البابور الموقع العربي

نضال فلسطينيي الخارج وتحولاته: بين رؤى التحرر ومشروع الدولة

537

لا يحظى فلسطينيو الخارج بأولوية اهتمام الفاعلين السياسيين الفلسطينيين، رغم أنهم يشكِّلون أكثر من نصف الشعب الفلسطيني. وباستمرار تراجع عملية السلام، وتطور المواجهة الفلسطينية-الإسرائيلية، يمكنهم أن يحتلوا موقعًا أكثر تقدمًا من ذي قبل، لكن يعوزهم التنظيم والرؤية. هذا مما تناقشه الورقة من تحولات نضال فلسطيني الخارج.

طارق حمود

تراجع دور فلسطينيي دول اللجوء المجاورة لفلسطين وأعدادهم في تناقص، بينما أعداد فلسطينيي الغرب في ازدياد ودورهم يتصاعد (رويترز).

نشأت القضية الفلسطينية بين عامي 1947-1949 قضيةَ لاجئين؛ حيث شرَّدت هجمات “العصابات الصهيونية” وأعمال الحرب حوالي 80٪ من مجموع الشعب الفلسطيني في أراضي العام 1948. وفيما توزع جزء منهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، توزعت النسبة الأكبر في دول الجوار العربي. ويُقدَّر الوجود الفلسطيني خارج فلسطين اليوم بحوالي 7 ملايين، ما يعادل أكثر من 50٪ بقليل من مجموع الشعب الفلسطيني، خاصةً بعد تشريد حوالي 300 ألف آخرين بعد حرب 1967(1). وبالرغم من الانتشار الواسع للفلسطينيين في شتى أنحاء العالم، لا يزال حوالي 70-75٪ من فلسطينيي الخارج يسكنون في الدول المحيطة بفلسطين، خاصة الأردن وسوريا ولبنان(2).

بحكم المكانة العددية لفلسطينيي الخارج، والظروف السياسية في البلدان العربية، فقد تطورت الحركة الوطنية الفلسطينية في بيئاتها بعد النكبة (أي بعد التهجير عام 1948)، حيث تعززت داخلها الكيانية السياسية المتمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت أشبه بحكومة منفى تمركزت في ساحات الثقل السكاني والسياسي للفلسطينيين في الأردن ثم لبنان منذ أواخر الستينات حتى خروج المنظمة إلى تونس في 1982 كنتيجة لأحداث الحرب اللبنانية.  

فقد الخارج دوره القيادي في النضال الفلسطيني مع التحولات التي رافقت دخول منظمة التحرير الفلسطينية إلى داخل الأراضي المحتلة، عام 1967، بموجب اتفاق أوسلو، عام 1993، والذي أنشأ السلطة الفلسطينية (عام 1994).

تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على تحولات النضال الفلسطيني في الخارج، ومقاربة دور الخارج في بيئات الفعل المتاحة بين ظروف الدول المضيفة أو دول الطوق، وبين فرص البيئات الجديدة التي طورها تنامي الوجود الفلسطيني وأدواته في الغرب. ستراجع الورقة الرؤى السياسية الفلسطينية السائدة وتأثيراتها في تحديد اتجاهات الدور الوطني للخارج، وستتناول انعكاسات نضال الخارج على الفاعلين الفلسطينيين، واتجاهات تطور رؤيته السياسية. كما ستبحث الورقة طبيعة التفاعل النضالي القائم بين فلسطينيي الخارج في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وهو تفاعل تتحدد إجابته بشكل أوضح من خلال تحديد الورقة لطبيعة النضال في الخارج وخصائصه وملامحه. وتختم الورقة باستشراف عام لمستقبل النضال الفلسطيني في الخارج.

الرؤى الفلسطينية السائدة وانعكاساتها على الدور الوطني للخارج

منذ خمسينات القرن الماضي، ومع تشكُّل الهوية السياسية للنضال الفلسطيني في أواسط الستينات من خلال إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، تشكَّلت واستمرّت قيادة العمل الوطني الفلسطيني في الخارج وذلك خلال الفترة بين 1964-1994، أي عبر ثلاثين عامًا(3). لقد انبثقت الرؤية السياسية ومشروع الفلسطينيين التحرري في الأصل من الوعي العام الذي خلَّفته معاناة اللاجئين الفلسطينيين، قبل تحولات النكسة (حرب 1967) التي رسمت حدودًا جديدة، جغرافية وسياسية(4). أي إن الخارج امتلك حضورًا وطنيًّا، وثقلًا سياسيًّا سمح له بتأسيس المشروع الوطني الفلسطيني ما بعد النكبة، وإطلاق أدواته التي تمثلت بالثورة الفلسطينية المعاصرة. وبما أن أوسلو أعاد رسم المشروع الوطني من مسار التحرير والكفاح المسلح إلى مسار بناء الدولة سلميًّا على قاعدة حل الدولتين و”قرارات الشرعية الدولية”، فقد استلزم ذلك تراجعًا لدور الخارج الذي تبلورت قيادته لمنظمة التحرير الفلسطينية عبر مشروع الكفاح المسلح(5). واقتضى تراجع دور المنظمة تحولًا في النضال الفلسطيني للخارج، أو ما يمكن تسميته في الأدبيات الأكاديمية “الدياسبورا الفلسطينية السياسية”. إن نجاح المنظمة في نقل مركز الثقل القيادي من الخارج إلى الأراضي الفلسطينية، لم ترافقه رؤية لربط الفلسطينيين في الخارج بمشروع الدولة الجديد(6)، وتحولت فاعلية الدور الوطني من الخارج إلى الداخل، عبر إنشاء مؤسسات محلية داخل الأرض المحتلة عام 1967، تضخمت بشكل كبير في إطار السلطة الفلسطينية، وهمشت تلقائيًّا فاعلية المؤسسات الوطنية الجامعة المرتبطة بالخارج مثل الصندوق القومي، ودائرة شؤون اللاجئين التي تراجع حضورها، بل ونافستها دائرة جديدة تحت اسم دائرة شؤون المغتربين، التي عرَّفت الجاليات الفلسطينية المهجَّرة قسرًا كمغتربين اقتصاديين ومهنيين(7). وهو ما أسَّس لتناقض بات فيه برنامج الشعب الفلسطيني في الداخل معزولًا عن تطلعات الشعب في الخارج، وبات التعريف السياسي للشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية محددًا في إطار سكاني وجغرافي لا ينتمي له معظم الشعب الفلسطيني في الخارج.

حتى اليوم، لم يجد الخارج الفلسطيني حيزًا لنضاله في حل الدولتين، الذين اقتضى تنازلًا غير مباشر عن حق العودة الذي يمثل جوهر المطلب الوطني للملايين السبعة خارج فلسطين، الذين ينحدرون، في غالبيتهم، من أراضي “الدولة الثانية”(8)، بحسب الرؤية الحالية للمنظمة(9). كما أن رؤية حل الدولتين واتفاقاتها أعادت تعريف من هو الفلسطيني (الذي يمتلك رقمًا وطنيًّا) من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة. فبعد اتفاق أوسلو، جرى نقل صلاحيات سجل السكان للجانب الفلسطيني الذي يصدر بطاقات الهوية وجوازات السفر لفلسطينيي الضفة والقطاع، وبموجب قانون الأحوال المدنية الصادر عن السلطة الفلسطينية، 1999، فإن بطاقة الهوية تُمنح لكل فلسطيني بلغ السادسة عشرة أو كل شخص حصل على الجنسية الفلسطينية(10). وهذا التعريف القانوني للفلسطيني يشمل فقط سكان الضفة الغربية وقطاع غزة الذين يميزهم وجود رقم وطني على بطاقات هويتهم الشخصية وجوازات سفرهم الصادرة عن السلطة الفلسطينية(11). وبهذا يكون حل الدولتين قد أسس لعزل الخارج عن المشروع الوطني الجديد الذي تبلور مشروعًا لبناء الدولة الفلسطينية عبر المفاوضات(12)، وهو مشروع قام على أساس ثنائية “جزء من الأرض وجزء من الشعب”. وعند الحديث عن الخارج، لا نتحدث بالضرورة عن قضية اللاجئين، رغم انتماء الخارج الفلسطيني لها، فحوالي 25٪ من اللاجئين الفلسطينيين يعيشون داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، أي إن ربع اللاجئين الفلسطينيين يرتبطون بمشروع الدولة الفلسطينية بحكم وجودهم في نطاقها الجغرافي والسكاني(13). لذلك، فإن الافتراق الحاصل بين الخارج والمشروع الوطني الجديد للمنظمة، أسهم في انكشاف الخارج وتعطيل جدوى الوجود الفلسطيني في محيط “الوطن المحتل”؛ ما سبَّب تراجعًا في فاعلية مساحات كبرى في التشكيل العام لفلسطيني الخارج. فهجرة فلسطينيي لبنان الذين تناقصت أعدادهم من حوالي نصف مليون إلى أقل من مئتي ألف في آخر إحصاء رسمي في لبنان، عام 2017(14)، هو مثال غير حصري على تآكل جبهة الخارج التي باتت متروكة بدون تمثيل أو برنامج عملي منذ تركز الثقل الوطني لصالح مشروع الدولة، الذي يواجه بدوره انسدادًا منذ أكثر من عقدين(15).

إن المصلحة الوطنية للخارج تنتمي إلى الفصل الأول والأساسي من فصول القضية الفلسطينية، وهي مصلحة تتفق مع تعريف القضية على أنها قضية شعب تعرض لعملية تطهير سكاني كبرى، وهي قضية تستند لمطلب جوهري هو حق العودة المرتبط بمشروع التحرر، لا مشروع بناء الدولة لجزء من الشعب على جزء من الأرض. لقد تفاقمت معضلة الخارج في عدم تقاطع مصلحته الوطنية مع رؤية الفاعلين الأساسيين غير منظمة التحرير. فالدولة العربية المضيفة خضعت للمرجعيات ذاتها التي أطلقها مؤتمر مدريد للسلام، سنة 1991، القائمة على قرارات الشرعية الدولية، خاصة القرار 242، الذي عالج المسألة الفلسطينية في حدود ما جرى بعد حرب 1967(16)، وحرف النقاش عن حق العودة إلى نزاع حدودي على الأراضي المحتلة في حرب 67. وبلور النظام الرسمي العربي لاحقًا رؤيته في المبادرة العربية للسلام، سنة 2002، التي تستند إلى حل الدولتين، مع إضافة لم تُضمَّن في النص الأساسي للمبادرة متعلقة بحل قضية اللاجئين وفق القرار 194، التي أُضيفت بضغط من الدول المضيفة على رأسها سوريا ولبنان(17). وعليه، فقد تعززت مشكلة الرؤية السياسية العربية بالنسبة للفلسطينيين في الخارج في مسارين: الأول: أنها وضعت رؤاها السياسية انسجامًا مع مشروع التسوية وحل الدولتين الذي يتجاوز نصف الشعب الفلسطيني الذي يقطن في الخارج. والثاني: أنها عالجت قضية فلسطينيي الخارج كمشكلة محلية خاصة بالدول المضيفة، لا كقضية قومية. فلبنان يقارب الوجود الفلسطيني لديه ضمن توازنه الطائفي وأزماته الداخلية، وسوريا في سياق تموضع النظام الحاكم وسياساته، والأردن ضمن تعريفات الشخصية الوطنية الأردنية. وبخصوص مطلب حق العودة تحديدًا، تتقاطع المصلحة المشتركة بين الدولة العربية المضيفة وفلسطينيي الخارج بشكل خاص في سوريا ولبنان، وهو موقف يحمل تعقيدات محلية وسياسية تجعل تأثيراته لا تتجاوز حدود معالجات وضع الكتلة السكانية الفلسطينية في هذه الدول ليس أكثر.

في الجانب المقابل، وبقدر ما كان لبروز حماس، فاعلًا رئيسيًّا في المشهد الفلسطيني، دور في إعادة إنتاج التعريفات الوطنية للمشروع الفلسطيني إلى أصولها، كانت معضلة الخارج لا تزال قائمة؛ حيث بقي فلسطينيو الخارج خارج مساحة التفاعل الرئيسية للرافعة الجديدة التي مثَّلتها حماس، بل أسهمت استراتيجيات حركة حماس بشكل غير مباشر في ترك الخارج دون دور خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بحكم تبني الحركة نطاق فعل جغرافيًّا ضمن حدود فلسطين التاريخية(18)؛ ما جعل من تنظيم “الخارج الفلسطيني” مسألة غير ذات أولوية كبيرة للحركة سواء من حيث الاهتمام أو الجدوى. فبخلاف منظمة التحرير الفلسطينية التي استوجبت قيادتها للمشروع الوطني من خارج فلسطين تنظيم فلسطينيي الخارج، قادت حماس جبهة المقاومة سياسيًّا من خارج فلسطين، وتجنَّبت تنظيم الفلسطينيين في الخارج، لأسباب لوجستية وسياسية(19). فوجود قيادة حماس في الأردن في فترة التسعينات كان مشروطًا بعدم الإخلال بالمعادلة المحلية الأردنية التي يمثل فيها الأردنيون من أصل فلسطيني أكثر عناصرها حساسيةً، فهم فلسطينيون من جهة ولهم توجهاتهم بهذا الاعتبار، ومواطنون أردنيون وقد ينتمون لأحزابها من جهة أخرى.

فيما ارتبط وجود حماس هناك أكثر بالمعادلة الإخوانية لأسباب تنظيمية، فعَمَّان تعاملت مع قيادة حماس السياسية في الخارج كفرع من جماعة الإخوان الأردنية، خاصة أن إخوان فلسطين والأردن كانوا، حتى عام 2009، تحت قيادة تنظيم واحد يُدْعى تنظيم بلاد الشام الذي ترأَّسه دومًا المراقب العام للإخوان الأردنيين(20). أما في لبنان، فحماس لم تؤسس تنظيمها الخاص داخل الوسط الفلسطيني إلا في أواسط التسعينات، وبشكل محدود، كان عماده اتفاقًا بين حماس والجماعة الإسلامية في لبنان على انتقال طوعي للعناصر الفلسطينية في الجماعة إلى أول تنظيم لحماس في المخيمات خارج فلسطين(21). وهو تنظيم بقي محدودًا ويغلب عليه الطابع الخدمي الاجتماعي، الخيري والدعوي، حتى انطلاق الانتفاضة الثانية (2000) في الداخل؛ حيث بدأت حماس بتوسيع رقعة نشاطها وتنظيمها(22). ومع نهاية عقد التسعينات، تموضعت قيادة حماس في سوريا بعد أزمتها مع الأردن وخروجها من هناك(23)، وعاشت قيادتها عقدها الذهبي في سوريا ضمن اتفاق غير مكتوب بأن تعمل الحركة في مساحات العمل السياسي والإعلامي الفلسطيني، وتتجنب تنظيم الفلسطينيين في صفوفها(24). هكذا كل ما سبق يشير إلى أن حضور حماس الفاعل سياسيًّا في الخارج، وقريبًا من تجمعات الفلسطينيين العظمى في دول الطوق خلال العقود الثلاثة الماضية، بدا قاصرًا عن بناء مشروع عملي لاستعادة دور الخارج الوطني.

حتى اللحظة، لا يبدو لدى حماس رؤية معلنة واضحة في تنظيم الخارج، وبنظرة سريعة على هيكلها القيادي المركزي (اللجنة التنفيذية) الذي يتألَّف من 18 عضوًا وحقيبة، سنجد أن ملفًّا مثل اللاجئين وحق العودة لم يجد حيزًا مماثلًا للوزن الذي حظي به ملف الأسرى أو القدس أو العلاقات العربية والإسلامية وغيرها من ملفات مرتبطة بالداخل أو تأتي كإسناد له(25). في السنوات الأخيرة، دعمت حماس مشروعًا مستقلًّا عنها تحت عنوان “مؤتمر فلسطينيي الخارج” الذي انطلق في 2017، محاولةً لتنظيم الخارج وتأطيره ضمن ما تسمح به الشروط الإقليمية(26). إلا أن المشروع لا يزال في سنواته الأولى ومن المبكر الحكم على نتائجه وجدواه.

إضافةً إلى رؤى منظمة التحرير وحركة حماس وتأثيراتها على دور الخارج، يمكن النظر في موقف الفصائل الفلسطينية خارج إطار المنظمة، مثل الجبهة الشعبية-القيادة العامة، وفتح الانتفاضة والصاعقة وغيرها، وهي التي اجتمعت مع بعض أجنحة فصائل المنظمة في الخارج كالجبهتين، الشعبية والديمقراطية، إضافةً لحماس والجهاد الإسلامي في إطار تحالف الفصائل العشر(27). يعبِّر التحالف عن رؤية سياسية تستند وتركز على دور الخارج في إطار ضيق، يشمل الوجود الفلسطيني في سوريا ولبنان، ويكاد ينعدم دور التحالف خارج هاتين البيئتين. وهي رؤية قد تمثل المقاربة الفلسطينية لانعكاس الموقف السوري واللبناني من القضية الفلسطينية؛ إذ استند الأول إلى ضرورة دعم المقاومة كنقيض لاحتكار الملف الفلسطيني إقليميًّا في إطار مشروع التسوية، فيما يستند الثاني -أي اللبناني- إلى القلق المحلي المزمن حيال المسألة الديمغرافية والطائفية وهو ما يعزز من حضور مفهوم حق العودة للاجئين الفلسطينيين. ففي مرحلة ما بعد أوسلو التي حيَّدت ظروفها الإقليمية والدولية الكفاح المسلح الفلسطيني من الخارج، شهدت نموًّا كبيرًا للعمل الأهلي والمدني بمحاذاة الفاعلية المحدودة لتحالف العشر، خاصة فيما يتعلق بعنوان حق العودة ولجانه ومؤسساته. وفي الوقت الذي تبلور فيه الموقف السوري واللبناني كبلدين مضيفين حيال تحولات ما بعد أوسلو، فإن البلد المضيف الثالث والأكبر للاجئين الفلسطينيين، الأردن، بقي مستمرًّا في معالجاته الحذرة والحساسة لدور الفلسطينيين على أرضه انطلاقًا من الاضطراب المحتمل لهذا الدور على تعريف الهوية الوطنية الأردنية، وهو موقف ربما يمثِّل ثابتًا في السياسة الأردنية منذ بداية سبعينات القرن الماضي؛ حيث تطور نقاش هوية السلطة والمقاومة حينها بين الفدائيين والملكية إلى صراع دموي بين الأشقاء.

هناك حراك لافت ومؤثر في الخارج لمنظمات المجتمع المدني، خاصة الحقوقية في الغرب، إلا أنها لا تبدو فاعلًا قائمًا ذا شخصية ورؤية سياسية محددة. ولذلك، فإن فهم حراك المجتمع المدني الفلسطيني في الخارج قد يكون أكثر جدوى في دراسته كظاهرة ناتجة عن مواقف ورؤى الفاعلين السياسيين الآخرين أكثر من كونه فاعلًا قائمًا بذاته؛ إذ إن اعتباره فاعلًا سيجعل من تعريف حدود هذا الفاعل ورؤيته وموقفه أمرًا متعسرًا لعدم توافر إطار عمل واحد ومحدد يحكم دور هذه المؤسسات، والتي تعمل أحيانًا في اتجاهات سياسية متعارضة. ويرتبط معظمها أصلًا بتوجهات ورؤى الفاعلين الآخرين، أو أنها تعمل كنتيجة أو ردِّ فعل على رؤى أخرى.

والخلاصة في هذا السياق أن الرؤى السياسية للنضال الفلسطيني يمكن أن تعرِّف الفاعلين الأساسيين في نضال الفلسطينيين في الخارج بشكل أكثر تحديدًا، وفي شقين: فلسطينيًّا، ويتمثل بمنظمة التحرير الفلسطينية، حركة حماس، وتحالف الفصائل العشر. وعربيًّا، يتمثل بالدولة المضيفة للاجئين، وهي الأردن وسوريا ولبنان. وكل هذه الرؤى بعد أوسلو لم تشكِّل أساسًا لمشروع وطني يستعيد دور الخارج، الذي لم يحصل بدوره على وزنٍ كافٍ لحجز حيزٍ مهم في أجندات الفاعلين الأبرز فيما يخص النضال الفلسطيني في الخارج.  

نضال الخارج وانعكاساته على أدوار الفاعلين الفلسطينيين

بقيت مساحات الفعل في الخارج لدى الفلسطينيين بعد اتفاق أوسلو محصورة في أشكال نضالية محدودة، مدنية وأهلية، أو يمكن القول: إنها غير عسكرية (Demilitiraised). وقد تمثل هذه الخاصية (عدم العسكرة) أبرز ملمح في النضال الفلسطيني في الخارج بعد أوسلو خاصةً بعد أن أنتجت التسوية مقاربة جديدة جعلت من المؤسسة الوطنية الفلسطينية، التي تحتكر تعريف المشروع الوطني وتحويراته الجديدة، جزءًا من النظام الرسمي العربي، وتعمل ضمن قواعده. وبهذا تشكلت معضلة الخارج في هذه المقاربة أيضًا؛ ففي حين أن مساحات التأثير لأي دور مأمول للخارج لابد أن تتركز في الدول المضيفة للاجئين التي تحيط بالوطن المحتل، التي تضم حوالي 75٪ من الفلسطينيين خارج فلسطين(28). وبذا، فإن تأسيس حاضنة لهذا الدور في تلك الدول أو في جزء منها كان أمرًا جوهريًّا في عملية استعادة الدور، إلا أنه لم يقم إلا في سياقات وظيفية مرتبطة بخريطة الإقليم السياسية، كوجود حماس في سوريا التي استفادت من الدعم السياسي والتدريبي مثلًا دون عملية تأطير شاملة للفلسطينيين هناك أو في لبنان، وكذلك وجود حماس في الأردن في التسعينات الذي تفاعل في مساحات الامتداد الإخواني القائم بطبيعة الحال في البلاد. والملمح الآخر للشكل النضالي الذي تبلور في الخارج، أنه غير متصالح مع مسار العملية السياسية الفلسطينية الرسمية ومشروعها المتمثل بحل الدولتين، خاصة بعد انتفاضة الأقصى، وتعاظم الاستيطان الذي عكس بشكل عملي انسداد أفق مسار التسوية وفقًا للرؤية المطروحة(29).

تشكلت الممارسة النضالية للخارج لأول مرة خارج منظومة المؤسسة النضالية الفلسطينية التقليدية، على شكل لجان أهلية ومؤسسات مدنية غير حكومية (NGOs)، دون مرجعيات مؤسسية أو مظلات وطنية محددة(30)، ومارست هذه المؤسسات فاعليتها أكثر في المساحات البعيدة عن النظام الرسمي العربي، خاصة في أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية؛ حيث تطورت بعض التجارب في مجتمع الفلسطينيين بشكلٍ سمح لها بالتمدد في الفراغ المتروك من قبل منظمة التحرير، كما هي الحال في تجربة مؤتمر فلسطينيي أوروبا، واتحاد الجاليات في أميركا اللاتينية، وأخيرًا مشروع المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج الذي انطلق في إسطنبول 2017(31).

أنتج الواقع السياسي الجديد للخارج أنماطًا نضالية معزولة عن الممارسة السياسية لمؤسسات النظام السياسي الفلسطيني، مثل السفارات والممثليات الدبلوماسية الفلسطينية في الخارج بسبب فقدان الرابط البيروقراطي بين الفلسطينيين في الخارج وهذه المؤسسات. وعلى سبيل المثال، فإن نشاط السفارة الفلسطينية في بيروت، أو دمشق، أو عمَّان، أو أي بلد آخر في العالم، لا يتقاطع مع الوجود الفلسطيني في ذلك البلد إلا في مساحات رمزية ضيقة؛ إذ لا يوجد أي ربط بيروقراطي بين المواطن الفلسطيني وسفارة بلده في الخارج، وتقتصر التعاملات القنصلية في حدود الفلسطينيين على حاملي الرقم الوطني من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة. بمعنى آخر: إن مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني في الخارج تمارس دورًا دبلوماسيًّا تقليديًّا لا علاقة له غالبًا بوجود وفاعلية الفلسطينيين في الخارج كقوة سياسية لها قضية. الأمر لا يختلف كثيرًا مع فاعل مثل حركة حماس، التي تحاول استثمار ممارسات الخارج النضالية ضمن مقاربتها لمشروع “المقاومة” في الداخل، لكنه استثمار تحفُّه عقبات عديدة، منها ما يتعلق بظروف الخارج السياسية والقانونية التي تحد من تطوير الممارسة النضالية الفلسطينية إلى سقوف تفوق شروطها السائدة، ومنها ما يتعلق بحركة حماس نفسها التي لم تبنِ حراكها في الخارج ضمن مشروع يتلاءم مع الخارج.

وفي هذا الصدد، يمكن تسجيل أهم ملامح الدور النضالي الحالي للخارج فما يلي:

  1. ينشط في مساحات جغرافية بعيدة عن فلسطين، وعن مراكز الثقل السكاني والرمزي للفلسطينيين في الخارج (المخيمات).
  2. يعمل جُلُّه خارج المنظومة الوطنية الرسمية أو التقليدية، مثل منظمة التحرير والفصائل.
  3. غير منظم في إطار سياسي، ويبرز في سياق مدني سلمي (غير عسكري).
  4. غير متصالح مع مشروع الدولة في الداخل، بل ويعمل كنقيض له في بعض المساحات، خاصة في مخيمات اللجوء.
  5. تبدو فاعليته في المسار الحقوقي والدعائي ضد الاحتلال، مثل حركة المقاطعة.

في النتيجة، يمكن القول: إن التحول النضالي الأساسي في الخارج الذي نشأ بعد أوسلو عمل في سياق غير متسق بين المصالح الوطنية للخارج من جهة، وتحولات المشروع الوطني المتمثل ببناء الدولة في الداخل، والذي تتفق حماس مع جوهر فكرته، من جهة أخرى. وهو دور تراجعت فيه أهمية العامل الجغرافي لدول الطوق المضيفة للاجئين، وأسهم في تناقص لافت لأعداد الفلسطينيين في دول الطوق، كدول مثل لبنان وسوريا، خاصة بعد الحرب(32).

نضال الخارج بمقابل “إسرائيل” والداخل

تراجعت أهمية العامل الجغرافي للكثافة الفلسطينية السكانية في محيط فلسطين، كما سبقت الإشارة، نتيجة انتقال ثقل المشروع الوطني للداخل. وهذا أحدث اختلالًا في وزن الدور المتوقع لفلسطينيي الخارج؛ إذ سمح لمؤتمرات الجاليات، ونشاطات المؤسسات المدنية والحقوقية في أوروبا والأميركيتين بحجز مساحات مهمة في الدور الجديد للخارج على حساب دور الكتلة الأكبر للفلسطينيين في دول “الطوق” المجاورة لـ”فلسطين”، ولكنها أقل فاعلية. وانتقل معها مركز الصراع مع الاحتلال إلى مساحات جديدة تركزت في الغرب، خاصة أوروبا والولايات المتحدة، أطلق عليها الاحتلال “معركة نزع الشرعية” التي أنشأ لها وزارة جديدة باسم وزارة الشؤون الاستراتيجية، عام 2006(33). وهو دور يشهد حركة صاعدة منذ انتفاضة الأقصى التي مثَّلت الولادة الحقيقية له؛ حيث وفرت زخمًا كافيًا لنشطائه من أجل التفاعل مع الرأي العام الغربي واستثمار تأثيراته(34). وهذه الولادة، في ظل الحدث الفلسطيني الأبرز في مواجهة الاحتلال (الانتفاضة)، هي واحدة من الدلائل الصريحة على حجم ارتباط الداخل والخارج على تعريفات المصلحة الوطنية الفلسطينية الشاملة خارج الرؤية السياسية السائدة؛ إذ إن نقطة ضعف دور الخارج النضالي يرتبط مباشرةً بعزلته عن مشروع الداخل، والعكس صحيح. فالفاعل الفلسطيني الرئيسي في الداخل تعامل مع الخارج إما كعبء، كما تعكسه رؤية منظمة التحرير، أو في أفضل الحالات كبيئة ذات توظيفات محدودة، كما عكسها نشاط حركة حماس خلال العقود الثلاثة الماضية في الخارج. كما أن السياق العام لتفاعل الخارج النضالي وقدرته على الاستثمار في مساحاته، ارتبط بخروج الداخل عن شروط الدور الذي حددته عملية التسوية. فمن انتفاضة الأقصى، مرورًا بحروب غزة الأربع (2008، 2012، 2014، 2021)، التي توَّج جولتها الأخيرة التحامٌ شعبي فلسطيني غير مسبوق في مناطق الداخل الثلاث (الضفة، غزة، أراضي الـ48) مع الخارج الذي استثمر الحدث في تحشيد لافت للرأي العام، في أوروبا والولايات المتحدة خصوصًا(35).  

أنتج الخارج مقاربات نضالية جديدة بحكم تحولات واقعه وأدواته المتاحة؛ ففي ظل تراجع العسكرة في نشاط الخارج بمواجهة الاحتلال، تمددت المواجهة بين الاحتلال والخارج الفلسطيني في مساحات التأثير الدعائي والحقوقي، وما يمكن تسميته الدبلوماسية الشعبية، التي نشأ بموجبها مساران، الأول: حقوقي مرتبط مباشرةً بمعركة نزع الشرعية عن الاحتلال في حواضنه الأساسية في الغرب. والثاني: حملة المقاطعة التي تصدرتها حركة المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)(36)، وكلاهما مساران يستهدفان الرأي العام العالمي، والغربي خاصة، الذي مثَّل حتى وقت قريب واحدًا من المساحات مضمونة الانحياز لصالح الاحتلال.

يمكن القول: إن نضال الخارج الجديد ضد الاحتلال حمل تعقيدًا فريدًا لـ”إسرائيل”، فهو من جهة سلمي وقانوني، ومن جهة أخرى، ينشط في بيئة الدعم الدولي الاستراتيجي للاحتلال، الذي يمثل ارتباطه بها مسألة ذات أهمية وجودية(37). وتبذل “إسرائيل” جهودًا كبرى في مواجهة ما اعتبرته “خطرًا استراتيجيًّا”، بحسب وصف شابتاي شافيت، رئيس الموساد السابق (1989-1996)، لحركة المقاطعة(38). وتجترح آليات مواجهة مثل “التصفية المدنية” للأفراد والمؤسسات ضمن إجراءات مثل إغلاق الحسابات البنكية، وتشويه السمعة(39). وقد تعرضت مؤسسات وأفراد فلسطينيون إلى حملات تشويه وإدراج على قوائم دولية سوداء، أسهمت في حرمانهم من حقوق أساسية في الحياة العامة مثل التنقل والممارسة الاقتصادية والمهنية(40).

حتى اللحظة لا يبدو أن الخارج قادر على اجتراح دور نضالي منظم من أجل إنجاز المشروع الوطني الفلسطيني، سواءً بصيغته الحالية المرتبطة ببناء دولة سلميًّا، أم بصيغته الأصلية التي ترى التحرير عبر الكفاح المسلح. وهذا يبدو كمشكلة مركبة. فمن جانب، يبدو من الصعب إنجاز دور نضالي للخارج قبل الاتفاق على ماهية المشروع الوطني الفلسطيني الذي يشهد انقسامًا في الرؤية بين الفاعلين الرئيسيين حول آليات تطبيقه. ومن جانب آخر، لا يمكن إنجاز مشروع فلسطيني متفق عليه بدون تعريف نضالي لدور الخارج الذي يمثل نصف الشعب الفلسطيني.

فبالرغم من تصاعد حركة نزع الشرعية عن الاحتلال في العالم، وخاصة في الغرب، فإن مساحات التأثير الحقيقية لفلسطينيي دول الطوق تبدو عاجزة ومشغولة بقضاياها المحلية، مثل قضية الحرمان من الحقوق المدنية في لبنان، أو تعريفات الهوية الوطنية لفلسطينيي الأردن (حاملي الجنسية الأردنية من أصول فلسطينية)، فيما باتت قضية فلسطينيي سوريا في عشر السنوات الأخيرة تتفاعل في سياق الأزمة السورية في ظل الحرب. ففلسطينيو سوريا وما تعرضوا له كان -ولايزال- جزءًا من حال المشهد السوري الأوسع، ولم تحصل قضيتهم على أية خصوصية فلسطينية خارج الفهم الشامل لسياق الحرب السورية، لاعتبارات فلسطينية بالدرجة الأولى متعلقة بغياب التمثيل السياسي عن فلسطينيي الخارج(41). وهو ما يمكن تفسيره في كون فلسطينيي دول الطوق غير قادرين على ملامسة مصلحتهم الوطنية في أية رؤية سائدة اليوم.

وهنا، يبدو نضال الفلسطينيين في الخارج تكيفًا لا إراديًّا مع الشروط السائدة في بيئة نشاطه، وتفاعلًا عفويًّا معها أكثر من كونه نضالًا منظمًا يسير وفق رؤية وطنية محددة. فلو افترضنا أن المصلحة الوطنية للخارج تفترق عن حل الدولتين وتستند لمطلب حق العودة، فإن المسار الحقوقي النشط وحركة المقاطعة يستثمران أساسًا في فضح الانتهاكات اليومية والممارسة العنصرية (الأبارتهايد) للاحتلال، وهو ما يدفع تلقائيًّا، باتجاه نقاش سياسي عماده حل الدولة الواحدة(42). وهو حلٌّ قامت إجابة الفاعلين الفلسطينيين الأساسيين، منظمة التحرير وحماس، برفضه، بحكم اتفاقهما على خيار الدولة الفلسطينية في أراضي 1967، سواء مقابل الاعتراف الحاصل أصلًا من قبل منظمة التحرير بدولة الاحتلال، أو برفض الاعتراف في المقابل، كما نصَّت وثيقة حماس السياسية في 2017(43).

مستقبل نضال فلسطيني الخارج

أنتجت الحروب والأزمات المتلاحقة في دول المنطقة المستضيفة للاجئين الفلسطينيين خطَّ هجرة باتجاه أوروبا التي تزايد عدد الفلسطينيين فيها خلال السنوات العشرين الأخيرة بأكثر من الضعف(44). وتشير تقديرات إلى وجود فلسطيني في الدول الأوروبية يفوق ما هو موجود حاليًّا في سوريا ولبنان مجتمعين(45). وبالنظر إلى هجرة حوالي أكثر من 150 ألف من فلسطينيي سوريا باتجاه أوروبا في السنوات العشر الأخيرة(46)، فمن المتوقع أن يضيف هذا العدد، الذي يضم كفاءات مهنية، جهدًا كبيرًا في مجال نزع الشرعية عن الاحتلال في الغرب، وقد يولِّد أنماطًا جديد للنضال، خاصة في المجال الاقتصادي الذي ينشط فيه المهاجرون الجدد بحكم خلفيات البيئة السورية التي هاجروا منها. كما أن خط الهجرة الحالي للفلسطينيين، سواء من الخارج في دول الطوق، أم من الداخل، خاصة من غزة، قد أوجد بيئات عمل جديدة للنشاط الفلسطيني في الخارج مثل تركيا، التي شهدت تحولات في الموقف من القضية الفلسطينية جعلها واحدة من أبرز مراكز النشاط لفلسطينيي الخارج(47).

كل ما سبق قد يولد احتمالات تطور دور نضال الفلسطينيين في الخارج في البيئة الأوروبية والغربية عمومًا، المحكومة بسقوف لا تتجاوز سقف العملية السياسية في الداخل(48)، وهو سقف عزل الخارج أساسًا عن مشروعه السياسي المنكفئ في سلطة حكم ذاتي محدود جغرافيًّا وسكانيًّا. وقد يعني هذا مع الزمن خطرًا تجاه تفكيك مفهوم حق العودة، خاصة أنه يتطور بتقلص الوجود الفلسطيني في مخيمات دول “الطوق”، ومناطق الفعل التاريخي للخارج في إطار حركة التحرر الوطنية الفلسطينية.

وبالنظر إلى ازدياد أعداد الفلسطينيين في البيئة الغربية، وما قد يفرضه هذا من تنشيط أكبر للدفاع الحقوقي والدعائي، ومع الأخذ بعين الاعتبار انسداد أفق حل الدولتين بحكم الواقع الذي فرضه الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، فإن تطوير العفوية النشطة لحراك الخارج في تلك البيئة باتجاه رؤية سياسية للحل يبدو أمرًا محتملًا، خاصةً أن الدول الغربية التي يؤثر فيها الرأي العام قد تكون معنية بإنتاج حلٍّ يتجاوز عقبات التسوية التي فرضها استمرار “الاستيطان الإسرائيلي” في الضفة الغربية وجعل من تطبيق حل الدولتين أمرًا غير ممكن عمليًّا. يعزز من هذا تصاعد الحديث عن ممارسة الفصل العنصري (الأبارتهايد) من قبل الاحتلال بحق الفلسطينيين في الداخل، وهو تطور جاء في خلفية الدور الحقوقي النشط للخارج مع المنظمات الدولية(49). أضف لكل هذا أن رؤية الدولة الواحدة هي الأقرب لواقع فلسطينيي الـ48(50)، الذين يمثلون ذراعًا فلسطينية أخرى معزولة عن الرؤى السياسية السائدة، ويلتقي مع الرؤى التي تتصاعد في الخارج، حيث تتفق جميعها على ضرورة تجاوز ما هو سائد، خاصةً بعد الدلائل التي أظهرها تفاعلهم في معركة سيف القدس (2021).

شهدت السنوات الأخيرة اهتمامًا أكبر من الفاعلين الفلسطينيين في الاستثمار في دور الخارج، نظرًا لأسباب تنافسية بين منظمة التحرير الفلسطينية وحماس. وزادت الأخيرة من حضورها ونشاطها في الخارج بعد التقسيم القيادي الثلاثي للحركة؛ حيث باتت قيادة الحركة المركزية تتألف من ثلاث مناطق، غزة والضفة الغربية والخارج، والذي استلزم بناءً تنظيميًّا في الخارج يوازي الحجم الهيكلي للخارج في قيادة الحركة (1 من 3). من جهة أخرى، فإن الأفق المسدود لعملية التسوية في الداخل، مع تعاظم إنجازات نضال الخارج المدني في مجالي المقاطعة ونزع الشرعية عن الاحتلال، جعل من الخارج مساحة يمكن الهروب باتجاهها من كافة الأطراف.

قد لا يكفي انسداد أفق مشروع التسوية المتمثل ببناء الدولة في الداخل على أرض فلسطين من أجل استعادة دور الخارج، فالمسألة ليست حتميات تبادلية، وإنما حقائق سياسية وجيوسياسية وديمغرافية. إن استعادة دور الخارج مرتبط بشكل وثيق بتحولات السياسة الخارجية والحساسيات الوطنية المحلية للفاعل الأهم في الخارج وهو الدولة المضيفة التي لا تزال سياساتها تحكم حراك حوالي ثلاثة أرباع فلسطينيي الخارج. وهذا يكتسب أهميته من كون شرعية المشروع الوطني الفلسطيني محكومة باعتبار المكانة العددية للخارج الذي يمثل حوالي نصف الشعب الفلسطيني. وهذه المكانة ليست عددية مجردة، وإنما يمكن أن تتحول إلى فواعل ذات تأثير واسع في حال أتيحت الفرصة لتنظيمها. فالعدد السكاني الفلسطيني الكبير الذي لا يزال في محيط فلسطين هو معادل ديمغرافي في الأردن على الأخص، وهو معادل “عسكري” في لبنان في حال المواجهة مع إسرائيل لما تمتلكه البيئة هناك من خصوبة التطور في هذا الاتجاه. أضف لكل هذا المعادل الاقتصادي والمهني لفلسطينيي الخليج العربي والغرب. لذلك، فإن ما ينقص الخارج اليوم يبدو تنظيميًّا بالدرجة الأولى. وقد لا يكفي فشل مسار التسوية وانسداد آفاقه في الداخل من أجل استعادة الخارج لدوره، وتبدو هنا تبادلية الدور بين الداخل والخارج، كما تتردد على ألسنة بعض القادة السياسيين، غير ذات صلة. فدور الخارج في السابق لم يقم بسبب غيابه في الداخل، والعكس صحيح. ففي حال فقدان الخارج لإمكانية التنظيم، فإن تراجع دور الداخل لأي سبب، كفشل عملية التسوية مثلًا، ليس سببًا كافيًا، ولا يصنع وحده حتميات في اتجاه استعادة الخارج لدوره.

خاتمة

يتأثر دور فلسطينيي الخارج باللاعبين الرئيسيين الفلسطينيين، منظمة التحرير وحماس والفصائل بصفتها الفردية والجماعية، وآخر غير فلسطيني يتمثل أساسًا بالدولة المضيفة للاجئين: الأردن وسوريا ولبنان. وفيما يمثل حراك المجتمع المدني والمؤسسات الأهلية أبرز ملامح النشاط العام من أجل فلسطين في الخارج، إلا أنه يمثل ظاهرة ناتجة عن تطورات رؤى الفاعلين ومواقفهم، لا فاعلًا قائمًا بحدِّ ذاته.

في الوقت الذي أنتج المشروع الوطني تحولات نقلت المسار الفلسطيني من النضال التحرري إلى مسار بناء الدولة، فإن الخارج بقي غير متصل بالتعريفات المباشرة لدولة “أوسلو” إلا في إطار الضرورات الأخلاقية للخطاب السياسي، وغاب عن أية وظيفة وطنية متعلقة ببناء الدولة. وهو ما أنتج مسارات عفوية كيَّفت أدواره باتجاهات تتلاءم مع الظرف السياسي السائد، عملت في معظمها خارج إطار المؤسسة التقليدية الفلسطينية. لقد نشط الدور الوطني للخارج في إطار حقوقي ودعائي، وانعزل بقدر غير قليل عن مناطق الكثافة السكانية للفلسطينيين في مخيمات اللجوء في الدول المضيفة. وفي الوقت الذي طور نشاطه الحقوقي في الغرب ضد انتهاكات الاحتلال وممارسات الفصل العنصري رؤية سياسية تقترب عفويًّا من نقاش الدولة الواحدة، فإن هذا التطور يتناقض في مصلحته مع رؤية الداخل حول حل الدولتين، ويلتقي قريبًا من نضال المواطنة لفلسطينيي الـ48، لكنه لا يجيب بشكل واضح عن التقاطعات مع مطلب حق العودة الذي يمثل جوهر المصلحة الوطنية لفلسطينيي الخارج.

يواجه النضال الفلسطيني في الخارج تحديات كبيرة تتعلق ببيئته السياسية التي تفرض شروطها على أدائه، لكنه رغم كل الظروف الصعبة، لم يزل يمتلك وضعية مُنشئة لتعريف المشروع الوطني الفلسطيني من حيث المكانة العددية ومعادلات القوة التي يمتلكها وإن كان يفتقر للتنظيم، فأي مشروع وطني فلسطيني لن يتمكن من بناء رؤية لا تستند إلى اعتراف واضح بوضعية حوالي نصف الشعب الفلسطيني. وربما يمكن القول: إن عدم قدرة مشروع الدولة على احتواء كل المصالح الفرعية للشعب الفلسطيني في الداخل (بمن فيه فلسطينيو الـ48) والخارج، هو واحد من عدة أسباب رئيسية لعدم وجود شرعية كافية للسياسات التي قامت في إطار مشروع دولة أوسلو، وبالتالي وصول المشروع برمته لانسداد سياسي ووطني. إن الخارج لا يزال يمتلك مخزونًا مهمًّا يمكنه تغيير معادلات الصراع لكنه لم يحظ بأولوية اهتمام الفاعلين من حيث تنظيمه واستثماره، وملامسة احتياجاته، والتي يأتي في مقدمتها: التمثيل الوطني الديمقراطي، الذي يكفل إعادة الخارج إلى قلب مشروع وطني فلسطيني يكفل مصالح كل أبنائه.

طارق حمُّود

باحث متخصص في الشأن الفلسطيني والعلاقات الدولية، حاصل على الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة كينغستون في لندن، ويتابع الدكتوراه في جامعة إكستر في إنكلترا. يتركز اهتمامه على حماس والدياسبورا الفلسطينية. له العديد من المقالات والأبحاث المنشورة باللغتين، العربية والإنكليزية. يشغل حاليًّا منصب رئيس مركز العودة الفلسطيني في لندن.

مراجع

  1. محسن صالح (محرر)، ملخص التقرير الاستراتيجي الفلسطيني 2020-2021، ط1 (بيروت، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2022)، ص 11-12.
  2. المصدر السابق.
  3. محسن صالح، “أبرز الإخفاقات والنجاحات في تاريخ القضية الفلسطينية،” الجزيرة نت، 16 مايو/أيار 2018، (تاريخ الدخول 21 فبراير/شباط 2022): https://rb.gy/diokjz
  4. Michael B. Oren, Six Days of War, June 1967 and The Making of The modern Middle East. (New York, Oxford University Press, 2002), 308.
  5. HILLEL, FRISCH. “The Demise of the PLO: Neither Diaspora nor Statehood.” Political Science Quarterly 127, no. 2 (2012): 241–61. http://www.jstor.org/stable/41503283.
  6. Ibid
  7. “اتحاد الجاليات الفلسطينية في أوروبا: لسنا مغتربين بل لاجئين”، مركز العودة الفلسطيني، 13 أكتوبر/تشرين الأول 2019، (تاريخ الدخول: 6 مارس/آذار 2022): https://prc.org.uk/ar/news/446/اتحاد-الجاليات-الفلسطينية-في-أوروبا-لسنا-مغتربين-بل-لاجئين 
  8. وفقًا لمبادئ أوسلو وحل الدولتين، وفي ضوء اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة “إسرائيل” في الأراضي التي احتلتها عام 1948، فإن أرض اللاجئين الذين هُجروا منها في عام 1948 باتت تنتمي لدولة “إسرائيل”.
  9. عدنان بكرية، “وثيقة أبو مازن-بيلين، رحم الله حق العودة”، زمان الوصل، 18 فبراير/شباط 2009، (تاريخ الدخول: 8 فبراير/سباط 2022): https://www.zamanalwsl.net/news/article/9258
  10. “قانون رقم (2) لسنة 1999 بشأن الأحوال المدنية”، أرشيف موقع المقتفي، (تاريخ الدخول: 6 أبريل/نيسان 2022): https://web.archive.org/web/20100731140415/http://muqtafi.birzeit.edu/en/pg/getleg.asp?id=13141
  11. تقوم السلطة الفلسطينية ضمن ظروف معينة بمنح جواز سفرها لفئات من اللاجئين الفلسطينيين في الخارج، وهذا الجواز يجري منحه دون رقم وطني، وهو لا يخول صاحبه دخول الأراضي الفلسطينية أو العيش فيها.
  12. المصدر السابق.
  13. “اللاجئون الفلسطينيون: الاحتمالات والمآلات،”وكالة وفا، أين تاريخ النشر؟، (تاريخ الدخول: 9 فبراير/شباط 2022): https://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=3998
  14. وسيم الزهيري، “الفلسطينيون في لبنان… تعداد يخالف التوقعات،” الجزيرة نت، 21 ديسمبر/كانون الأول 2017، (تاريخ الدخول: 22 فبراير/شباط 2022): https://rb.gy/mu6mbt
  15. Ibid
  16. محمود عباس، “مؤتمر مدريد، وضع الأمور في نصابها”، مجلة الدراسات الفلسطينية (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، العدد 8 خريف 1991)، ص 104.
  17. ليلى هلال، “مبادرة السلام العربية، ماذا تعني للاجئين الفلسطينيين؟”، جريدة حق العودة (بديل/المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، العدد 34 السنة السابعة، 2009)، ص 16.
  18. طارق حمود، تحولات الموقف السياسي البريطاني بعد تصنيف حماس بالكامل على قوائم المنظمات الإرهابية، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، ديسمبر/كانون الأول 2021، (تاريخ الدخول: 5 مارس/آذار 2022): https://www.alzaytouna.net/2021/12/14/التقدير-الاستراتيجي-128-تحولات-الموقف-ا/#.YiQCIC-l1QI
  19. مقابلة خاصة أجراها الباحث مع ماهر صلاح، رئيس منطقة الخارج في حركة حماس، 26 أكتوبر/تشرين الأول 2020، إسطنبول تركيا.
  20. إبراهيم غوشة، المئذنة الحمراء، ط2 (بيروت، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2015)، ص 180.
  21. مقابلة خاصة أجراها الباحث مع ياسر عزام، قيادي في حماس لبنان، 27 مارس/آذار 2021، صيدا لبنان.
  22. المصدر السابق.
  23. عبد الحكيم حنيني، منهجية حركة حماس في العلاقات الخارجية: سورية نموذجًا 2000-2015، ط 1، (بيروت، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2018)، ص 128، 130.
  24. المصدر السابق.
  25. محادثة شخصية مع قيادي في حماس، ديسمبر/كانون الأول 2020.
  26. “حماس تعتبر مؤتمر فلسطينيي الخارج خطوة استراتيجية تعيد الزخم للقضية”، القدس العربي، 26 فبراير/شباط 2017.
  27. تحالف الفصائل العشر هو إطار جبهوي تنسيقي تشَكَّل ردًّا على مسار التسوية، حيث أُعلن عن انطلاقه من مخيم اليرموك في دمشق عقب توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993. ويضم كلًّا من: حماس، والجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة، ومنظمة الصاعقة (طلائع حرب التحرير الشعبية)، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وفتح الانتفاضة، وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني/جناح خالد عبد المجيد، وجبهة التحرير العربية/جناح أبو نضال الأشقر، والحزب الشيوعي الفلسطيني الثوري/جناح العربي عواد.
  28. مصدر سابق، ص 11.
  29. نواف التميمي، “الشتات والانقسام الفلسطيني”، العربي الجديد، 28 أكتوبر/تشرين الأول 2018.
  30. المصدر السابق.
  31. “البيان الختامي للمؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج”، موقع المؤتمر الشعبي لفلسطيني الخارج، 26 فبراير/شباط 2017، (تاريخ الدخول 23 فبراير/شباط 2022): https://rb.gy/xb09sk
  32. مصدر سابق.
  33.  “Ministry of Strategic Affairs and Public Diplomacy”, Prime Minister’s Office, August 1, 2019, “accessed February 23, 2022,” https://rb.gy/t3vd0m
  34. مصدر سابق.
  35. وليد عبد الحي، “تقدير موقف: الآفاق المستقبلية لمعركة سيف القدس”، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 25 مايو/أيار 2021، (تاريخ الدخول: 9 مارس/آذار 2022): https://www.alzaytouna.net/2021/05/25/تقدير-موقف-الآفاق-المستقبلية-لمعركة/#.Yii_qC-l1QI
  36.  “What is BDS”, BDS, “accessed February 23, 2022,” https://bdsmovement.net/what-is-bds
  37. عبد الوهاب المسيري، “اليهود ودولة إسرائيل في الاستراتيجية الغربية”، الجزيرة نت، 3 أكتوبر/تشرين الأول 2004، (تاريخ الدخول: 8 مارس/آذار 2022): https://www.aljazeera.net/2004/10/03/اليهود-ودولة-إسرائيل-في-الإستراتيجية
  38. عبد الرحمن أبو نحل، الحرب الإسرائيلية ضد حركة المقاطعة (BDS)، موقع المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية-مسارات، 16 أكتوبر/تشرين الأول 2016، (تاريخ الدخول: 5 فبراير/شباط 2022): https://www.masarat.ps/article/1783/files/content_files/tqdyr_mwqf_lmqt_bd_lrhmn_bw_nhl.pdf 
  39. المصدر السابق.
  40. تامر المسحال، ما خفي أعظم- “شركة وورلد تشيك” المسؤولة عن القائمة السوداء للإرهاب، موقع يوتيوب، 20 أكتوبر/تشوين الأول 2019، (تاريخ الدخول: 5 فبراير/شباط 2022): https://www.youtube.com/watch?v=BtbbPmP3orI
  41. إبراهيم العلي (محرر)، فلسطينيو سورية ورحلة البحث عن الذات، (لندن، مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية، 2020)، ص 24-25، https://www.actionpal.org.uk/ar/reports/special/soul_searching_journey.pdf 
  42. “تقرير إسرائيلي: الأبارتهايد سيكون واقع الدولة الواحدة”، عرب48، 8 فبراير/شباط 2022، (تاريخ الدخول: 9 فبراير/شباط 2022): https://www.arab48.com/إسرائيليات/دراسات-وتقارير/2022/02/08/تقرير-إسرائيلي-الأبارتهايد-سيكون-واقع-الدولة-الواحدة
  43. “وثيقة المبادئ والسياسات العامة،” حركة حماس، 2 مايو/أيار 2017، (تاريخ الدخول: 9 مارس/آذار 2022): https://hamas.ps/ar/post/7293/وثيقة-المبادئ-والسياسات-العامة
  44. مصدر سابق.
  45. تشير التقديرات إلى وجود أكثر من 700 ألف فلسطيني في أوروبا، بينما تذكر المصادر أعلاه تناقص أعداد فلسطينيي لبنان إلى أقل من 200 ألف، وفلسطينيي سوريا إلى أقل من 350 ألفًا.
  46. إبراهيم العلي، فلسطينيو سورية والطريق إلى أوروبا، (لندن، مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية، 2017)، ص 55-56، https://www.actionpal.org.uk/ar/reports/special/journeyofpainhope.pdf
  47. علي باكير وعدنان أبو عامر، “تركيا والقضية الفلسطينية في ظل تحولات الربيع العربي”، مركز الجزيرة للدراسات، 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، (تاريخ الدخول: 9 مارس/آذار 2022): https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2012/11/201211682923673950.html
  48. واحدة من إشكاليات العمل الفلسطيني في الغرب، أنه محكوم بسقف العملية السياسية السلمية التي تعتبر الاحتلال قائمًا في أراضي العام 1967. وخلاف ذلك، فإن التجريم ممكن تحت سطوة معاداة السامية، ورفض حق إسرائيل في الوجود.
  49. مصدر سابق.
  50. عوض عبد الفتاح، “الدولة الواحدة: مشروع مقاومة وليس رؤية فحسب”، العربي الجديد، 26 يوليو/تموز

المصدر: الجزيرة للدراسات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار