هاجر بوغانمي
يعدّ كتاب «بعض مني.. الدبلوماسية الثقافية بعد المونديال» لمؤلفه سعادة الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري، وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية، الذي تم تدشينه في معرض الدوحة الدولي للكتاب في دورته الثانية والثلاثين، إضافة قيّمة للمنجز الأدبي للسياسي المحنّك، وقيمة مضافة للمشهد الأدبي في الدولة؛ فالكتاب عبارة عن عرض انطولوجي للدبلوماسية الثقافية من منظور مؤلفه الذي قضى أكثر من عقدين في مجال العمل الدبلوماسي، عُيّن بعدها وزيراً للإعلام والثقافة في قطر (1992 – 1996)، ثم وزيرا للثقافة والفنون والتراث (2008 – 2016)، قبل أن يعقد العزم على الترشح لمنصب المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو). وخلال هذه المسيرة الحافلة ألّف سعادة الدكتور حمد الكواري العديد من الكتب التي حافظت على راهنيّتها، وراهن فيها على طبيعة المجتمع القطري الذي «فتح نوافذه لكل رياح العالم لكن دون أن تقتلعه من جذوره»، والعبارة بتصرف للمهاتما غاندي.
ومنذ الوهلة الأولى يبدّد الكاتب الشكوك في أن المجتمعات العربية منغلقة على ذاتها، ويضرب مثالا على ذلك المجتمع القطري «القائم على هوية ثقافية متماسكة»، ثم يردف تعريفه بالقول إنه «مجتمع منفتح منذ تكونه ومؤمن بالتنوع الذي يزيد وطننا ثراء ويجعلنا نفخر بتجربته في التسامح والتنوع والعمل بالقيم الانسانية المشتركة».
والمتأمل في المنجز السردي للدكتور حمد بن عبدالعزيز الكواري يلاحظ ذلك التواشج بين مؤلفاته في سياقاتها المعرفية، وفي مُتونها أيضا، وكأن الأفكار عَوْدٌ على بدء؛ تتوحّد في أصولها المرجعية وتنفتح في تجلياتها لتحاور الآخر وتتفاعل معه، وهي إحدى استراتيجيات الثقافة التي تحيى وتعيش وتؤثر وتتأثر، كما أنها محاولة جادة لتجاوز منطق التنافر والصراع الذي أجّجته البراغماتية السياسية وحفّزته الماكينة الإعلامية الغربية المدعومة من الأنظمة الكولونيالية المعادية للمسلمين على وجه الخصوص، والتي ظهرت بشكل واضح في حملات التشويه المغرضة التي واجهتها قطر منذ أن أعلنت استضافتها لبطولة كأس العالم 2022، وحتى قبيل انطلاق المونديال بفترة قصيرة، وبالرغم من كل تلك الحملات أوفت قطر بالوعد، ونجحت في تحرير الشعوب من ظاهرة الإسلاموفوبيا، وصدح الصوت عاليا: «مرحبا بالجميع في دوحة الجميع».
جوهر الدبلوماسية الثقافية
تقوم فكرة الكتاب على عنصرين أساسيين هما: جوهر الدبلوماسية الثقافية ومرجعياتها التاريخية، والعنصر الثاني يتمثل في مفهوم الثقافة وتحولاته من منظور انثروبولوجي، إذ يجعل الكاتب الثقافة تفسر جميع الظواهر كالظاهرة السياسية والاقتصادية واللغوية أيضا، وكأنه يريد أن ينأى بالمفهوم عن أي اشتباك مرجعي، أو حضاري، منحازا الى عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي «كليفورد غيرتز» الذي اعتبر الثقافة تُقرأ كما يُقرأ النص، ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار كتاب «بعض مني.. الدبلوماسية الثقافية بعد المونديال» محاولة لتأصيل سياق جديد للثقافة وللدبلوماسية الثقافية.
والمتأمل في فصول الكتاب الستة عشر يلاحظ أن هناك تدرجا وتداخلا في الوقت ذاته بين التجربة الذاتية التي خاضها الكاتب في مجال العمل الدبلوماسي والثقافي، و»نضاله من أجل تعزيز الدبلوماسية الثقافية في الوطن العربي» وهي بعض منه كما جاء في العنوان، وبين الثقافة التي تدعم القيم الإنسانية وتؤنسن الكون وفق شروط ومحددات توقف عندها الكاتب ليعزز بها فكرة التقارب، والتسامح، والتعارف.. وهي المحددات ذاتها التي تقوم عليها الدبلوماسية الثقافية.
في ثنايا كتابه، يستند المؤلف إلى مقولات الفلاسفة والمفكرين العرب والغربيين وطروحاتهم حول «نقد الفكر الغربي ومراجعة تصوراته بشأته قضايا العالم المعاصر»، كما فعل عند تحليله لمفهوم المثاقفة، والدور المحوري الذي لعبته دولة قطر في وقت انغلقت فيه دول عربية كثيرة على نفسها بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية التي عاشتها، وخلص الى أن الوفاق العالمي يتحقق بتعزيز دور الثقافة في بناء العلاقات الدولية، وفي تجديد النظام الثقافي العربي الذي أصابه الهوان وفقد فاعليته في التغيير.
صروح معرفية
يذهب الدكتور حمد الكواري إلى أن «الصروح المعرفية مهمة لإسناد أي حركة ثقافية مستقبلية»، وقدم مثالا على ذلك مكتبة قطر الوطنية التي «تعدى هدفها حدود إمداد القراء بموارد المعرفة الى أهداف أبعد ومنها تعزيز قيم المواطنة ونشر القيم الثقافية وبناء قاعدة واسعة من القراء في مرحلة تشهد فيها نسب القراءة في الوطن العربي تدنيا كبيرا».
كما تطرق الكاتب الى قضية الترجمة ودورها في بناء العقل الانساني وتعزيز القيم الإنسانية والمشترك الإنساني. مؤكدا على أنها (أي الترجمة) «منحتنا فرصة النظر الى التاريخ بمنظار مختلف عن أي تقسيم للعصور».
وكعادته لم يخف الدكتور حمد الكواري انشداده للحضارة العربية الإسلامية وتأثيرها على الغرب من خلال حركة الترجمة التي بدأت في طليطلة في القرن الحادي عشر للميلاد، والتي اعتبرها «من أهم مفاخر الحضارة الاسلامية ودليلا على تفتحها وتواصلها مع الحضارات الأخرى». لكن هذا الاعتزاز بمفاخر الحضارة الإسلامية لم يغنه عن الاعتزاز بانتمائه الإنساني وأن «الآخر ليس جحيما، بل هو شرط من شروط وجودنا».
وقد حرص الدكتور حمد الكواري في هذا الكتاب على أن يبين خطوط التقاطع والتلاقي بين الثقافات وانصهارها ضمن شرطها التاريخي والحضاري، مؤكدا على أن «الثقافة التي لا تنتج الأسئلة هي ثقافة جامدة، مثل اللغات التي لا تطور نفسها فمصيرها الزوال»، ودعا في هذا الإطار الى «تمكين الثقافة من مكانتها الطبيعية في العلاقات الدولية»، وقدمها «بديلا عن السياسة»؛ مستشهدا بمقولة لتيري انغلتون «الثقافة نتاج للسياسة».
حيوية الثقافة القطرية
من جانب آخر، حرص المؤلف على أن يقدم النموذج القطري في ممارسة الدبلوماسية الثقافية من خلال المؤسسات والمبادرات الثقافية الرامية الى بناء جسر بين الشعوب والأمم، سواء على المستوى المحلي أو الدولي، في وقت يشهد فيه العالم نزاعات وحروبا على خلفية تضارب المصالح السياسية والاقتصادية.
ويرى الكاتب أن الحاجة اليوم تزداد أكثر من أي وقت مضى إلى تواصل هادىء وحوار حضاري حقيقي يستلهم من التنوع الثقافي قوته وتكامله، ولنا في مونديال قطر 2022 خير دليل على هذا التواصل الثقافي، حيث التقى الشرق والغرب على أرض بحجم مدينة، «وتلاشت التباينات أمام فطرة الإنسان في التعارف»، وتآلفت القلوب وهي تتلاقى لأول مرة على أرض عربية، وأيقنت الأصوات الناشزة التي كانت تنادي بسحب البطولة من قطر أنه لا مجال هنا لخطاب الكراهية والتطرف والإقصاء. وسرعان ما توارت تلك الأصوات عن الأنظار لحظة افتتاح الحدث التاريخي بمشهدية أبهرت العالم، وهو ما يؤكد حيوية الثقافة القطرية التي بمقدورها الاضطلاع بلقاء ثقافات أخرى وإضفاء معنى عليها على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في تعريفه للثقافة الحية.
تجربة ذاتية
في مستوى آخر من الكتابة، وفي إطار تحليله للظاهرة الكروية العالمية يلاحظ القارىء مدى صدقية الكاتب وهو يتحدث عن علاقته بكرة القدم، ولا غرابة في أن لا تكون للدكتور حمد الكواري صلة باللعبة الأكثر شعبية في العالم، إلا في المواسم لتشبثه بالثقافة التي يعتبرها أساسا موجها «لكل ما تصبو إليه الإنسانية» ، لكنه لا يخفي اعتقاده بأنها «لعبة خلافية لدى المثقفين والكتاب»، ويستحضر في هذا الجانب أسماء بعض الكتاب والمفكرين العالميين بعضهم انحاز للعبة ومارسها أو تمنى أن يكون لاعب كرة قدم، وكان نتاج ذلك الهوس إبداعات أدبية تحول عدد منها إلى أعمال سينمائية، فيما كان للبعض الآخر موقف واضح من اللعبة وتبعاتها على الأفراد والمجتمعات. لكن تحولا مدهشا جعل الكاتب يحول اهتمامه الى الساحرة المستديرة عندما حصلت قطر على الاستحقاق التاريخي باستضافة كأس العالم 2022، ولم يكن هذا التحول وليد شغف باللعبة في حد ذاتها ولكن إدراكا منه بأن بلاده أمام تحد كبير ورهان أكبر ومسؤولية تاريخية جسيمة حتى يتسنى للحضارة العربية استئناف مجدها والعبارة للمؤلف. وبين زمن الحدث وزمن الكتابة تقاطعات لا حد لها منها، وتجربة ذاتية غنية بالتفاصيل، غزيرة المعنى والدلالة.
رسائل ذات مغزى
من بين القضايا المهمة التي توقف عندها الكاتب في علاقة بمونديال قطر 2022 هي قضية التوثيق للإرث الثقافي لكأس العالم، و»تفعيل مكتسبات نجاح المونديال على المستوى الثقافي حتى لا تحول فرحة النجاح دون مواصل العمل على تعهد هذه الشجرة التي تحتاج الى عناية كي تورق أغصانها وتطرح ثمارها على الدوام» في رسالة واضحة للمؤسسات والأفراد على لعب دورهم التاريخي في هذا الجانب.
كما لم يخل الكتاب من رسائل عديدة منها ما يتعلق باللغة، والتعليم، والمكتبات.. ومنها كذلك ما يتعلق بالمثقف العربي الذي طالبه بالخروج من مآزقه الكثيرة، والاضطلاع بدوره الطليعي «حتى لا يبقى السياسي متحكما بالمشاريع الاستراتيجية للإصلاح والتغيير»، مؤكدا أنه «من المهم أن نعيد إلى الأذهان صورة المشاركة التنويرية للعرب والمسلمين في الحضارة»، وأن «ليس لهذا التذكير من خيار غير تبني طريق الدبلوماسية الثقافية التي تعيد بث قدرات التجديد في النظام الثقافي العربي».
الشرق القطرية