أمير تاج السر
أظن أن جميعنا نتفق، أن الأدب عموما، واحد من أفضل مرايا الواقع، يعكسه بتأن، وصبر، ويستخرج منه تفاصيل قطعا موجودة، لكن ربما لا ينتبه إليها الناس العاديون في سيرهم الحياتي اليومي، وفقط ينتبه أديب أو كاتب، عوّد عينه على الالتقاط، وخياله على إضافة شيء مهما كان غريبا، لكن يكون دائما متقبلا وسلسا في السياق الكتابي.
وذكرت مرارا أن كتابة الواقع كما هو للناظر العادي، لا تضيف شيئا، فأنت مثلا حين ترى امرأة تبيع الشاي في الشارع، تكتفي بمنظرها وهي جالسة على ذلك الكرسي القصير، أمامها عدة الشاي والقهوة، وترى يديها تتحركان هنا وهناك، لتوزيع سلعتها. لكن الكاتب يرى دموعها التي تسقط من الحزن، يرى تعبها الذي يهيمن على مشهد الحياة عندها، وقد يرى أطفالا جائعين ينتظرون في بيت متداع في زقاق ما، من أزقة المدينة القاسية، وتفاصيل أخرى، لن ينتبه أو يفكر فيها، شخص جلس قبالتها، وطلب كوبا من الشاي، سيقدم له مع ابتسامة حزينة، هو لن يعرف حزنها.
أظن الكتابة تصنع هكذا، أو على الأقل هذا ما أظنه وأتوقعه من الأدباء عموما، وكلما أمسكت برواية لأقرأها، أمسك ذهني بالتفاصيل المطلوبة، إن عثر عليها، يستمر في تقليب الكتاب وإن لم يعثر، غادر، وفي تلك الحالة، أتنازل كليا عن القراءة.
بعض القراء، قد يجدون تفاصيل الكتابة مملة، ويودون لو يقفزوا عبر الصفحات، ليستعيدوا الحكاية التي قد تكون انقطعت بوصف مكان ما، أو زمان ما، أو وضع إنساني لن يتركه الكاتب من دون أن يتعمق فيه قليلا. وهذا النوع من القراء هم الأغلب، قراء باحثين عن الحكاية المتسلسلة، وغير مهتمين باحتضان زواياها المختلفة، وعندهم الرواية أو القصة، هي بداية ووسط ونهاية، أي حدث يندلع، ينمو إلى الذروة، ثم يتداعى، وأظن أن الكتابة التجريبية، لا تبهرهم، والإغراق في الخيال، لا يزيدهم إلا مللا.
أنا لست ضد أن يتذوق أحدهم الكلاسيكيات فقط، ولا يود مغادرتها، فقط المطلوب هنا هو أن تجرب ما ليس مألوفا، وإن أعجبك تستمر في تتبعه، وإن لم يعجبك، تبتعد. ولا داع أبدا أن يتتبع متذوق للأدب العادي المألوف كاتبا ليس من كتابه المفضلين، ولا يمت لمدرسة تذوقه بصلة، ويكتب في كل مرة ذما لما يكتبه.
من الذين يكتبون تفاصيل مهمة، ومطعمة للحكاية، وليست مملة في رأيي، التركي أورهان باموق، إنه كاتب واقعي صرف، أي أن مدينته التي يكتبها هي المدينة التركية التي نعرفها، وغالبا اسطنبول، والشوارع هي الشوارع الموجودة فيها، وكذا البيوت والأسواق. لكن تفاصيله عظيمة تمكنك من رؤية كل شيء، من التفاعل مع كل شيء، من التعاطف بلا خيارات أخرى إن كانت ثمة حالات تدعو للتعاطف، وكره الأشياء التي قد يكرهها أبطال العمل الذي تقرأه. وتقف روايته «ثلج» في مقدمة أعماله التي يمكن الرجوع إليها وتذوق ما بداخلها في أي وقت، وكان المترجم السوري الراحل عبد القادر عبدللي، قد نقلها للعربية، ونقل روايات تركية أخرى كثيرة لباموق وغيره، ولأنه كان يترجم من التركية مباشرة، من دون لغة وسيطة، كانت ترجماته مذهلة.
أيضا كتابة التفاصيل تبدو مبهرة في كتابة اللاتينيين والإسبان، أي الأدب المكتوب بالإسبانية عموما، ولن آتي على ذكر كتابة ماركيز معلمي الأول لأنني ذكرتها كثيرا، وإنما أتحدث عن واحدة مثل إيزابيل ألليندي، التي تكتب بعمق وكلاسيكية، وتجرب أيضا في بعض أعمالها، إنها كاتبة مهمة في السياق المضني للكتابة، منحت أجيالا مختلفة، كثيرا من الإلهام، وما تزال تمنح. والقارئ لرواية مثل «باولا»، أو «إبنة الحظ» مثلا، لن يكتفي بما قرأه، وسيطارد التجربة ليتعمق فيها. هذا رأيي الشخصي على الأقل، وكما قلت، هناك من له رأي آخر، ولا مشكلة في ذلك.
وفي هذا السياق، أي السياق المضني للكتابة، سيصادفك إن سرت فيه كثيرون بعضهم انتشر بشدة مثل موراكامي وزافون وبعضهم نجح إلى حد ما في الوصول لقراء كثيرين لكن لم يصبح ظاهرة، مثل الألمانية هيرتا مولر، وبعضهم ما زال تحت الاكتشاف، يقرأه البعض بينما البعض الآخر لا يدرون عنه شيئا. وقطعا الحائز الأخير على جائزة نوبل عبد الرزاق قرنه من الذين ينقب العالم الآن عن أدبهم بحثا عما لا يعرفونه، قد يكون الفضول وراء ذلك، وقد يكون متعة الاكتشاف التي كانت وراء كل فعل ناضج.
الأدب العالمي بلا شك له قراء كثيرون بالعربية، وأخشى أن قراءه يتفوقون على قراء الأدب المكتوب بهذه اللغة الرائعة التي لا تجد أنصارا كثرا في العالم مع الأسف. والمتابع للأدب العربي قد يجد ما يبحث عنه، لكن كيف يقتنع أولا؟
لقد تحدثت إلى مئات الناس إما مباشرة أو عبر وسائط التواصل، سألت عن آرائهم في تذوق آداب بلدانهم، وصدمت كثيرا أن بعض الناشئين من الجيل الجديد، من الذين يحبون الأدب، لا يقرأون بالعربية، وإنما باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، بحسب ثقافتهم. وهذا من مشاكل انتشار التعليم الأجنبي في بلادنا العربية، وكلنا مسؤولون عن ذلك، أي أننا حرصنا على أن يتعلم أبناؤنا في مدارس لا تشبه ثقافتنا، من أجل مستقبل وظيفي آمن بحسب ما نرى، وبحسب ما يرصف لنا واقع أسواق العمل الآن، وكم كنت مندهشا حين قال لي أحدهم مرة، أنه يبحث عن رواية لي باللغة الإنجليزية، لأنه لا يستطيع قراءتها باللغة العربية.
أردت القول أن الأدب العربي له خصوصيته، وأفعاله الشيطانية أيضا، وتفاصيل لا يعرفها الأدب العالمي، ستستمتع وتحس بالامتنان للغتك حين تقرأ نصا لمها حسن وسوسن حسن ووحيد الطويلة وأدهم العبودي وعبد الوهاب الحمادي، وكتاب المغرب العربي مثل عبد الكريم جويطي وسمير قسيمي على سبيل المثال. إنها نصوص شيقة، وعامرة بالذكاء الكتابي، وتعرف كيف تشد المتذوق الأصيل.
أمير تاج السر – كاتب من السودان