مروة صلاح متولي
لا شك في أن ستالين طاغية روسيا السوفييتية يعد مرجعاً عظيماً ومثلاً أسمى لكل ديكتاتور مجرم وحاكم سفاح، ولا شك أيضاً في أنه كان ملهماً للكثيرين منهم، فقد وضع ستالين قواعد الديكتاتورية وأسس أركان الطغيان وأقام أعمدته على أفضل ما يكون، وجمع أطراف الرعب والقهر وألوان العذاب وسبل القتل، ودمر فكرة الحرية عن بكرة أبيها واقتلعها من جذورها، وكذلك فكرة حقوق الإنسان، بل إنه دمر معنى الإنسان ذاته.
ستالين المخيف المرعب الجبار، ستالين القيصر أو ستالين الرهيب، الذي تفوق على القيصر إيفان الرهيب وجعله من حيث لا يدري يبدو وديعاً رحيماً أمام جبروته.
حكم ستالين الاتحاد السوفييتي منذ عام 1924 حتى عام 1953، وبالطبع لم ينته حكمه إلا بموته، وكانت الوفاة طبيعية، حسبما يقال. خلف ستالين أمجاداً تذكر وتروى، تضيء الطريق لمن يريد أن يسلكه، وبها يهتدي كل ديكتاتور حائر، وكم رأينا من نماذج سارت على خطاه ونهجه، لكن يظل ستالين كبيراً عظيماً بفرادة الأسلوب الوحشي وتلك اللمسة الشخصية الملعونة، وكذلك على مستوى الأرقام، حيث حقق أرقاماً قياسية مدهشة، لا نعلم إذا كان هناك من استطاع كسرها وتجاوزها أم لا، فالأرقام عند ستالين بالملايين لا بالآلاف، ما بين ضحايا «التطهير» تلك الجريمة السياسية الكبرى التي استهدفت تصفية الخصوم وكل من لا يعجب القيصر الجديد المرعب، سواء كان من الجيش أو الحزب وبالطبع من المدنيين، اعتقالات وإعدامات طالت كبار قادة الجيش وكوادر حزبية، ومفكرين وفنانين، وكتابا وعلماء، وكل من أتى على طريق الديكتاتور أم لم يأت. وضحايا الجوع عندما قرر ستالين أن يخلق مجاعة جماعية هائلة، وأمر بحجر الحبوب ومصادرتها قسراً من الفلاحين، ويقال إن أكثر من خمسة ملايين أوكراني ماتوا جوعاً خلال عامين فقط. وضحايا معسكرات العمل القسري التي كانت تعرف باسم «الغولاغ»، وكانت عبارة عن شبكة ضخمة من المعسكرات وأداة مرعبة لتخويف وتصفية المعارضين، ويقال إن أكثر من 18 مليون شخص أدخلوا إلى تلك المعسكرات، وإن الملايين أيضاً ماتت بسبب قسوة العمل الإجباري وسوء التغذية والبرد القارس. وضحايا الترحيل الجماعي القسري من التتار القرم والبولنديين، وألمان الفولغا والشيشان والإنغوش والبلطيقيين، كان الترحيل القسري يتم في عربات شحن غير آدمية، وبرد شديد وظروف قاسية للغاية، ما أدى إلى وفاة الكثيرين. وضحايا القمع الديني الذي شمل تدمير آلاف الكنائس والمساجد والمعابد اليهودية، واعتقال رجال الدين المسيحيين والمسلمين واليهود وإعدامهم أو نفيهم، ويقال إنه قتل عدداً كبيراً من رجال الدين الأرثوذكس على وجه الخصوص. وضحايا مجزرة كاتين التي شهدت إعدام أكثر من 22 ألف ضابط بولندي، في إطار اتفاق ستالين مع هتلر.
كما أنشأ ستالين نظاماً عظيماً للمراقبة والتجسس، وغرس الخوف في نفوس الشعب وحول الناس إلى كائنات مذعورة مرتجفة، وعلمهم النفاق والجبن والوشاية، يدفع كل منهم الآخر نحو المقصلة ظناً منه أن في ذلك نجاته.
رأي نقدي أم حكم بالإعدام؟
كان ستالين مهتماً بالموسيقى وبالكثير من الفنون الأخرى، وكان يحرص على حضور العروض الموسيقية، وسماع الجديد بنفسه، ليعرف ماذا يبدع الفنان وماذا يسمع الشعب، وليضع المبدعين تحت بصره وتحت رقابة الحزب الشيوعي طوال الوقت.
ولماذا لا يتدخل ستالين في تأليف الموسيقى وهو الذي يتحكم في كل شيء حتى أرواح البشر؟ فليحدد الطاغية إذن ماذا يجب أن يسمع المواطن السوفييتي، وماذا يجب أن يؤلف الموسيقار، ومن يريد أن يصنع فناً فليضع أمام عينيه القواعد التي حددها الديكتاتور. وعندما نستمع نحن الآن إلى المقطوعات الموسيقية الروسية، التي تم تأليفها في عهد ستالين، فإننا نتعرف شئنا أم أبينا على رؤية الطاغية ونظرياته في الفن.
حكم ستالين روسيا ذلك البلد الذي له فضل كبير على الموسيقى، والذي أهدى للبشرية عدداً من عباقرة الموسيقى الكلاسيكية على رأسهم تشايكوفسكي، ولأن روسيا عامرة بالمواهب فقد اجتمع ستالين في عهده مع مجموعة من أبرز مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية في القرن العشرين، وقد تعددت حكايات ستالين مع الموسيقى، حتى وفاته التي تحول هو بعدها شخصياً إلى موضوع موسيقي.
عاش هؤلاء الموسيقيون في رعب دائم، ومنهم من كاد أن يصل السيف إلى رقبته، كانت المعارضة مستحيلة والفرار صعباً، والامتناع عن التأليف ليس ممكناً لأسباب كثيرة، فكان الإبداع يتم في ظروف قاسية، ويحسب لهؤلاء الفنانين، أنهم استطاعوا النجاة بأنفسهم وبالموسيقى، وتركوا شيئاً جميلاً رغم كل ما تعرضوا له من تقييد وترهيب.
الواقعية الاشتراكية وإلا..
في عهد ستالين لم تكن الشكلية مصطلحاً فنياً، بل كانت تهمة سياسية وجريمة قد تودي بحياة الفنان، أو تلقي به في المعتقل أو معسكرات العمل القسري، وقد تجعله يختفي إلى الأبد ويظل مصيره مجهولاً. فمن كان يهتم بالشكل الفني والبناء الموسيقي، والتقنيات والجماليات والابتكار الأسلوبي، كان يعتبر أنه تخلى عن المحتوى الأيديولوجي الذي يجب تقديمه إلى الشعب بهدف توجيهه والسيطرة عليه، وأنه لم يمجد الطاغية وانتصاراته، ولم يعبر عن الثورة والجنود والعمال والفلاحين. ويقودنا هذا إلى تهمة أخرى هي تهمة الانحراف النخبوي، التي تعني أن الفنان لا يخاطب عامة الشعب، وينتج فناً يخاطب الفئة المثقفة من المجتمع، وهو بذلك يعد منفصلاً عن الطبقة العاملة ويخالف أهداف الواقعية الاشتراكية، فالفنان السوفييتي يجب أن ينتج فناً يعكس انتصار الاشتراكية ويخاطب الجنود والعمال والفلاحين، وأي خروج عن هذا كان يعتبر انحرافاً عن الخط الأيديولوجي للحزب الشيوعي. كما كانت هناك تهمة استحضار عناصر البورجوازية الغربية، وتهمة النفور من القيم الاشتراكية، وتهمة التأثر بالفن الغربي الرأسمالي، والابتعاد عن النضال الثوري والتخلي عن خدمة الأهداف الاشتراكية، وفُرض على الموسيقى أن تكون منتصرة سعيدة بالاشتراكية، متفائلة بوجود ستالين.
كانت هذه التهم وسيلة لإخضاع الفنانين وتخويفهم طوال الوقت، حتى إن لم يرتكبوا شيئاً من تلك الجرائم، من أجل إحكام السيطرة على الجميع والحصول على الفن المطلوب، الذي يمجد ستالين والحزب الشيوعي ويظهر الجنود والعمال والفلاحين في أبهى صورة.
كان أندريه غدانوف يد ستالين الباطشة في ميدان الفن والثقافة، وكان من خلال الحزب واللجنة المركزية يقرر ما هو الفن السليم وما هو الفن المنحرف، والانحراف هنا لا يعني الفن الهابط جمالياً أو المسيء أخلاقياً، وإنما هو الانحراف عن الرؤية الفنية للديكتاتور.
كان غدانوف يرى أنه لا يوجد فن بريء، والفن إما أن يكون خادماً للشيوعية أو يكون خادماً لأعدائها، ويجب أن يكون أداة دعائية للماركسية اللينينية، ولا يُسمح بالحياد أو التجريب والفردانية، أو الرمزية الغامضة، وعلى كل فنان أن يمثل صوت الشعب العامل تحت إشراف الحزب الشيوعي. فالفن إذن يجب أن يكون تمجيدياً خادماً للحزب والطاغية، وحذارِ أن يستخدم أي فنان الموسيقى كوسيلة تفكير أو تساؤل أو تعبير فردي، ومن يريد أن يبدع فليس أمامه إلا الواقعية الاشتراكية.
بروكوفييف وخاتشاتوريان
في عهد القمع الستاليني عاش الموسيقار سيرجي بروكوفييف مؤلف موسيقى باليه روميو وجولييت وبيتر والذئب، حاول بروكوفييف أن يوفق بين رؤيته الفنية ومتطلبات الواقعية الاشتراكية المفروضة عليه من قبل ستالين، ورغم أنه ألف العديد من المقطوعات التي تمجد النظام الستاليني، وهو الأمر الذي أضعف مشروعه الفني، لم يشفع له ذلك واتهم بالشكلية ومنع من السفر ووضع تحت رقابة مشددة، واعتقلت زوجته لمدة ثماني سنوات في معسكرات العمل القسري بتهمة التجسس، واكتمل سوء حظه بوفاته يوم وفاة ستالين، فلم يحظ بأي اهتمام رسمي من الدولة التي كانت مشغولة بوفاة طاغيتها.
وفي عهد ستالين أيضاً عاش آرام خاتشاتوريان صاحب موسيقى باليه غايانه ورقصة التتار الشهيرة، وأحد أشهر مؤلفي الموسيقى في الاتحاد السوفييتي والعالم.
كان خاتشاتوريان مرضياً عنه وحصل على جائزة ستالين، ورتبة بطل العمل الاشتراكي، ورغم ذلك تعرض للهجوم واتهم بالانحراف النخبوي، وأجبر على نقد نفسه علناً، وكتب اعتذاراً رسمياً لستالين، ثم استقام بعد ذلك وأصبح أكثر حذراً في مؤلفاته.
دميتري شوستاكوفيتش
أما ديمتري شوستاكوفيتش الذي يعد بحق من عباقرة الموسيقى في القرن العشرين، فقد عاش في خوف دائم من الاعتقال أو الإعدام، وكان طوال الوقت يحتفظ بحقيبة صغيرة بجوار الباب تحسباً لإلقاء القبض عليه في أي لحظة.
وبلغ الرعب ذروته عندما كانت أوبراه «ليدي ماكبث من متسنسك» تعرض على المسرح وتحقق نجاحاً باهراً، وذات يوم ذهب ستالين ليشاهد الأوبرا بنفسه في جولة تفتيشية، لكنه لم يكمل العرض وانصرف غاضباً، بعد ذلك انطلقت صحيفة «برافدا» تهاجم العمل وصاحبه بأمر من ستالين شخصياً، وتلصق به التهمة تلو الأخرى. وهكذا كان الموسيقار على حافة الهاوية، خصوصاً أنه كان قد تم اعتقال بعض أقاربه. بعد هذه الواقعة ألف شوستاكوفيتش السيمفونية الخامسة التي اعتبرت اعتذاراً و «رداً على النقد العادل»، رغم ما تحتويه هذه السيمفونية من رسائل خفية تحمل شيئاً من السخرية وتعبر عن الشعور بالظلم.
عندما نستمع إلى السيمفونية الخامسة فإننا نستمع إلى ارتجافات موسيقار كان يخشى على حياته، ويتوقع القتل، أو الاعتقال في أي لحظة، لكنه في الوقت نفسه كان يعمل بأقصى طاقته على تأليف هذه السيمفونية، التي كان يتطلع إليها كطوق نجاة قد ينقذه من بطش الطاغية، أو يخفف من العقوبة على الأقل.
يحمل هذا العمل في طياته مأساة خفية وسخرية مريرة، فالموسيقى تظهر السعادة بينما في أعماقها حزن بالغ وتعاسة مزرية. مدة السيمفونية 50 دقيقة تقريباً وتتكون من أربع حركات،
الحركة الأولى تمثل انهيار الإنسان تحت ضغط السلطة، وتعبر عن الصراع الداخلي والألم النفسي، وهي حركة بطيئة تعتمد بشكل كبير على الوتريات والهوائيات الخشبية، ويبرز دور الكمان المنفرد في نهايتها.
الحركة الثانية راقصة، لكنها رقصة عرجاء مشوهة، او رقصة مشوبة بالحذر، أنغام سريعة رشيقة تؤدى بواسطة الهوائيات الخشبية والنحاسية وسحبات الأقواس السريعة المتلاحقة على الأوتار، مع ضربات التيمباني والآلات الإيقاعية النحاسية، ثيمة ضاحكة لكنه ضحك إجباري فيه كم هائل من التعاسة والألم والتهكم، والسخرية من البهجة الإجبارية والتفاؤل الذي يفرضه ستالين بالأمر.
الحركة الثالثة تحمل ألماً أعمق وتبدو كمقطوعة جنائزية تعبر عن حزن داخلي وحداد صامت لا يستطيع أن يعلن عن نفسه، هي حركة هادئة قاتمة الأجواء، فيها انبعاثات الحزن الرهيب داخل الأنغام الصارمة والذاتية المتخفية، وتلوين صوتي رائع باستخدام الوتريات والفلوت والهارب والكلارينيت.
أما الحركة الرابعة فنستمع فيها إلى أنغام حماسية تعبر عن الانتصار، تبدأ بضربات إيقاعية قوية وسريعة مع احتشاد النحاسيات النفخية، ويكون الختام ملحمياً مع ضربات القوة، تعبر الحركة عن النصر المزيف والإجبار على الاعتراف بهذا النصر، والشعب المجبر على الابتهاج رغم المأساة. من يستمع إلى السيمفونية الخامسة يستشعر بالفعل هذه الرسائل الخفية التي ضمنها شوستاكوفيتش في عمله، ويعد ذلك شجاعة كبرى من الموسيقار الذي ربما اطمأن إلى غباء الطغاة وأعوانهم، وأن رسائله سوف تصل فقط إلى من يملك قلباً.
ستالين في السيمفونية العاشرة
ظل شوستاكوفيتش مهدداً في حياته المهنية والشخصية، رغم أنه حصل على جائزة ستالين ووسام لينين، وظل الرعب يلازمه، فبعد أن نجا من واقعة 1936 بخصوص أوبرا «ليدي ماكبث من متسنسك»، تعرض عام 1948 لحملة عنيفة واتهم بالشكلية والابتعاد عن الواقعية الاشتراكية والجماهير. وتم استدعاؤه للوقوف أمام اللجنة المركزية في جلسة تحت إشراف الحزب الشيوعي، وأجبر على كتابة منشور رسمي وإلقائه علناً، واعترف أنه أخطأ حين ترك الطابع القومي والمضمون الشعبي واتجه إلى الشكلية، وتجاهل واجبه كفنان سوفييتي في خدمة الشعب، وتعهد بأنه سوف يصحح المسار.
كان ذلك تحت التهديد المباشر والرعب الشديد في عملية إذلال مطلق لموسيقار عبقري، ورغم كل ما حدث في تلك الجلسة لم يخل الأمر من بعض العقوبات، حيث تم حظر عزف الكثير من مؤلفاته، وفصل من عمله في الكونسرفتوار، وأجبر على تأليف موسيقى أفلام وخطب احتفالية ليثبت ولاءه.
بعد وفاة ستالين عام 1953 ألف شوستاكوفيتش سيمفونيته العاشرة، وكان يشعر بشيء من الحرية للمرة الأولى منذ سنوات طويلة. السيمفونية تعبر عن الذات أو عن استعادة الذات، وعن المعاناة في عهد ستالين، بل إنها تصور ستالين ذاته في الحركة الثانية كوحش هائج مخيف، يستغرق عزف السيمفونية ساعة تقريباً وتتكون من أربع حركات.
الحركة الأولى طويلة بشكل بالغ، أفرد فيها شوستاكوفيتش مساحة للحزن وتصوير الصمت والخوف والقهر في عهد ستالين، والصبر المؤلم على إيقاع الظلم البطيء.
الحركة الثانية عنيفة ذات طابع عدواني يصور فيها ستالين بإيقاعات متسارعة هوجاء وأنغام نارية، كأنها آلة قتل متوحشة لا ترحم تتحرك في كل اتجاه.
الحركة الثالثة تبدو كتفريغ لشحنة هائلة اختزنها الموسيقار رغماً عنه لسنوات طويلة.
أما الحركة الرابعة فتبدأ بتأمل حزين ثم تنطلق نحو حياة جديدة فيها تفاؤل متحفظ وانتصار إنساني حقيقي ليس سلطوياً مزيفاً.
كما وظف شوستاكوفيتش في هذه السيمفونية شيفرته الموسيقية باستخدام حروف اسمه، بالإضافة إلى ثيمة إلميرا محبوبته وإحدى طالباته.
لم تكن هناك معارضة ظاهرة من الموسيقيين لستالين، ولم يحاول أي منهم أن يتمرد، وكان جرمهم أنهم كانوا يجنحون بالفطرة إلى أن يبدعوا، وفق هواهم وإحساسهم ورؤيتهم الخاصة، في حين أن الإبداع كان يجب أن يتم وفق هوى الديكتاتور. وحتى من كان رافضاً للواقع كان مضطراً للتظاهر بالولاء، وكان يتجرع الواقعية الاشتراكية ويقحمها في مؤلفاته رغماً عنه.
والحق أن مهمة هؤلاء الموسيقيين كانت صعبة للغاية، حيث الإبداع في أجواء الخوف، وإخفاء القيم الفنية والجمالية والأساليب المبتكرة لكي تكتشف في ما هو مقبل من سنوات، بالإضافة إلى ما تمثله هذه الأعمال خصوصاً لدى شوستاكوفيتش من شهادة على زمن القمع والرعب.
من المفارقات أن يجتمع موسيقار عبقري مع ديكتاتور دموي في مكان وزمان واحد، فأحدهما يمثل ذروة الحق والخير والجمال، والآخر يمثل ذروة الضلال والشر والقبح. والطرف الأقوى في هذه المعادلة معروف بطبيعة الحال، فالموسيقى ترتعد أمام الديكتاتور وتعيش في خوف وذعر، ولا يكون أمامها سوى الاستسلام، لأنها لا تملك أدوات الشر والعنف التي تمكنها من المواجهة. لكن الموسيقى دائماً أذكى من الديكتاتور، وأجمل من أن يستطيع أن يتذوقها، وأعمق مما يستطيع أن يصل خياله. تخضع الموسيقى للديكتاتور لتبقي على حياتها، لكنها بين خبايا أنغامها تسخر منه، وتنتقم لضحاياه، وتوثق جرائمه التاريخية.
كاتبة مصرية
المصدر: القدس العربي