رامي أبو شهاب
السردية أكثر من مجرد نسق حكائي، أو خطابي، إنها شكل من أشكال الوعي بالتاريخ والمعنى، والأهم الإنسان، الذي لا يعيش الوقائع فحسب، أو يختبرها، إنما الأمر يتجاوز ذلك، كونه يعيد تشكيلها داخل بنية لغوية تمنحها شرعية الحضور والاستمرار، ومن ثم إعادة تعريف الذات.
لقد أسهم العديد من المفكرين مثل، بول ريكور، وتودوروف، وهايدن وايت، وفوكو، وإدوارد سعيد في ترسيخ مفهوم السّردية بوصفها منظوراً إبستمولوجياً «معرفياً» يتجاوز الحكاية إلى تمثيل الذاكرة والمصير، وفي الحالة الفلسطينية أمست السردية الفلسطينية أقرب إلى ما يمكن أن ننعته بـ«سردية الدم» من مبدأ أن اللغة أثقلها الدم، وبات الوجود أقرب إلى متوالية من النزيف المستمر، وعليه فقد باتت الضحية واجهة الوجود تبعاً لمعايير تعقيد الحالة والاستمرارية، وفائض الضحايا من المدنيين العزل، بمعزل عن أي غطاء أو دعم من أي جهة أو كيان في هذا العالم، لقد تركت الضحية وحدها، وهنا تتغاير نماذج أخرى اختبرت مفهوم الضحية تاريخياً، فشعوب كثيرة عانت من الاحتلال والغزو، غير أنها كانت غالباً ما تجد مرجعية مساندة حقيقية من محيط ما.
من خصاص سردية الدم الفلسطيني المعاصرة أنها أمست مقاومة للنسيان، قياساً على مخالفة ما قاله محمود درويش يوماً، في اجتياح بيروت عبر عنوان كتابه «ذاكرة للنسيان»، من وظائف سردية الدم أن تعيد إنتاج الذات، وتقاوم المحو، عبر مقاومة تتجاوز البعد المادي إلى مقاومة شكلتها الأشلاء، وفائض الدم، وبناء على ذلك لا يمكن فهم السردية خارج إطارها الثقافي، فهي ليست مجرد تقنية أو تشكيل نصي، بل فعل وجودي يتشكل في صميم علاقة الإنسان بالعالم، فالثقافة غالباً ما ينُظر إليها بوصفها حاضنة للمعنى، كما أنها تمنح السردية مشروعيتها، وديناميتها، ومن هنا تتحول الحكاية إلى أداة لإعادة إنتاج الذات في مواجهة التهديدات الرمزية والمادية على حد سواء.
إن السردية بهذا المعنى تتجاوز كونها تأريخاً للأحداث، كي تصبح شكلاً من أشكال المقاومة الوجودية المكلفة جداً، إذ يتحول الفعل السردي إلى مساحة لتثبيت الهوية، والتفاوض مع الآخر، واستعادة الموقع ضمن جدل القوى، والمعاني التي تصوغ حضور الجماعات والأفراد في التاريخ، غير أن هذا يمر عبر الدم والجوع، والحصار والتهجير.
تتنوع السرديات من حيث بنيتها ووظائفها؛ فثمة سرديات كبرى تتصل بالتاريخ والهوية، وأخرى صغرى ترتبط بتجارب الأفراد، في حين تحتل «السردية الوطنية» موقعاً وسطاً، أو أنها تجمع بين التوثيق والتمثيل الرمزي، وبناء على ذلك تنبثق «سردية الدم» بوصفها خصوصية فلسطينية، وعلامة وجودية، لا باعتبارها مجرد حكاية مأساوية فحسب، إنما كونها تعدّ نمطاً من أنماط التشكل الوجودي الذي يفرض نفسه على مدار قرن من الزمن، ومن هنا يمكن تفهم كيف تتجذر هذه السردية من خلال تراكم الأحداث، من النكبة إلى المجازر المتتالية، مروراً بالحصارات والاغتيالات، ولا يمكن إلا الإقرار بما نشرته صحيفة «هارتس» قبل فترة، ضمن تشكيل أقرب للاعتراف، حيث وصلت حصيلة الضحايا الفلسطينيين أو أنها اقتربت من عتبة 100 ألف فلسطيني بنسبة تقارب 4% من عدد سكان قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 ما يجعل من هذه الحرب «الأكثر دموية في القرن 21»، ويمكن ملاحظة أن هذه العدد يكاد يكون محظوراً ذكره في الصحافة العربية، التي على ما يبدو أنها لا ترغب في التذكر أو أنها غير معنية بذلك، وعلى ذلك يمكن القول بمعنى استمراريتها السردية، التي لا تنغلق على لحظة زمنية محددة، إنما تمتد بوصفها مساراً تاريخياً مستمراً، ما يجعلها نموذجاً سردياً يتجاوز المحكي التقليدي إلى شكل من أشكال الحضور الثقافي الرمزي.
تتأسس «سردية الدم» الفلسطينية ضمن إطار تركيبي معقّد، إذ يستند إلى مجموعة من المحاور التي تمنحها خصوصيتها البنيوية والدلالية، والنفسية والثقافية، تبعاً لمعايير محددة، أولها يتمثل في ديمومة حجم الضحايا، حيث لم تعد المجازر أحداثاً معزولة، أو محدودة، إنما هي سلسلة متواصلة تتكرر منذ عام 1948، وتضاعف عدد الضحايا في أقل من سنتين، ولعل هذا بما يؤسس لذاكرة جمعية تتغذى على مفهوم النزيف المستمر، أما التهجير القسري، فهو مكوّن بنيوي في هذه السردية، حيث يتحول الفلسطيني إلى موضوع متكرر للنفي والاقتلاع، يُضاف إلى ذلك محاولة استلاب الأرض عبر فعل استيطاني ممنهج، أو مدعوم بغطاء كولونيالي دولي، ويتجاوز السيطرة الجغرافية إلى محاولة تصفية المعنى الرمزي للوجود الفلسطيني، ومن هنا تتعمق السردية لمقاومة مسار تصفية الوجود، وبذلك يتحول الفلسطيني من مشروع حياة إلى هدف للإلغاء الجسدي والرمزي والثقافي.
إن مآلات هذا الواقع تأتي على خلفية تتعالق بالصعيد السياسي نتيجة تعقد المشهدية بفعل التداخلات الدولية، بالتوازي مع غياب مشروع عربي موحد، حيث يظهر التخاذل العربي والإسلامي الذي يعني هشاشة في الوعي في مواجهة الانحياز الغربي للجلاد، من خلال التفاف إعلامي ودبلوماسي يعمل على شرعنة العدوان، ويمنحه غطاءً أخلاقياً زائفاً. ولعل من شأن ذلك أن ينتج سردية تتجاوز الجغرافيا إلى الحقل الأخلاقي، حيث يصبح الدم الفلسطيني نصاً مسكوناً بالألم، والعجز الجمعي، ولكن الأهم الخذلان.
إننا إزاء مشهدية تتجاوز حدود التوصيف العابر، أو الاستجابة العاطفية السطحية بحيث نواجه صورة مشحونة المستويات، ومتعددة للمعاناة، فما جرى ويجري في غزة ـ عبر ما يسمى «مؤسسة غزة الإنسانية» ـ يكشف عما يمكن وصفه بتركيب سردي بصري جديد لم يختبره العالم سوى بالهولوكوست، غير أن ضحية الماضي تعيد إنتاج ضحية الحاضر بالأسلوب ذاته، حيث يتحول انتظار الطعام إلى لحظة موت محتمل، وعلى ذلك لا يصبح القتل حدثاً طارئاً، إنما غدا طقساً يومياً، حيث الطحين الأبيض يمتزج مع الدم، والغبار، وصيحات الألم، ولكن ماذا عن وعي الضحية، واللحظة الأخيرة؟
هذه المشهدية، التي يمكن توصيفها دون تردّد بـ«هولوكوست فلسطيني معاصر»، تقوم على عناصر مركبة: أولها الاستباحة التامة للإنسان الفلسطيني، وثانيها تجريد الضحية من حقها في السرد، أو حتى في التمثيل الرمزي ضمن الثقافة العربية التي أصيبت بحالة صمت مريب، بل يمكن القول إنها باتت تمارس قطيعة معرفية وأخلاقية مع الحدث، فلا خطاب، ولا احتجاج، ولا حتى محاولة تكوين ذاكرة ثقافية حول هذه المجازر المتتالية.
في المقابل، نجد أن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني يمارسان ما يمكن تسميته «إدارة مشهدية للشر»، حيث يتم خلق أو تكريس مشاهد عنف تتجاوز حدود الحرب التقليدية، لتتحول إلى عرض يومي للذبح الجماعي تحت أعين الإعلام العالمي. هنا يصبح القتل علنياً، مشاعاً، مسموحاً به، ويُستهلك بصرياً كأي منتج إعلامي آخر. إن غياب التمثيل الثقافي العربي لهذا الجرح ـ سواء في الرواية، أو الشعر، أو المسرح، أو حتى السينما ـ يعكس ما يمكن تسميته «انهيار الذاكرة الأخلاقية العربية»، أو لنقل بصيغة أشد مأساوية: «موت الضمير الثقافي الجماعي»، من منطلق أننا بتنا في عصر لا يعترف بالضحايا إلا إذا كانوا جزءاً من سرديات القوة أو المال.
هكذا نخلص إلى مشهدية «الطحين والدم» التي أمست أيقونة الألم في عصر غياب الإنسانية، أو في عصر بات يكتفي بالمشاهدة دون فعل، والتعليق دون تدخل، فالشر لم يعد استثناء، إنما بات خياراً أو قاعدة انتقائية من لدن هذا العالم الذي ينتظر تصفية دم الضحية، وهي تسعى إلى كيس طحين.
كاتب أردني فلسطيني
القدس العربي