محمد عيسى محمد
قصة “فرصة ضائعة” للأديب هاشم محمود يمكن القول إنها أكثر من مجرد حكاية فتاة ريفية فقيرة تسعى إلى الهروب من واقعها الاجتماعي؛ إنها مرآة تعكس أوجاعًا إنسانية متجذّرة وتجربة سردية تنبش في عمق النفس البشرية حين يلتبس الحلم بالوهم والطموح بالرغبة والواقع بالتصنّع.
تدور القصة حول فاطمة تلك الفتاة التي نشأت في بيئة فقيرة حيث الجدران تتهاوى والشمس لا تعرف طريقها إلى البيت والطعام يُقسم بالكفاف والملابس تُتناقل بين الأخوات والماء الساخن ترف والعطر سلعة منتهية الصلاحية.
فاطمة لا ترى الفقر عجزًا مؤقتًا بل لعنة أبدية تتوارثها العائلة جيلًا بعد جيل وهي لذلك قررت أن تقاومه بأسلحتها المحدودة لا بالعلم لأجل ذاته بل لأجل ما يُمكن أن يمنحه من بطاقة عبور إلى طبقة اجتماعية أعلى إلى حياة لا تُشبهها بل تُشبه أولئك الذين لطالما نظرت إليهم من النوافذ المهترئة وابتلعت غصّات الحسد في صمت.
القصة تنسج بخيوط متقنة المفارقة الكبرى: فتاة فقيرة تحلم بالزواج من شاب ثري لا حبًا فيه بل حبًا في ما يملك لا إعجابًا بشخصه بل انجذابًا لصورته ترسم له شخصية مسبقة قبل أن تعرفه ترى السيارة وتنسى السائق ترى الملابس وتغفل اليد التي تخيطها تُصنّف الأشخاص من الخارج وتخدع ذاتها قبل أن تخدع غيرها تسكن في وهم أن الثراء وحده يضمن السعادة وأن الفقر خطيئة يجب غسلها بدماء الطموح ولو كانت نواياه زائفة.
ولعلّ أعمق ما تكشفه القصة هو أن الكذبة التي نُقنع أنفسنا بها أطول مما نقنع بها الآخرين. فاطمة بنت مجتمع يُربّي أبناءه على أن الغِنى فضيلة والفقر نقيصة على أن الزواج وسيلة والجامعة مجرد محطة على أن الأناقة حيلة والصدق سذاجة.
لهذا ليس غريبًا أن تتخلى فاطمة عن مبادئ كثيرة من أجل أن تحافظ على الصورة: صورة الفتاة الراقية الغنية التي تستعير الملابس وتعيش خلف واجهة من الزيف تُخفي ألمها تتكتم على ماضيها تحاول جاهدة أن تبدو شيئًا لم تكنه يومًا.
التحوّل الدرامي في القصة لا يحدث عندما تكتشف أن محمد ليس ثريًا بل عندما تُدرك أن كل ما بنته من أوهام يمكن أن يتهاوى بكلمة واحدة: “والدي سائق” عندها فقط تشعر فاطمة أن الحلم لم يكن إلا سرابًا وأن الحظ لم يخذلها كما كانت تعتقد بل هي من خانت نفسها حين ظنّت أن السعادة تُشترى وأن الإنسان يُقاس بما يملك لا بما هو عليه.
تلك اللحظة التي انكسر فيها الحلم دون أن يُكسر تلك المفارقة بين ما أرادت وما وجدت هي ذروة الألم النفسي الذي يصوّره الكاتب ببراعة.
أما شخصية محمد فكانت تجسيدًا مضادًا تمامًا لفاطمة. شاب بسيط يعمل ليساعد والده لا يتصنّع لا يدّعي يتحدث بهدوء يحمل طموحًا شريفًا بأن يكمل دراسته ويصبح أكاديميًا.
في زمن يُقدّس المال والسلطة يأتي محمد ليمثّل فئة صامتة من الشباب الذي يعمل بكرامة ويحلم بأقل مما تستحقه أحلامه لكنه لا يشتكي ولا يصرخ ولا يتصنع. ورغم محورية شخصية فاطمة إلا أن حضور محمد – وإن كان جزئيًا – حمل في طيّاته رمزية عميقة: أن البساطة ليست نقصًا وأن الصدق لا يحتاج إلى ديباجة.
قصة “فرصة ضائعة” لا تنتهي فعليًا عند نقطة الانفصال الصامت بين الحلم والحقيقة بل تفتح أسئلة أكبر: كم من الأحلام خسرنا لأننا سعينا وراء سراب؟ كم من الفرص ضاعت لأننا لم نُحسن رؤيتها؟ كم من الأشخاص صادقونا بصدق ونحن كنا مشغولين بتفاهة الواجهة؟ القصة ليست فقط نقدًا لحالة فردية بل صيحة في وجه ثقافة كاملة ترى في الإنسان رصيده لا رصيده القيمي.
لغة القصة تميل إلى البساطة لكن وراءها عمق نفسي واجتماعي واضح مشاعر الشخصية الرئيسية تُرصد بدقة دون تهويل والحوار يتدفق بسلاسة كما أن التفاصيل الصغيرة — مثل العطر المنتهي الجدران المتهالكة استعارة الملابس نظرة الزميلات وغياب الشمس – كلها عناصر تلتحم لتبني صورة واقعية مؤثرة عن فتاة تناضل بطريقتها الخاصة حتى لو كانت طريقة مغلوطة.
في النهاية “فرصة ضائعة” ليست فقط عنوانًا لقصة بل توصيفًا لحال كثيرين يضيّعون فرصهم الحقيقية وهم يلهثون خلف فرص وهمية يغفلون من يمد إليهم اليد من القلب ويبحثون عمن يمد إليهم المظهر والجاه دون جوهر هي قصة تُعيد ترتيب المفاهيم في الأذهان وتدعو القارئ لا ليحكم على فاطمة بل ليتأمل نفسه في مرآتها.
محمد عيسى محمد
•كاتب من جيبوتي .
•عضو نادي القصة الجيبوتي ..