يزن النعانعة
أحمد بن الحسين بن الحسن— الذي عرفه الناس بـ (أبو الطيب المتنبي) — لم يكن صوتًا عابرًا في تاريخ الشعر العربي؛ بل وجهًا صارخًا، صنع من كلمته سيفًا ومن غروره في نفسه نارا.
قيل: لو اضطرّ المرء إلى اختيار ديوانٍ واحدٍ من كل دواوين الشعر العربي فسيختار بلا تردد ديوان أبي الطيب؛ لا لبصمته في الفخر والحكمة وندرة بلاغته، ولا لعبقريته تلك التي لم تكن وحدها سبب مجده، بل لتمردُه المستمر على الملوك وطبيعته العربية الأصيلة التي التقت بقسوةٍ لا ترحم الضعف والغباء.
وُلد أحمد بن الحسين الجعفي في الكوفة حوالى سنة 303 هـ (915م). هذا ما استقر من اسمه ونسبه، غير أن غياب سندٍ قبَليٍّ واضحٍ أو إعلانٍ علنيٍ لنسبه جعل قضية نسبه وقبيلته موضع جدلٍ قديم حديث: فالراحل طه حسين استنتج عبر قراءة نقدية لديوانه، أن المتنبي لم يعرف أباه أو أمه على وجه اليقين مستدلًا بصمت الديوان عن ذكر نسبه المباشر، وكذلك فعل آخرون ممن شككوا بنسب المتنبي وذهبوا مذهب طه حسين وذهب مذهبهم. في المقابل ذهب بعض الباحثين كالدكتور محمود محمّد شاكر لقراءة دلائل لغوية ودالّاتٍ لفظية تشير إلى أنّ المتنبي قد يكون من عائلة علويّة ثرية في الكوفة، وإن ظروف زواج والده من أمٍّ «بسيطة» حالت دون إعلانٍ رسمي للنسب ، تقديره هذا دعمه ظهور مخطوطات لاحقة بحسب بعض الروايات النقدية تثبت دقّة ما ذهب له الدكتور محمود شاكر.
ومع كل اختلاف الروايات وتضارب الاجتهادات حول نسبه وقبيله فالثابت أننا أما فتى نشأ على مزيجٍ من اليتم والنباهة؛ اعتمد فيها على جَدَّتِه التي زرعت فيه أحلامَ العظمة كونه من أحفاد الإمام عليّ، متجاوزةً الواقع: واقعها وواقعه المادي المتدني.
ثنائيّة (التصوّر العظيم للذات) مقابل (الواقع المادي المتدني) كانت «الخلطة» التي غذّت إحباطًا دائمًا رافق المتنبي سنوات طويلة، وتجسَّد في ذاته كشخصية ساخرة لاذعة تُضمر مرارةً بلاغيّة في القول والفعل. فعندما تفشل المؤسسة الاجتماعية في منح المواهب متنفسها ومكانتها، تولد الطبيعةُ التمرديةُ التي أصبحت علامةَ المتنبي البارزة حتى وفاته.
ولد المتنبي وعاش في زمنٍ مضطرب سياسيًا: فقد شهد القرن العاشر الميلادي تفكّكًا جزئيًا للخلافة، وبرزت الإمارات المتعددة، رافقها وجود ثلاثة خلفاء، وظواهرٍ جديدة وناشئة كالقرامطة الذين واجهوا سُنيّة الدولة وتجاوزا ذلك بأعمال عنف وصلت حدَّ مهاجمة مكة وسرقة الحجر الأسود. في هذا المناخ رأى المتنبي نفسه علويًّا عربيًا مندفَعًا لاستعادة هيبة العرب ومواجهة ما أسماه (دولة الخدم) وهذه تسمية استخدمها في نقده لما رآه سيطرةً لجماعات أجنبيّة (من أفارقة، أتراك، فرس) على بواطن السلطة العباسية الضعيفة.
طموحه العلويّ وموقفه المعلن جعلاه يدخل في صداماتٍ: فقد أعلن أن لا باب يفتح له إلاّ بالسيف (الصارم القرضاب) كما وصفه، فاعتُقل في قرية تُدعى «كوتاكين» ومكَث هناك نحو سنتين ابتداءً من عامٍ 321 هـ تقريبًا. كما أنّ بعض الروايات نسبت إليه اتهامًا بادّعاء النبوة، وهو ما ورد في أسباب إطلاق لقب «المتنبي» عليه في بعض المصادر. إلا أن حادثة سجنه جاءت قبل عامين مما روي عن ادعائه النبوة. وهذا ربما يدحض تلك التهمة أو يُدين خصومه ممن ربطوا الحادثتين ببعضهما: سجنه وادعائه النبوة. مرارةُ سجنه بيّنتها قصائده التي حملت سخريةً مُرةً تجاه حابسيه.
وهنا نتأمل نموذجًا كبيرًا: فحين تنحرف آلياتُ العدالة والتنمية الاجتماعية، يتحول الإبداع إلى عاصفة تعبر عن فراغٍ مؤسسيٍّ واحتقانٍ شعبيٍّ. هذه التجربة التاريخية تُعطينا وحتى اليوم بُعدًا تحذيريًا: التفكّك المؤسسي والفساد قد يحرمان المجتمع من قِيَمه وقادة رأيه !
بعد خروجه من السجن وعودةٍ قصيرةٍ إلى الكوفة حيث تلقّى خبر وفاة جدته — أقرب الناس إليه — انطلق المتنبي إلى بلاد الشام حيث وجد في سيف الدولة الحمداني أمير حلب ضالّته. بدا سيف الدولة النموذج المنشود لآمال المتنبي: أميرٌ مجاهدٌ يقارع الروم ويقف ضدّ (دولة الخدم) وفيه عمق الفارس العربي المجاهد الذي كان يبحث عنه.
عاش المتنبي في كنف سيف الدولة تسع سنوات، وهي فترةٌ اعتبرها النقّادُ من أجمل فترات حياته؛ ازدهرت فيها شاعريته وتبلورت هويته الأدبية.
غير أنّ الخلافات نشأت تدريجيًا: فطموح المتنبي لم يتوقّف عند حدود الشعر، بل امتدّ إلى الرغبة بالولاية والسلطة، وطبيعته الساخرة وسَلطِ لسانه ولغته القاطعة كلها عوامل حفزت أعدائه داخل ديوان سيف الدولة وبلاطه. وهذا ما يمكن الاستدلال عليه من تفاقم الصدام بين المتنبي وجلّاس الأمير حتى تعرّض المتنبي للضرب من قِبل كاتب الأمير (ابن خالويه) في مجلس الأمير، قال بعدها قصيدته الشهيرة المعاتبة التي نبضت بألمِهِ وإحباطِه، ومن بيتٍ فيها:
واحرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ
وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
مالي أكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَدي
وتَدَّعي حبَّ سيفِ الدَولَةِ الأمَمُ
إن كانَ يَجمَعُنا حبٌّ لِغُرَّتِهِ
فليتَ أنَّا بِقَدْرِ الحبِّ نَقتسِمُ
حتى يقول:
إن كانَ سرَّكمُ ما قال حاسدُنا
فما لجُرح إذا أرضاكُمُ ألَمُ
في سنة 346 هـ فرّ المتنبي من بلاط سيف الدولة؛ فرَارًا اعتبره النقاد «لحظة موته الحقيقية»؛ ليس لغياب الجسد، بل لانهيار مسارٍ سياسيٍّ وشعريّ كان يمكنه أن يمنح المتنبي موضعًا مستقرًا لو توافرت آليات الحوار والعدالة داخل البلاط.
بعد رحيله عن حلب اتّجه المتنبي إلى مصر و لجأ لبلاط كافور الإخشيدي، الذي كان عبدًا أسود وخصيًا، وهو ما مثّل في نظر المتنبي كلّ ما يكرهه: حُكم غير عربي متسلط بآلياتٍ لا تراعي عروبة المكان والزمان. كان طموح المتنبي أن يمنحه كافور ولايةً أو ضيعةً، فمدحه بعباراتٍ برّاقة فيها كما في أغلب قصائد المديح التي قالها المتنبي سُخرية مضمرة. ومما قاله بيت شهير استشهد به النقاد في النقد والهجاء قوله:
كفى بك داءً أن ترى الموتَ شافياً ، كدلالة على مرارة تعافيه من وهمٍ أو وعدٍ عابر.
لم يكن كافور ساذجًا؛ وبقى المتنبي في موضعٍ يشبه الأسر في البلاط: يحصل كل يومٍ على وعود متكررة وعطاءٍ دون عطايا ومواعيدٌ دون تنفيذ، رافق ذلك نصحٌ من وزراء كافور بمنحه ولايةً، كان يتهكم كافور عند الرد عليها على طموحات المتنبي: (يا قوم، من ادّعى النبوة بعد محمد، ألا يدّعي المُلكَ بعد كافور؟)
وفِي يوم عيدٍ، هرب المتنبي عن مصر، وخلّدَ ذلك في قصيدته الدالية حيث قال:
عيدٌ بأي حالٍ عدتَ يا عيدُ
بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديدُ.
أكملها بهجاء لاذع قال فيه:
نامَت نَواطيرُ مِصرٍ عَن ثَعالِبِها
فَقَد بَشِمنَ وَما تَفنى العَناقيدُ
العَبدُ لَيسَ لِحُرٍّ صالِحٍ بِأَخٍ
لَو أَنَّهُ في ثِيابِ الحُرِّ مَولودُ
في قصيدة الهروب الكبير وثّق المتنبي كل معايير انحراف الإدارة العامة واستشراء الفساد . هجاؤه هنا لم يكن مجرد نقمة شخصية، بل انعكاس عميق لانفصال منظومة الحكم وأدواته عن أفق المحكومين، وتلاشٍ للعدالة الاجتماعية وتمثيل الطبقة السياسية لعامة الناس. وما بينهما من تفتت العلاقات في البلاط والقضاء على آفاق العدل.
في خواتيم حياته، رحل المتنبي إلى بلاد الفرس ومدح بني بويه (الدولة البويهية)، ووصف جمال أرض (شعب بوان)، مدحٌ مزجه المتنبي بكره مدفون، ذاك الكره الذي ولد عليه وعاش، بنزعته العروبية التي تكره الخدم والعجم. كل هذا عبّر عنه المتنبي شعورًا بالغربة، فقال:
ولكنَ الفتى العربيَّ فيها
غريبُ الوجهِ واليدِ واللسانِ.
وبحسب أكثر الروايات، تُوفي المتنبي سنة 354 هـ (965م) مع ابنه محسِّد في طريق عودته من فارس إلى بغداد في موضعٍ يُسمّى (دير العاقول) أو (دير العقول)؛ وتذهب أغلب الروايات إلى أن قتله حصل انتقامًا من هجاءٍ سابقٍ وجهه الشاعر لأفرادٍ من قطاع طرق أو قبيلة طالها لسانه فاصطادته مصادفةً وهو في طريق عودته. وحين دبَّ الذعر في مواجهة قاتليه تذكّر بيتَه الشهير:
الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفُني
والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ
فاندفع يقاتل في معركةٍ أخيرةٍ استُشهدَ فيها هو وابنه، ومات شاعراً بلا أهلٍ ولا مالٍ؛ خاتمةٌ تبرزُ مصيرَ عبقريٍّ فذٍّ افتقر إلى رصيدٍ مؤسسيٍّ يقيه زلزالَ الزمن.
عاش المتنبي حياة محدودة السنوات عميقة الأثر؛ حملتْه أحلامه التي زرعتها جدته، وطموحاته التي اصطدمت بعوائقَ سياسية واجتماعية. فكان صراعه مع «الغباء والحمق» أكثر من متنفس شخصيّ بل ردّة فعلٍ على منظومةٍ مفككةٍ تفتقر إلى مؤسساتٍ ناضجةٍ تُعلي قيمةَ الكفاءة والعدل.
سخرية المتنبي القاسية أفسدت عليه فرص التواصل الإنساني، وربما كانت سببًا غير مباشرٍ في عزلته مقتله. ومع ذلك يظلّ المتنبي شاعرًا محوريًا في الذاكرة العربية: حادّ اللسان، فذّ البيان، مؤلم التجربة، مرآة لصراعات عصره — وصدى لتلك المرارة التي تعيدنا اليوم إلى ذات الدرس: فقيم العدالة وبناء مؤسسات شفافةٍ عادلةٍ ليست رفاهيةً بل ضرورةٌ للحفاظ على نسيج المجتمع الإنساني والحضاري وتقدمه.
يزن النعانعة
أكاديمي وكاتب وشاعر
Yazan_h1987@yahoo.com