البابور الموقع العربي

الشهيدة “كعابنة”.. على حاجز “قلنديا” انطفأ وهج ابتسامتها

261

انطلقت الرصاصات من فوهة بندقية الجندي الغادر بعدما داست أصابعه على الزناد، لتنهش جسد ابتسام الضعيف بلا هوادة وتهوي بها على الأرض، تمتزج عباءتها السوداء بلون الدم وتتسع البقعة الحمراء حولها، تركها الجنود تنزف وهم ينتظرون صعود روحها إلى السماء، في مشهد حقد يتكرر أمام عدسات الكاميرات التي تلتقط في أوقات كثيرة الجزء الأخير من المشهد.

كانت حدقتا عيني والدتها تتسع أكثر مفسحةً المجال لدموعها بالجريان وهي ترى ابنتها عبر شاشة التلفزيون، حينما أخبرتها ابنتها الأخرى بنبأ استشهاد فتاة على حاجز “قلنديا” العسكري الإسرائيلي، فحملتها مخاوفها نحو القنوات الإخبارية، فقد اقتحم الشك قلبها ثم تأكدت أنها ابنتها على الفور، من حذائها الذي اشترته قبل يومين من مدينة رام الله.

حذاء ابتسام كعابنة (28 عامًا) علامة جعلت أمها تغلق الشاشة مؤكدةً الخبر: “لا، هي ابتسام بنتي”.. كلمات خرجت بصرخة مدوية أسقطت دموع الأم بقهرٍ، فقد كانت قبل ساعة تجلس مع ابنتها الشهيدة. قبل المشهد الأخير، كانت ابتسام وجارتها وأمها يقطفن أوراق “الملوخية” ويتبادلن الحديث في مجلس نسائي، وهي توزع نظراتها الأخيرة على وجوههن، كشخصِ يحزمُ حقائب السفر.

استأذنت ابتسام للانسحاب من الجلسة وخرجت من البيت صائمة في اليوم الموافق 12 يونيو/ حزيران 2021، إلى “مشوار قصير”، وعند حاجز قلنديا شمال القدس المحتلة الذي يشهر عليه جنود الاحتلال بنادقهم تجاه كل ما هو فلسطيني لمجرد “الشك” فاضت روحها.

صوت والدتها المنبعث من طرف سماعة الهاتف يشبه صوت البكاء، وهي تقول لصحيفة “فلسطين”: “تتملكني الحيرة من ابنها حسن (7 سنوات) وابنتها ليان (6 سنوات) من سؤالهما عن أمهما”. سؤال لم تجد والدة ابتسام إجابة عنه لخصوصية وضع ابنتها الشهيدة المنفصلة عن زوجها، والتي اعتاد طفلاها على استقبال أمهما لهما على عتبات البيت لحظة قدومها للمبيت عندها في موعد استضافتهم لها الأسبوعية.

سيأتي حسن وليان إلى عتبات بيت جدتهما، ويتسابقان لفتح الباب ويتدافعان وهما يركضان ليكون أحدهما أسرع من الآخر إلى ذراعي والدته، لكن هذه المرة لن يجدا ذراعين مفرودين أمامهما، لن يجدا تلك الابتسامة الصادقة التي تنبعث من وجه أمهما كشمس تتوهج،

مشهدٌ يذيب قلب الجدة وهي تتخيله وتقصّه. لكن الجدة تتعهد باحتضانهما كما كانت تفعل ابنتها الشهيدة: “هالطفلان من ريحة بنتي وراح أربيهم وأجيبهم في نفس الأيام”.

ملامح ابتسام الهادئة، وابتسامتها التي لا تفارقها، خصالها التي تتحرك في صوت أمها وهي تقول: “كانت تحافظ على قراءة القرآن حتى منتصف الليل، وتصلي قيام الليل حتى الفجر ثم تعاود قراءة القرآن، تحب طفليها، لا تحقد على أحد، تعطي بسخاءٍ، ففي بيت العزاء جاءت نسوة وأخبرنني أن ابتسام كانت تتصدق عليهن من راتب الأسير الذي كانت تحصل عليه، فهي أسيرة محررة”.

صوت ابتسام يزورها “قبل أسبوع أخبرتني أن في بيتنا عرسًا”، تنهدت الأم معلقةً: “هي العرس، زفت إلى الجنة إن شاء الله، وحسبي الله على اليهود الظالمين”.

في 27 أغسطس/ آب 2016 أسر الاحتلال ابتسام عامًا ونصف العام، وأفرج عنها مع بداية عام 2018، مكثت نحو 18 شهرًا، ذبلت فيها حياتها وافترش الظلام قلبها بعيدة عن طفليها. صوت بكاءٍ داخل غرفة سجن “هشارون” في إحدى ليالي سبتمبر/أيلول 2017، يوقظ المرابطة المقدسية هنادي حلواني التي أسرها الاحتلال حينها مدة 12 يومًا، التفتت لتجد ابتسام تسكب شوقها وحنينها لطفليها على وجنتيها، مشهد ما زالت تذكره المرابطة المقدسية رغم قصر مدة وجودها مع ابتسام.

تضيف “كانت هادئة تتعبد طوال الليل، تصلي الصلاة على وقتها، تتحدث عن أبيها ومساعدته في زراعة الملوخية وحصدها، تتحدث كثيرًا عن طفليها وتبكي لأجلهما”. “حينما أنظر لصورتها أتذكر كل شيء جميل، وكل شيء صعب مرت فيه، أتذكر كيف كانت تفضل ساندويشة الزيت والزعتر على أي طعام آخر، تمضي أغلب وقتها في التعلم والتجويد وقراءة القرآن،

ابتسام الفتاة الذكية صاحبة الطموح بحياة أجمل بعد الأسر”، لم تمح تلك السنوات التفاصيل من ذاكرة الأسيرة المحررة شيرين العيساوي. ورغم أن ابتسام كانت دائمًا تحاول الحفاظ على ابتسامتها طوال انهار، إلا أن شيرين رأت الجانب المؤلم من حياتها: “كانت تسرح بالتفكير بابنها حسن الذي تركته قبل اعتقالها، وكانت نظرة الحزن تنبعث من عيونها، وتقول: “بس لو يسمحولي أحضنه”، أمنية رفض الاحتلال تحقيقها.

غزة- تقرير يحيى اليعقوبي

المصدر / فلسطين أون لاين

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار