كرامة يا عرب

 

محمد أحمد بكري

كل يوم تُقصف غزة. كل يوم يسقط طفل تحت الركام، وتصرخ أم تبحث عن فلذة كبدها، ويقف أب عاجز أمام جثمان أسرته. كل يوم تُذبح الكرامة أمام أعيننا، ولا نملك إلا النظر.. والنظر فقط.

هل وصل بنا الحال أن نصبح مجرد متفرجين؟ نتابع الأخبار كأنها مسلسل طويل، نشاهد الدماء على الشاشات ثم نغلقها لنكمل حياتنا العادية، وكأن شيئًا لم يكن. هل تجمدت قلوبنا إلى هذا الحد؟

محمد أحمد بكري

العرب الذين تغنوا يومًا بالعزة والكرامة، الذين كان يُضرب بهم المثل في النخوة، أصبحوا اليوم صامتين. لم يعد الغضب يجري في عروقهم ولم تعد دموعهم تنزل كما كانت، وكأن المأساة لم تعد تعنيهم.

الخذلان مؤلم.. لكنه اليوم صار عادة. صرنا نعيش معه ونتعايش مع عاره. لم نعد نتوقف أمام مشهد أم تحمل جثمان طفلها، ولا نرتجف من صورة جريح يصرخ تحت الأنقاض. نمر عليها مرور الغافلين، وكأنها مجرد لقطات عابرة في نشرات الأخبار.

لم يعد القصف وحده يقتل أهل غزة. هناك موت آخر أشد قسوة.. إنه موت الجوع. ترى الأطفال بعيون غائرة ووجوه شاحبة وأجساد هزيلة ترتجف من الوهن، يبحثون عن لقمة صغيرة تسند حياتهم، عن كسرة خبز تسكت أنين بطونهم الفارغة. تسمع بكاء الرضع فلا تجد أمهاتهم ما يسكته. رجال يقفون في طوابير طويلة على أمل رغيف خبز، ثم يعودون خاليي الأيدي. نساء يغلين الماء فقط ليخدعن بطون أطفالهن الجائعة. الحليب أصبح حلما والخبز عملة نادرة والماء شحيح كأنه كنز. أن ترى إنسانًا يذبل ببطء لأنه لم يجد ما يأكله.. هذا أشد وجعًا من القصف، وهذا أكبر فضيحة لصمتنا.

غزة لا تنتظر منا بيانات استنكار ولا اجتماعات مطولة تنتهي بلا شيء. غزة تحتاج موقفًا.. كلمة صادقة تُقال بجرأة.. فعلًا يهز الأرض. غزة تريد أن تشعر أننا ما زلنا نملك شيئًا من الكرامة.

“كرامة يا عرب”، صرخة يطلقها طفل يفتش عن أبيه، يطلقها جريح يمد يده ولا يجد من ينقذه، تصرخ بها حجارة البيوت المهدمة. كرامة يا عرب، لأننا إن فقدناها فلن يبقى لنا شيء.

أي مستقبل نتركه لأبنائنا إذا كانوا يروننا نتفرج على أشقاء لنا يُذبحون ثم نصمت؟ أي تاريخ سيكتبه عنا المؤرخون؟ سيقولون: كانت هناك أمة ترى الموت بأعينها، لكنها فضّلت الصمت على الفعل وفضّلت الفرجة على النصرة.

والأكثر مرارة.. أن أطفال غزة بأجسادهم الصغيرة صاروا أكبر كرامة من أمة كاملة. يقاومون بصدور عارية، بينما نحن نكتفي بالصمت.

يا عرب، إن الكرامة ليست كلمة نعلّقها على جدار،  إنما فعل وتضحية وغِيرة على الدم والعرض والأرض. ومن دونها.. نصبح مجرد أعداد على خريطة بلا معنى ولا قيمة.

غزة تنزف ونحن ننزف معها شئنا أم أبينا. والكرامة اليوم.. إما أن نستعيدها أو ندفنها تحت ركام غزة إلى الأبد.

محمد أحمد بكري – كاتب ومؤلف

 

ابادةالعدو الاسرائيليتجويعحربطوفان الاقصىغزةفلسطينقتلكاتبكرامةمؤلفمجاعةمحمد أحمد بكرييا عرب
Comments (0)
Add Comment