البابور الموقع العربي

مثقفون ودعاة وفنانون ورياضيون: بين الصمت والتخاذل

889

د. رامي ابو شهاب

لا يمكن أن نعدّ المثقف مثقفاً حقيقياً، إذا لم يستند إلى مرجعية أخلاقية تؤطر دوره، ولاسيما عند مواجهة موقف أخلاقي يتصل بقضية لا تحتمل اللبس، أو الغموض، وهنا نستدعي أطروحة الفيلسوف الفرنسي جوليان بندا في كتابه «خيانة المثقفين» التي تنهض على فكرة تختصر الكثير من الجدل حول حقيقة المثقف، وتتحدد بتخلي بعض المثقفين عن دورهم في مساندة العدالة، والنموذج الأخلاقي، وسلطته؛ لأنهم يرتهنون إلى تنظيم يُستغل من قبل الحكومات؛ فيلجؤون إلى المواربة في لغتهم عن الحقائق والمواقف لصالح المؤسسة، أو الأنا، وهنا ثمة وعي بما يقومون به، فيحرفون الحقائق، ويتجاهلون العدو الحقيقي، لصالح هذا التعديل، في نموذج خطابي تقوده السلطة المؤسساتية.
وفي السياق نقرأ ما يمكن أن يصدر من مواقف أو خطابات عن بعض المثقفين، وهذا يشمل المشاهير أو الشخصيات، أو التي تحتمل دوراً جماهيراً في وعي الجماهير، بما لها من تأثير كبير، بحيث يكون خطابها المنتج اختباراً حقيقياً لموقفها الأخلاقي.
وفي سياق الأحداث الجارية في فلسطين، وما تشهده عموم أراضيها من مقاومة الاحتلال، وهي مقاومة مشروعة وتاريخية، لا ينكرها سوى متخاذل.. إلا إن بعض المثقفين ارتهنوا لصالح خطاب المؤسسة، وفي بعض الأحيان مراعاة لمصالحهم الذاتية، وصورتهم في سياقات مغايرة، ولكن تكمن المفارقة بين مثقفين آخرين نراهم أكثر جرأة، على الرغم من أنهم ربما يضطرون لدفع ثمن موقفهم، كونهم لن يتمكنوا من تجاهل ضميرهم الأخلاقي، وثمة ثلاثة أنواع من المواقف من قبل المثقفين، بمن في ذلك المشاهير، وتحدد بتجاهل القيم الحقة من خلال تأويلها تبعاً لاجتزاء واضح، هناك من ينحاز إلى القيم بوضوح وجرأة؛ لأنه يرفض أن يخادع عقله وضميره، وهناك من يلتزم الصمت أو الحياد، وهؤلاء يرفضون إشهار مواقفهم للمحافظة على مكتسباتهم، ولكنهم يبتعدون عن تزييف الحقائق، لكونهم ذاتيين بشكل مفرط.
في سياق يشهد العالم تحولاً في إدراك حقيقة الكيان الصهيوني، ومشروعية المقاومة، إلا أن البعض يبدو أسير أوهام حواضنه المؤسساتية، أو ذاته في مجال عام، مقابل حضور عقول مؤثرة بوعيها ومنتجها، ومنهم – على سبيل المثال- المفكر واللغوي نعوم تشومسكي، الذي يشهر دعمه للقضية الفلسطينية كونه مثقفاً يعي أين تكمن الحقيقة، على الرغم من وطأة السياقات، وعوامل الضغط، وبذلك فهو يعبّر عن شجاعة المثقف، مع الإشارة إلى أن هنالك الكثير من المثقفين والمشاهير الذين ينتمون إلى أديان، وثقافات أخرى لم يتخلوا عن ضميرهم الأخلاقي لأن هذا يعني اختباراً لإنسانيتهم.

لعل اللاعب العربي الأشهر في الدوري الإنكليزي قد بدا موقفه خجولاً يفتقر للجرأة على التصريح بموقف أخلاقي، لا يحتاج إلى تردد وتفكير، في حين أن مقارنته مع زميل آخر رياضي في النادي عينه، كان أكثر وضوحاً في مساندته لقضية كونية لا تحتاج إلى تردد.

صدام الايدلوجيات

مقابل هذه الأسماء التي تتبنى الحقيقة، وموقفها الأخلاقي نرى بعض المثقفين أو المشاهير العرب، الذين يشككون بالمقاومة، ويراهنون على فشلها من منطلقات تبدو شديدة الضيق، ولا تفسر! فكيف يمكن أن تخرج عن عقول قد أحدثت تحولات في الثقافة العربية، حيث ينطلقون من منطق العداء الأيديولوجي الذي يمكن تفهمه في حالات السلم، ولكن لا يمكن تفهمه حين يكون في مواجهة عدو تاريخي مغتصب، ففي تصريحات لبعض المثقفين العرب، يحاولون وضع سيناريو تحليلي بائس، إذ يصف بعضهم المواجهة بأنها ستنتهي إلى هدنة، في حين سيدفع الشعب الفلسطيني الثمن بالأرواح؛ مع خسائر مادية من مبدأ أن فئة، أو حزباً ما (يدافع عن قضيته) قد ارتهنهم لصالح صراعه مع الكيان الصهيوني، وهنا ينطلق من موقف يدعي الحرص، أو التباكي على الشعب الفلسطيني، ومن جهة أخرى فهم قلقون على الأموال التي ستدفع لإعمار غزة، التي ستتكفل بها بعض الدول! في حين يتناسون أن الأرض محتلة وتتعرض لحصار لا إنساني… وأن دولة الكيان تحدث تحولاً على الأرض، في ما يتعلق بتهويد القدس، وبناء المستوطنات، أي منطق هذا الذي يأتي بعض المثقفين الذين انشغلوا بتعرية الأنساق الثقافية، وتحليل الظواهر، كي يشعروا بالقلق على المال، ويتناسون الأموال التي استبيحت لسفاسف الأمور! في حين أن هنالك أرواحاً تزهق من أجل حريتها، وخلاصها، والأهم أنها تناضل من أجل قضية عقدية تتصل بالقدس والمسجد الأقصى، كما هناك وطن بأكمله مستلب، منذ أكثر من سبعة عقود، ألم يقرأ هؤلاء المثقفون عن حركات التحرر في العالم؟ ألم يقرؤوا عن الأثمان التي تدفعها الأمم والشعوب من أجل قضاياها؟ ألم يقرؤوا أن أمريكا – داعمة إسرائيل- ناضلت من أجل تحررها من الإنكليز؟ ألم يقرؤوا عن نضالات الجزائر وفيتنام، وغيرهما، من الدول التي خضعت لاحتلال؟ ألم يتعرفوا على نضالا شعب جنوب افريقيا من أجل التخلص من نظام الفصل العنصري؟ كان من الأجدر أن ينتقدوا على الأقل الجلاد، لا أن يلوموا الضحية على مقاومتها.
إذا كان ذوو الشهداء الأطفال يعلنون إنهم يقدمون أرواحهم وأرواح أحبتهم لصالح الأقصى.. فكيف يمكن أن يستقيم ما يكتبه بعض المثقفين؟ وأي مثقفين هؤلاء الذين يعجزون عن رؤية الظاهر، والحق، في حين يغرقنا بعضهم بتحليلات ثقافية عن المضمر، والظاهر والباطن، وحقوق المرأة.. لا يمكن تفسير ذلك سوى بأنه تناقض صارخ، إما نتيجة إرهان لوعي مؤسساتي، وإما أنه لا يحتمل سوى عجز في الرؤية عميق، يجعلنا ننصرف عن كل ما كتب، ونفقد الثقة بتعريفه أو بوصفه مثقفاً. في حين يأتينا مثقف أو مؤرخ أو روائي آخر بحقائق مغلوطة، ومفاهيم لا تستقيم منطقياً حتى في وعي أي طفل من أطفال فلسطين، حيث الكل يعرف أن المسجد الأقصى يعدّ مكانا مقدساً للمسلمين، وأن القدس كانت لقرون مفتوحة ومشرعة لجميع الديانات في ظل الحكم الإسلامي، ألم يدرك بأن الكيان الصهيوني يسعى لتهويد القدس، ونفي أهلها، وترحيلهم كي تكون يهودية خالصة؟ كيف يمكن طرح مفاهيم وتأويلات مغرقة بمحاولات لفت الانتباه، والشهرة عبر السعي للبحث عن الاختلاف، على حسب الضمير الإنساني، والحق.

الممثل الأمريكي مارك رافالو

كل هذا يعني أننا نعاني من خلل عميق في إنتاج المثقفين الذين ينالون حظوة، بوصفهم من كبار المثقفين العرب، ولعل هذا يفسر عدم قدرة العقل العربي على إنتاج منظومة معرفية تقودنا للازدهار، كون المؤسسات قد أنتجت هؤلاء المثقفين عبر دفعهم إلى المواقع الأكثر حساسية، ومعظمهم يرون الحقيقة، ولكنهم يتجاهلونها.. ربما يكون الاختلاف الأيديولوجي مع أحد أطراف المقاومة مبرراً، ولكن في السياق الراهن فإن ما يجري الآن ليس في مجال الحديث عن الاختلاف الأيديولوجي، حيث يمكن تنحية هذا، غير أن التناقض الصارخ حين تطعن في المقاومة من أجل قضية عادلة لا يمكن التشكيك بها بأي صورة من الصور، وتصفها بأنها عبثية حرصاً على الأرواح، وهذا يتنافى مع أهم درس من دروس التحرر، وهذا يبدو متناقضاً، حين يتجاهل هؤلاء المثقفون حروباً أخرى تشن في مناطق تبدو للكل عبثية، ولا منطقية.

مواقف النخبة

إننا هنا لا نستدعي عملية محاكمة للآخرين، بمقدار ما نتلمس مدى التأثير الأخلاقي للمشاهير على وعي من يعتقدون بقوة تأثيرهم، فهناك ممثلون عظام في هوليوود ساندوا القضية الفلسطينية أشهرهم الراحل مارلون براندو، غير أننا لو طرحنا بعض الأسماء الأخرى لمشاهير معاصرين يحسبون على ثقافتنا ولغتنا، وقوميتنا وديننا… وكل ما تشاؤون، فإننا سنجد فرقا هائلاً بين مواقفهم ومواقف مشاهير آخرين ومنهم الممثلة الإسرائيلية نتالي بورتمان والممثل الأمريكي مارك رافالو والممثل الأيرلندي ليام كونينغهام، وغيرهم الكثير ممن يساندون حقوق الشعب الفلسطيني بشجاعة، في حين هنالك مواقف بعض الدعاة والفنانين والفنانات والمثقفين والرياضين العرب الذين أعمتهم نرجسيتهم، أو ارتهانهم لخطابات مؤسساتية، ومعظمهم هامشيون لا يحظون بأي تأثير. لعل اللاعب العربي الأشهر في الدوري الإنكليزي قد بدا موقفه خجولاً يفتقر للجرأة على التصريح بموقف أخلاقي، لا يحتاج إلى تردد وتفكير، في حين أن مقارنته مع زميل آخر رياضي في النادي عينه، كان أكثر وضوحاً في مساندته لقضية كونية لا تحتاج إلى تردد، وهذا ينسحب على أسماء كثيرة من الرياضيين العرب وغير العرب، الذين لم يتمكنوا من تجاهل ضمائرهم؛ فوقفوا مع عدالة القضية، منهم محرز، وبول بوغبا ومحمد النني، وحمزة شودري، وويسلي فوفانا، وغيرهم الكثير.
في زمن اضطر العالم فيه لعقود طويلة أن يتجاهل الحقيقة وقيم الحق، لعله من المدعاة للأسى أن نرى بعض الشخصيات والمشاهير ترتد في زمن لا تجوز فيه الردة، في زمن تحول فيه من كان يتعامى عن عدالة هذه القضية لأن يقر بمشروعتها، حيث بدأنا نشهد انشقاقاً داخل الكونغرس الأمريكي، كما في قطاعات كثيرة في العالم لصالح رؤية الحقيقة، نواجه ردة من بعض العرب في زمن لم تعدّ الحقيقة تخفى على أحد؛ ولهذا من المحزن أن تشعر بالخيبة كون هؤلاء المشاهير قد تنازلوا عن ضمائرهم، وأصيبوا بالعمى الأخلاقي، ففلسطين تعدّ اختبار حقيقياً للضمير الإنساني، وفي ظني أن كل من يتخلى عن ضميره فإنه لا بد سيفقد إنسانيته، والأهم أنه سيفقد قيمته، حيث التاريخ لن يذكر سوى صمته المخجل، ومع التقدير لكل السياقات التي تحول دون التصريح بالحقيقة أو التعبير عن موقف شجاع للبعض، حيث يمكن تفهم الصمت على الأقل، كما يمكن مغفرته حين تشفى الجراح، ويعود الحق، غير أن من يحرف الحقيقة لا يمكن أن يغفر له، وسيبقى مداناً تاريخياً.

كاتب أردني فلسطيني

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار