غازي الذيبة
تناثر اسمي الكثيف على شاطئ البحر
ألقيته في صباح الرَمادة فوق الحطب
كتبت ترانيم للخوف والسيف
أزهرتُ، متُ، ارتبكتُ
وعدتُ من الموت
منه خرجت إلى الأرض ثانية
فوجدت يدي، ما تبقى من الموت مني
لمحتُ حصاني شهيدا، وابني شهيدا
والأصدقاء ينادونني في المساء إلى قهوتي
كي يعود الشهيد إلى بيته
أو يتخفى بنصل أخيه
ويمشي إلى الموت مُتقدا واضحا كالسؤال
ـ يا أخي كم قتلت من التائهين بأرضك؟
ـ ثلاثون، أو فليكن أربعون
ولكنهم ينبتون على جمرنا منذ قحط
ـ كم قتلت على مرتقى ذاهل في مديح الشجر؟
ـ ليس لديّ سواى وبعض الطنين
وقلب يفتش عن صوته في الصور.
ـ وماذا ستفعل بالصوت حين يغيب؟
ـ أسير إلى وحشتي في نشيج القمر
أُعدُّ كمينا لقاتل أطفالنا في الغروب
أقود احتراقي إلى بطن دبابة
يتَمرغ جنزيرها بالحذر.
..
يا أخي والشجر؟
تركتُ مواعيده غافية في الأنين
وسرتُ إلى موت قاتلنا الهمجيِّ
لم ألتفت للذهول الصغير بعينيّ
حين اتكأتَ عليّ.
ـ لماذا رسمت على الرمل نصلا؟
ـ لأخرج من حُرقتي في النزال
وأمضي وحيدا إليّ.
..
ـ والطيور؟
ـ رمت ريشها فوق قيظ الخنادق
لكن صوتي هنا يا شهيق الندى ينتظر
ووحدي مع الليل والقاذفات
أصارع ضبعا رمى ناره في رجيم القتال
يهاجم قلبي وبيتي وعمري الضجِر.
..
تبعثر لحمي وعظمي
ولم يعد الماء للبحر
صرت وحيدا
معي جبل نائم في السهول وأرض تنادي:
تعال لنركض كي نحتمي بالمياه
ونحفظ غزة عن ظهر قلب
لنبقى مع البحر
مع جرحنا منذ سبعين ليلا
وخوفا وقافية للحجر.
..
وأعرف أني مضيت بلا كتفينِ..
رأسي وحيد هناك
وحين جمعت بقايا عانقت موجا
هدرت على الماء، غنيت
سقت قطيعا من اللغة الشاردة
وفتشتُ عني
لم أجد الرأس والكتفين
وقلبي المُطوق بالاحتمال.
..
جلسنا هنا خلف متراسنا في السؤال
لم أكن في الحديقة مع قهوتي في الصباح
كنت أقاتل دود العراة، وأصرخ
كنت أحاول أن أتمزق قبل انفجار القذيفة
كان الهواء ثقيلا
وصوت الدماء على كتفيّ ثقيلا
وملح الحياة أمام احتدام البنادق كان ثقيلا
ولكنني صرت أرشق من ريشة في غبار السؤال
وقاذف دبابة إذا شئت، صرتُ
قل، إنني صرت نصلا من النصل كنتُ
ـ لماذا اختلفتَ معي في احتمال بقاء العدو هنا
ولم تختلف في احتمال نهايته
بعد أن أتعلق بي في حنايا التلال؟
وصرتَ تباغتني كل يوم بقصف جديد
من الصمت والميتين بأحلامهم
كي أموت من البرد والجوع بعد اشتعال الظمأ.
لماذا ارتجفت من الخوف مني
ولم تجد شهقتي في الطريق إليك؟
أكانت تنادي على الصبح
خائفة من صحارى الصدأ؟
..
هي الحرب،
آخرها أنني لم أعد واقفا في الظلال معك
أنا واقف في يقيني هنا
بين قلبي وقلبي أنا
وطن واحد من نشيد السماء تَنزّل
صار حديقة ورد تدندن موالها في خوابي الثمر.
**
تنفستُ، أيقظت اسمي من النوم
ثم جلسنا معا نتحاور:
ماذا ستفعل بعد انتهاء المعارك؟ قال
ابتسمتُ قليلا.. تنفست أكثر
ثم اعترفت بأني وحيد
وكنت أراقب أشلاء قلبٍ تَكسر
قلت: سأشرب قهوة من يشتري في النهار
هدوء الحديقة بالهمهات
وأصمت عاما ثم أعود
لأكتب عن شجر نابت في الخرير
وعن أغنيات غفت في المصائد والاشتباك
وعن قاتل لابث خلف نافذة في السرير
لأبقى وحيدا على شاطئ البحر
سأحمل في لسعة السوط صوتي
وأمشي على الرمل
أصرخ في الكون: ماذا فعلنا
ليحترق الماء والتائهون هنا؟
ماذا تركتم لكي تحرقوا المحرقة؟
هو الآن موت يمزق أوهامكم والخطى
يسير بكم في زوال الخليقة
تحت شِواظ الجحيم بلا مطرقة.
..
توقفت كي أستسيغ انتشائي بهذا الصراخ
وأمشي قليلا على سطح بحر
تناثر فوق مويجاته صوت أمي
بكيتُ، حملت على كتفيّ صخور البراري
بكيتُ، التفت إلى صورة في جواري
ومركب صيد حزين
تلقى قبيل احتفاء الظهيرة بالقيظ قنبلة صاعقة.
..
ألم تتمزق حين اضأتَ
قناديل منزلك الهشّ بالخوف والموت؟
ألم ترتكب لعنة في بقاء العصافير مسجونة
لتقتل أحلامك المارقة؟
..
ضحكتُ، ارتميت على الرمل
سرقتُ النهاية من جسد نائم في هدوء القذائف
مبتسما كنتُ
وأشدو لأني سأذهب بعد قليل إلى الشرنقة.
**
وحيدا تكاثر، قام من الموت
من صمته في المخيم
من جوعه قام إلى أبد الآبدين
كأي نبي طريد من الوحش والأعدقاء
ومن أخوة يلهثون لكي يطعنوا ظهره
في مساء دميم على تلة من رماد
فسال على رِسله في الدماء
وفي مهده يا إلهي تكلم.
..
وحيدا وأزرقه العدميُّ تناثر
كان يقود ملامحه في الغناء الجميل
ويشعل نارا هنا وبراكين فوق الذرى
ثم يمشي إلى بيته هادئا أو مُلغم.
..
سألناه بعد الخروج من الماء
ماذا فعلتَ هناك؟
هل رأيت الشهيد وأطيافه في الطريق؟
فرد علينا السلام
ومن خِلسة في ثقوب الغبار
مضى طيفه مثلما جاء يا شهقة النار
مضى دوننا وحده
ويا وحده في سواقي الرجوع إلى وردنا
كم تلعثم.
التعليقات مغلقة.