مارك فرّو وخرافة الشتات اليهودي

 مالك التريكي

عندما أتى المؤرخ الإسرائيلي شلومو صاند قبل سنوات إلى لندن لتقديم الطبعة البريطانية لكتابه «اختراع الشعب اليهودي» لاحظت أثناء محاضرته أن ما عرضه من وقائع واستنتاجات ليس كله بجديد علي، بل سبق لي أن قرأت مثله في كتاب «محرّمات التاريخ» للمؤرخ الفرنسي مارك فرّو. وبما أن هذه الوقائع والاستنتاجات تعدّ ثورية بمقاييس الغربيين، لأنها تنسف ما رسخ في لاوعيهم من مسلّمات حول علاقة اليهود بأرض فلسطين التاريخية، فقد أدت إلى إثارة عاصفة ضد المؤرخ الإسرائيلي، ولو أنها لم تسترع كبير انتباه عندما طرحها المؤرخ الفرنسي.
بعد المحاضرة جلس صاند لتوقيع كتابه وتبادل الحديث مع القراء، فما أن ذكرت له اسم مارك فرّو حتى أجاب باسما: أعرفه حق المعرفة، فقد كان أستاذي أيام الدراسة في باريس! وقبل أن أتمكن من التعقيب، قال لي: صحيح أن مارك فرّو هو أول مؤرخ غربي يقوض خرافة الشعب اليهودي وخرافة انتمائه لأرض فلسطين! وبعد ذلك تأكدت لي أمانة صاند عندما قرأت في كتابه ما يلي: «يجدر بي أن أذكر هنا أن محادثاتي مع المؤرخ الفرنسي مارك فرّو قد زوّدتني معرفة وألهمتني فكرة تأليف هذا الكتاب. انظر مقاله «هل جميع اليهود ساميون؟» في كتابه محرمات التاريخ».
وما كتبه مارك فرّو هو أنه اكتشف أثناء عمله أستاذا للتاريخ في وهران، من 1948 حتى 1956، أن معظم يهود الجزائر هم من الأمازيغ، سكان البلاد الأصليين. كما اكتشف الأمر ذاته عندما زار المغرب. فإذا بهذا المعطى الاجتماعي المغاربي يفضي به، عبر سلسلة من الأسئلة، إلى الوقوف على حقيقة مدهشة في بساطتها لكن الخوض فيها بقي محرّما في الثقافة الغربية: أن وجود عدد معتبر من سكان إفريقيا الشمالية والشرق الأدنى وأوروبا الجنوبية والشرقية ممن اعتنقوا اليهودية، عن اختيار، منذ قرون بعيدة إنما يعني أن اليهودية ديانة وليست عرقا. ثانيا، أن يهود اليوم هم في معظمهم أحفاد هذه الأمم المتنوعة التي اتخذت اليهودية دينا، أي أنهم ليسوا من يهود الشتات الناجم عن تهجير العبرانيين من فلسطين في القرن الأول الميلادي (علما أنه لا يوجد في وثائق الإدارة الرومانية ما يثبت أن عملية التهجير وقعت أصلا).

يهود اليوم هم في معظمهم أحفاد هذه الأمم المتنوعة التي اتخذت اليهودية دينا، أي أنهم ليسوا من يهود الشتات الناجم عن تهجير العبرانيين من فلسطين في القرن الأول الميلادي

ثالثا، بما أن اليهود ينتسبون إلى ديانة واحدة ولكنهم لا يمثلون عرقا ولا يؤلفون شعبا، فإن الزعم بأن جميع اليهود في كل بقاع الدنيا اليوم هم من أحفاد مملكة داوود وورثتها، بحيث يحق لهم «العودة» إلى أراضيها، إنما هي مجرد خرافة صهيونية. ويضيف مارك فرّو أن سلطة المحرمات هي التي جعلت الثقافة الغربية تستنكر، أو تتجاهل، كتاب آرثر كوسلر «القبيلة الثالثة عشرة» الذي أثبت أن يهود أوروبا متحدرون من مملكة الخزر (بولندا وأوكرانيا والقرم حاليا) التي تهودت لما اعتنق ملكها اليهودية في القرن التاسع، بينما احتفت بكتابه «ظلام في رائعة النهار» لأنه فضح جرائم الأنظمة الشيوعية.
كان مارك فرّو، الذي رحل عن الدنيا الشهر الماضي، من المؤرخين المجددين. فهو أول من اعتمد الصورة وثيقة تاريخية، وتمكن بفضلها من كشف زيف كثير من الحقائق الرسمية المتصلة بالثورة الروسية والحربين العالميتين. وكان بالغ الاهتمام بالسينما كمادة تاريخية في أبحاثه الجامعية وأنشطته الإعلامية، حيث قدم مئات من البرامج التلفزية التي انتهج فيها تحليل الصور والأشرطة السينمائية. وكان يقول: كما أن الرواية هي التي تنبئنا عن واقع مجتمعات القرن 19 في أوروبا فإن السينما هي التي تكشف لنا واقع مجتمعات القرن 20. ورغم أنه عرف بالاختصاص في التاريخ الروسي، فإن تجربته في الجزائر قد جعلته من أعمق المؤرخين فهما للظاهرة الاستعمارية. ويتجلى ذلك بالخصوص في كتابه «صدمة الإسلام» وفي «السجل الحالك للاستعمار» وهو كتاب جماعي أشرف على تحريره وقدّم له بدراسة شرح فيها المنطق الاستعماري وكيف تبدلت مسوغاته التبريرية وتحولت ما بين القرنين الـ16 والـ20.
وأرى أن «الغيظ (أو الحقد) في التاريخ» هو من أجود كتبه، أوّلا لأنه نموذج تطبيقي لما يدعو إليه من وجوب التحرر من الرؤية الغربية للتاريخ، وثانيا لأنه يبرهن أن من الممكن فهم كثير من أحداث التاريخ وارتداداتها انطلاقا من عامل واحد: الشعور الفردي أو الجماعي بالغبن أو الإهانة أو المذلة، أي ما يعرف في ثقافتنا العربية بالمظلوميّة، وما يولده هذا الشعور من رغبة في تصفية الحساب إما بالقصاص أو الانتقام. ولا عجب أن تكون تلك بالضبط هي المقولة التاريخية التي توصل إليها جان دانيال هو الآخر بعد تجربة مديدة أثمرت شهادة صحافية مميزة على معظم أحداث القرن العشرين. أما في كتاب «التعامي» فقد وثّق لنا مارك فرّو الفاجعة الدائمة: أننا، بني آدم، قلّما ننجح في استشفاف القادم التاريخي، بل إننا غالبا ما نخفق حتى في إبصار الواقع العياني!

كاتب تونسي

القدس العربي

Comments (0)
Add Comment