الحاضر، حيث تسقط منها فئات كثيرة، واحدة بعد الأخرى في مستنقع الفقر، خصوصا أسر الموظفين وأصحاب المعاشات ذوي الدخل الثابت. ورغم أن هؤلاء حصلوا على زيادة في المرتبات أو المعاشات بنسبة سنوية تبلغ 11 في المئة تقريبا، فإن غول التضخم السنوي الذي تجاوز 24 في المئة، حسب تقديرات البنك المركزي، قد التهم هذه الزيادة وترك قدراتهم الشرائية أقل مما كانت عليه بكثير. ويعتبر معدل التضخم الشهري أو السنوي من أهم أدوات قياس غلاء المعيشة، مع أنه كمتوسط حسابي يخفي حقيقة التباين الشديد في ارتفاع تكاليف المعيشة بين مجموعات السلع المختلفة. وفي العادة فإن نسبة الإنفاق من الدخل على السلع الغذائية الأساسية تكون أعلى بكثير في الفئات ذات الدخل المنخفض والمتوسط عنها في الفئات ذات الدخل المرتفع. وتقترب نسبة الإنفاق على الغذاء ما يقرب من نصف دخل الأسر الفقيرة، ومن ثم فإن ارتفاع أسعار السلع الغذائية بنسبة 50 في المئة يعني أن الأسرة الفقيرة ستنفق دخلها كله على مجموعة الطعام والشراب ولا يتبقى لها ما تحتاج إنفاقه لسداد فواتير المياه والكهرباء والغاز والاتصالات، وأجرة المواصلات اليومية، والأدوية والملابس، والدروس الخصوصية للتلاميذ وغيرها.
وقد أعلن البنك المركزي المصري في الشهر الحالي إن معدل التضخم الأساسي في البلاد ارتفع إلى 24.4 في المئة على أساس سنوي في كانون الأول/ديسمبر 2022 من 21.5 في المئة في تشرين الثاني/نوفمبر. وأظهر بيان البنك أن الأسعار زادت بمعدل 13 مرة مقارنة بالشهر المقابل من العام السابق، إذ بلغ معدل الزيادة الشهري 2.6 في المئة في كانون الأول/ديسمبر 2022 مقابل 0.2 في المئة في كانون الأول/ديسمبر 2021. كما تظهر بيانات البنك والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن الشهر الماضي أن الارتفاع في أسعار الفاكهة يبلغ حوالي ثلاثة أمثال الزيادة في متوسط التضخم الشهري، إذ وصلت إلى 7.6 في المئة، كما زاد المعدل الشهري للتضخم في أسعار مجموعة الألبان والجبن والبيض بنسبة 6.4 في المئة، وفي مجموعة الحبوب والخبز بنسبة 5.0 في المئة، مجموعة الأسماك والمأكولات البحرية بنسبة 3.1 في المئة، وهي كلها تزيد عن المتوسط الشهري للتضخم. الصورة في السوق تبدو صعبة وقاسية، حيث قفزت الأسعار بالنسبة للجميع، المستهلك يشكو مثلا من أن أسعار الدجاج والبيض ارتفعت إلى خارج حدود القدرة على التحمل، وأصحاب مزارع الدواجن والبيض يشكون من أن أسعار العلف والغاز اللازم للتدفئة والأدوية البيطرية قد ارتفعت ومعدات صارمة إلى خارج حدود القدرة على التحمل. ونظرا لأن كل أو معظم احتياجات المزارع يتم استيرادها من الخارج، فإن المستوردين أيضا يشكون من أن أسعار الدولار قد زادت زيادات صارخة، بل إن الدولارات اللازمة للاستيراد غير متاحة لدى البنوك مما يصيبهم بالشلل وعدم القدرة على تجديد المخزون من مستلزمات الإنتاج الضرورية، وهم يتبرعون جميعا بالدعاء لله تعالى أن يخرجهم مما هم فيه من مصيبة.
وما يتردد على وسائط التواصل الاجتماعي عن «وجبات أرجل الدجاج» لا مبالغة فيه على الإطلاق. بل إن بعض الأسواق الشعبية تباع فيها أحشاء الطيور على الأرصفة لغير القادرين، وأخذ هواة استغلال الفرص يبتكرون أنواعا جديدة من التجارة أو الأنشطة الاقتصادية لم تكن موجودة من قبل مثل التجار الجائلين الذين يجمعون بقايا زيت الطعام المستخدم في الطهي، وإعادة تنظيفه بمواد كيميائية، وطرحه للبيع للمستهلكين في الأسواق الشعبية بأسعار رخيصة، علما بأن من أخطر أسباب السرطان.
وكان من المعتاد بالنسبة لمحلات الفول والطعمية والمطاعم أن تشتري متبقيات الزيوت المستخدمة في مصانع «الشيبسي» في صفائح أو عبوات كبيرة واستخدامها في قلي الطعمية أو السمك أو طهو أنواع مختلفة من الطعام، لكن الجديد الآن هو إنه يتم تجميع متبقيات استخدام زيت الطعام من البيوت، وإعادة بيعها للمستهلكين. ولا يعد إعادة استخدام متبقبات الزيوت النباتية مسألة جديدة في مصر، بل إن لهذه المتبقيات سوقا كبيرة تبدأ من مجموعة من المستوردين الذين يشترون من أسواق أوروبا والولايات المتحدة بقايا ومترسبات المرحلة النهائية من تكرير زيوت الطعام في المصانع، ثم شحنها إلى مصر، حيث يتم معالجتها بمواد كيميائية لتبييض لونها، وتدخل في صناعة «المسلى» أو السمن الصناعي. وتنتشر ظاهرة استيراد السلع الغذائية الرديئة بالمخالفة للمواصفات في سلع كثيرة منها الأرز و الأعلاف والألبان المجففة وغيرها. وتعاني السوق من شحة ملموسة في الأرز المطروح للبيع في بلد كان حتى سنوات قليلة يصدر الأرز بكميات كبيرة. وقد ارتفع سعر الكيلو غرام من الأرز في الأسبوع الأخير إلى ما يتراوح بين 20 إلى 25 جنيها، وسط ندرة ملحوظة في السوق.

محركات ارتفاع الأسعار

على الرغم من أن ارتفاع الأسعار ظاهرة عالمية إلا أن آثاره كانت مضاعفة في مصر لأسباب عديدة، يعود بعضها إلى عوامل ضعف هيكلية، أهمها أن سلاسل إمدادات السلع الغذائية، وأولها صناعة الخبز تبدأ من الخارج، وهو ما يشكل ثغرة واسعة في منظومة الإمدادات الأساسية في مصر، ويجعل أمنها الغذائي معرضا للخطر. كما أن السوق تعاني مثل غيرها من أسواق العالم من تداعيات اضطراب سلاسل الإمدادات وتقلبات الأسعار. ومنها أسباب تعود إلى عوامل متعلقة بأخطاء في السياسة الحكومية مثل التغييرات المفاجئة في سياسة الاستيراد في الشهر نفسه الذي بدأت فيه حرب أوكرانيا، وأهمها قرار إلغاء العمل بنظام أوراق التحصيل والعمل بنظام الاعتمادات المستندية فجأة، وبدون منح مدة كافية للتجار لتوفيق أوضاعهم بينما كانت البضائع المستوردة موجودة فعلا في الموانئ المحلية أو غادرت موانئ التصدير. وفي ظل نقص الدولار فإن هذه البضائع التي بلغت قيمتها حوالي 16 مليار دولار، تراكمت على أرصفة الموانئ، وبعضها انتهت صلاحيته، ما أدى إلى نقص المعروض في السوق، وارتفاع الأسعار المحلية. وهناك إضافة إلى ذلك عوامل تقع خارج نطاق سيطرة الحكومة مثل ارتفاع أسعار الفائدة على الدولار الأمر الذي أدى إلى هروب حوالي 22 مليار دولار من الاستثمارات المالية الساخنة خلال أسابيع قليلة، ما ترك آثارا وخيمة على قيمة الجنيه المصري وعلى تمويل الموازنة العامة للدولة محليا. الخطورة التي ما تزال قائمة في السوق حتى الآن بعد كل الإجراءات التي تم اتخاذها لتهدئة السوق تتمثل في استمرار شحة الدولار وشحة السلع في السوق، وهو خطر حقيقي يمكن أن يزيد لهيب الأسعار في شهر الصوم الكريم، حيث يزيد الاستهلاك إلى ضعف المتوسط الشهري على الأقل. وفي ظل انخفاض مستوى تنظيم السوق وعدم شفافية المعاملات التجارية والمالية وجشع التجار فإن المسؤولية تقع على السياسة الحكومية لتحقيق القدر الملائم من التوازن خلال الأشهر القليلة المقبلة، عسى أن تستطيع الإجراءات المتوسطة المدى، مثل القروض والاستثمارات الخارجية أن تلعب دورا في تحقيق توازن لمدة أطول.
تقف وراء أزمة غلاء المعيشة في مصر إذن ثلاث مجموعات من المحركات، المجموعة الأولى تتعلق بالخلل الهيكلي في قطاعات الإنتاج العيني، والثانية تتعلق بتداعيات حرب أوكرانيا واضطراب سلاسل الإنتاج، والثالثة تتعلق بأخطاء السياسات الحكومية.

القدس العربي

Comments (0)
Add Comment