البابور الموقع العربي

 الجذور العنصرية للنظريات السكانية الغربية وإعادة إنتاج حروب الإبادة 

50

إعداد سمير الحجاوي 

تكشف النظريات السكانية الغربية الكلاسيكية، مثل نظرية مالتوس، نظرية الفائض السكاني، نظرية قارب النجاة، والداروينية الاجتماعية، عن أبعاد عنصرية واستعمارية. وتسلط الضوء على أثر هذه النظريات في تشكيل السياسات السكانية والاقتصادية عبر القرنين التاسع عشر والعشرين، وصولاً إلى انعكاساتها في السياسات المعاصرة، بما في ذلك بعض السياسات المطبقة في العالم العربي تحت مظلة “التنمية المستدامة”.

تعاملت النظريات السكانية مع البشر باعتبارهم عبئاً على الموارد بدلاً من كونهم طاقات منتجة، وأنها كرّست منطق الهيمنة الغربية على حساب العدالة والتنمية المتوازنة.

 لم تكن النظريات السكانية الغربية الكلاسيكية مجرد اجتهادات علمية، بل حملت مضامين عنصرية واستعمارية واضحة، ورأت في البشر – وخاصة سكان الجنوب – خطراً يجب ضبطه أو التخلص منه. غير أن الدروس المستخلصة من التجارب التاريخية والمعاصرة تثبت أن السكان ليسوا عبئاً بل فرصة، شرط أن يُستثمروا من خلال التعليم، الصحة، التمكين، والعدالة الاجتماعية. إن إعادة تدوير هذه النظريات اليوم تحت لافتات جديدة مثل “التنمية المستدامة” أو “ضبط النمو السكاني” يتطلب وعياً نقدياً يفضح خلفياتها الأيديولوجية ويعيد التأكيد على أن الإنسان هو غاية التنمية ووسيلتها في آن واحد.

لطالما ارتبطت قضية السكان بالسياسة والاقتصاد والهيمنة الثقافية. فمنذ بدايات القرن التاسع عشر، ظهرت نظريات سكانية في الغرب حملت في طياتها أبعاداً عنصرية واستعمارية، إذ لم تنظر إلى الإنسان بوصفه مورداً يمكن استثماره، بل اعتبرته عبئاً ينبغي ضبطه أو تقليصه. وقد لعبت هذه الرؤى دوراً في تبرير التفاوتات الطبقية والاستعمارية، بل وأسست لسياسات أدت إلى الإقصاء والتهميش، لا سيما في المستعمرات الأوروبية.

أولاً: نظرية مالتوس (1798)

طرح توماس مالتوس رؤيته الشهيرة في أن السكان يتزايدون بمتوالية هندسية بينما الغذاء يتزايد بمتوالية حسابية، وهو ما يؤدي حتماً إلى المجاعات والأوبئة والحروب لضبط التوازن.
لكن البعد الأيديولوجي لهذه النظرية كان واضحاً، إذ بررت للغرب الصناعي إهمال الفقراء والتعامل مع مجاعات المستعمرات كـ “عملية طبيعية” لا تستوجب التدخل. كما تجاهلت التطورات التكنولوجية والزراعية التي أثبتت قدرة الإنسان على مضاعفة الإنتاج.

ثانياً: نظرية الفائض السكاني

رأت هذه النظرية أن الفقراء يشكلون “فائضاً بشرياً” غير ضروري، ما يجعلهم عبئاً على المجتمع.
استخدمت في أوروبا وأمريكا لتبرير سياسات الإقصاء ضد الطبقات العاملة والمهاجرين، وعززت منطق اعتبار البشر “زائدين عن الحاجة” بدلاً من استثمارهم كقوة عمل منتجة.

ثالثاً: نظرية قارب النجاة (هاردين، 1974)

شبه غاريت هاردين الأرض بقارب نجاة محدود السعة، معتبراً أن مساعدة الفقراء والدول النامية ستؤدي إلى غرق الجميع.
هذه النظرية قدمت إطاراً “أخلاقياً زائفاً” لتبرير حرمان الجنوب العالمي من الدعم والمساعدات التنموية، وأعادت إنتاج منطق التفاوت بين “الشمال الغني” و”الجنوب الفقير”.

رابعاً: الداروينية الاجتماعية

مع نهاية القرن التاسع عشر، ساد تطبيق تعسفي لنظرية داروين حول الانتقاء الطبيعي على المجتمعات البشرية. واعتُبر أن “الأقوى عرقياً” هو الأجدر بالبقاء، بينما الضعفاء محكوم عليهم بالاندثار.
هذا المنطق كان أحد مرتكزات الاستعمار الأوروبي والإبادة الجماعية للسكان الأصليين، بل ووفر الأرضية الفكرية للنازية في القرن العشرين.

خامساً: المنطق المشترك بين هذه النظريات

  • اختزال البشر في عبء على الموارد.

  • تبرير تفوق الغرب الصناعي وإقصاء الفقراء والمستعمرات.

  • إنكار العدالة في توزيع الثروات.

  • إلقاء مسؤولية البؤس على “كثرة السكان” بدلاً من تحميلها للبنية الرأسمالية غير العادلة.

سادساً: النظريات البديلة

برزت لاحقاً مقاربات أكثر إنسانية، من أبرزها:

  • نظرية التحول الديموغرافي التي تربط تغير معدلات الخصوبة والوفيات بمسار التنمية والتحضر.

  • مفهوم رأس المال البشري الذي يعتبر السكان مورداً أساسياً إذا استُثمر عبر التعليم والصحة والعمل.

  • رؤى التنمية البشرية المستدامة التي تركز على المساواة والعدالة وتوزيع الموارد.

سابعاً: انعكاسات على السياسات العربية المعاصرة

رغم فشل الطروحات العنصرية القديمة، لا تزال بعض الخطابات السكانية في العالم العربي تتبنى – أحياناً بوعي وأحياناً دون وعي – مقولات مالتوسية أو “قارب النجاة”، حين يُصوَّر السكان على أنهم مشكلة في حد ذاتها. في المقابل، تتجاهل هذه الخطابات أن جوهر الأزمة يكمن في ضعف الاستثمار في البشر وسوء توزيع الموارد.
ففي مصر مثلاً، يُطرح “الانفجار السكاني” كأهم عقبة أمام التنمية، بينما التجارب المقارنة (مثل الصين أو إيطاليا) تؤكد أن عدد السكان وحده لا يحدد مسار التنمية، بل كيفية إدارة الدولة لمواردها وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار