البابور الموقع العربي

تحالف القلم والسيف.. عقل المثقف في قبضة السلطة

السلطة لا تحتاج دائمًا إلى سجون لقهر المجتمعات.. يكفيها أن تستولي على عقول مثقفيها

69

 حين يتحول المثقف إلى أداة للسلطة

إعداد سمير الحجاوي 

لم يكن المثقف عبر التاريخ مجرد ناقل للمعرفة، بل كان – في جوهره – ضميرًا ناقدًا، وصوتًا متسائلًا يواجه السلطة ويضعها موضع المساءلة. لكن، في لحظات التحولات الكبرى والأنظمة السلطوية المغلقة، يتحول هذا الدور من الضد إلى الضد: من مقاومة الهيمنة إلى تبريرها، ومن إنتاج الوعي إلى إنتاج الوهم. هنا يولد ما يمكن تسميته بـ”عبودية المثقف للسلطة”، حيث يتخلى العقل عن رسالته النقدية ليصبح أداة في يد المستبد، يستخدمه لإضفاء الشرعية على القمع، وتجميل وجه الاستبداد، وترويض الشعب.

العبودية الناعمة: حين يصبح القيد فكرة لا سيفًا

السلطة لا تحتاج دائمًا إلى سجون وجيوش لقهر المجتمعات، أحيانًا يكفيها أن تستولي على عقول مثقفيها. المثقف المستسلم يتحول إلى قناة تبث عبرها السلطة خطابها، لكنه يُضفي عليه مسحة “عقلانية” و”أخلاقية” تجعله مقبولًا لدى العامة. هذه العبودية ناعمة، لأنها لا تُمارس بالسلاسل بل بالأفكار؛ لا تكبّل الجسد بل الوعي. إن أسوأ أشكال الاستعباد ليست تلك التي تُفرض بالقوة العارية، بل تلك التي يتبناها الإنسان طوعًا، وهو يظن أنه يمارس الحرية.

تحالف القلم والسيف: المثقف كخادم للحاكم

حين يتصالح المثقف مع السلطة، تنشأ علاقة تبادلية خطيرة: الحاكم يحتاج إلى شرعية فكرية لتبرير قمعه، والمثقف يحتاج إلى حماية ومكانة وامتيازات. هكذا يكتب القلم ما يعجز السيف عن قوله، ويُلبس القمع لبوس الإصلاح، ويُقدَّم الاستبداد في صورة “ضرورة تاريخية”. والنتيجة: شعب يتعرض لهيمنة مزدوجة، سلطة تتحكم في جسده، ومثقفون يستعبدون عقله.

انهيار المناعة الفكرية: من النقد إلى التبرير

المثقف الذي يبرر السلطة يفقد شيئًا فشيئًا مناعته الفكرية. قدرته النقدية تتآكل، وتتلاشى الحدود بين “المعرفة” و”الدعاية”. هنا يصبح المثقف أشبه بجهاز مناعة مُصاب بنقص مكتسب، غير قادر على مواجهة أي خطاب سلطوي، بل يسهّل دخوله وتغلغله في الوعي الجمعي. إنها صورة “نقص المناعة الفكرية المكتسبة” (AII) في أوضح تجلياتها، حيث يُستنزف العقل حتى يصبح عاجزًا عن مقاومة أوهام السلطة.

 المثقف الحر كآخر خطوط الدفاع

في نهاية المطاف، تبقى مقاومة المثقف الحر – مهما كان صوته ضعيفًا – هي آخر خطوط الدفاع عن الوعي الجمعي. فإذا استسلم الجميع، يصبح المجتمع قطيعًا يقوده الحاكم بسلاسة إلى الهاوية. لكن، ما دام هناك مثقف يرفض الانحناء، ويصر على تسمية الأشياء بأسمائها، فإن إمكان التحرر يظل قائمًا. فالمثقف ليس فقط من يكتب أو يُحلل، بل من يجرؤ على أن يكون شاهدًا على الحقيقة، في وجه كل محاولات السلطة لتزييفها

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار