مالك التريكي
على مدى السنوات تطرقنا في هذه الزاوية لعلاقات بريطانيا الإشكالية مع البر الأوروبي بمزيج من التفهّم والتعجّب. ولأننا من بقايا العروبيين الذين لم يتوبوا عن أحلام النهضة والوحدة (رغم اليقين بأن الوحدة العربية كانت شبه مستحيلة في القرن العشرين وأن استحالتها تبدو الآن نهائية ومطلقة) فقد كنا في كل الحالات متعاطفين مع مساعي الوحدة الأوروبية، على علاتها، ضد سرديات الانعزالية البريطانية، مع مغرياتها. إلا أنه قد وجب اليوم القول إن الاتحاد الأوروبي هو المخطئ في قضية الخلاف حول إمدادات لقاح أسترازينكا. التفسير بسيط: لقد راكمت المفوضية الأوروبية جبلا من الأخطاء في إدارة مسألة التعاقد حول التزود باللقاحات لمجموع الأمم الأوروبية، ولما أدركت أن الأحداث تجاوزتها لفرط تعقيداتها البيروقراطية (التي كانت من أول أسباب نفور البريطانيين من الاتحاد أصلا) تراءى لها أن من الدهاء السياسي أن تنكر أخطاءها وتلقي بالمسؤولية على بريطانيا. والدليل على صواب هذا التعليل أن موقف رئيسة المفوضية، الألمانية أورسولا فندرلاين، لم يلق قبولا في بلادها. ذلك أن الرأي العام الألماني، حسبما ذكرت مراسلة جريدة «دي فلت» في لندن ستيفاني بولزن، لا يصدق أقوال فندرلاين ويرى أن تهديدها بوقف صادرات اللقاح (المنتج في بلجيكا) إلى بريطانيا إنما هو افتعال لمعركة تحاول أن تصرف بها الأنظار عن سقطاتها وسوء تدبيرها. هذا قبل أن يأتي مزيد من الشرح على لسان يانيس فاروفاكيس، الاقتصادي الشهير والوزير اليوناني السابق، عندما أعلن الخميس أن من اللازم إقالة فندرلاين جزاء وفاقا على «فشلها الذريع» في إدارة برنامج التزود باللقاح.
ورغم أن ضلالات البريطانيين أوردتهم عام 2016 مسخرة البركسيت الحزينة البئيسة، ورغم أن أزمة الوباء أوقعتهم في كساد اقتصادي لم يشهدوا أخطر منه منذ أكثر من ثلاثة قرون (!) ورغم أن حكومتهم أساءت إدارة الأزمة فارتفع عدد الضحايا إلى أكثر من 126 ألفا يقدّر الخبراء أن 27 ألفا منهم ما كانوا ليهلكوا لولا تردد الحكومة وتباطئها في اتخاذ الإجراءات الاحترازية اللازمة، رغم ذلك كله فإن بريطانيا ما بعد البركسيت قد تقدمت أوروبا خطوتين، أو لعلها سجلت ضدها نقطتين. الأولى تتمثل (ويا للمفارقة!) في التفرد عن بقية الدول الأوروبية بحسن إدارة برنامج التطعيم وسرعة تنفيذه، حيث شمل حتى الآن أكثر من 38 بالمائة من السكان. الخطوة الثانية، وهي أهم للمستقبل، تتمثل في إعلان تصور جديد للسياسة الخارجية والدفاعية يتعلق بتحديد مكانة بريطانيا في العالم بحلول 2030. ويقدم التصور الجديد، الذي وصفه بوريس جونسون بأنه «أهم تمرين نجريه في مجال التخطيط الجغراسياسي منذ عهد الحرب الباردة» تجسيما عمليا لمفهوم «بريطانيا العالمية» (أو العولميّة) الذي يبشر بتعاظم الدور البريطاني في الساحة الدولية بعد البركسيت.
وقد أتى هذا التصور، المتضمن في وثيقة حكومية بعنوان «بريطانيا العالميّة في عصر تنافسيّ: مراجعة متكاملة للأمن والدفاع والتنمية والسياسة الخارجية» في إطار الاستجابة لثلاثة تحديات: ما بعد البركسيت؛ وصعود الصين؛ وتزعزع أسس النظام الدولي. والمبدأ الأساسي في التصور الجديد هو أن مستقبل بريطانيا يقتضي تحويل مركز ثقل سياستها الخارجية باتجاه منطقة المحيطين الهندي والهادي. وإذا كان هذا التحول مفهوما، لأنه يندرج في سياق مساعي جميع الديمقراطيات الليبرالية إلى احتواء الصين وضمان احترام قانون البحار ولأنه يجانس أيضا ما حصل في عهد أوباما من تحويل للسياسة الخارجية الأمريكية نحو آسيا، فإن الغريب في هذه الوثيقة هو أنها لا تكاد تذكر الاتحاد الأوروبي مجرد الذكر، لولا بضع إشارات إلى ألمانيا وفرنسا. ولهذا قالت الغارديان إن الصفحات المائة من الوثيقة تخيل للقارئ أنه لا وجود للاتحاد الأوروبي، ونعتت هذا الموقف بالصبياني، خصوصا أن الوثيقة تعرّف روسيا بأنها الخطر الأشد على أمننا.
أما ما لم ينتبه إليه المتابعون فهو أن وصف الصين في الوثيقة البريطانية إنما يتطابق تماما مع وصفها في وثيقة للاتحاد الأوروبي (صدرت عام 2019) بأنها شريك اقتصادي إستراتيجي لكنها خصم على مستوى النظم والقيم. وإذا كان التصور الجديد قد لقي استحسانا لتركيزه على تكثيف الاستثمار لتصير بريطانيا قوة عظمى في العلوم والتكنولوجيا، فإنه قد أثار انتقادات بسبب قرار زيادة الرؤوس النووية (بعد 30 عاما من التجميد) من 180 إلى 260 وخفض المساعدات للبلدان الفقيرة والمنكوبة (بنسبة الثلثين في حالة اليمن!). ولهذا سأل المنتقدون: كيف يستقيم لأي دولة زعم الاضطلاع بدور عالمي فيما هي تخفض ميزانية المساعدات الخارجية للمحتاجين والمنكوبين؟ في ظني أن الجواب عند نابليون. إذ لم يكن يرى في البريطانيين سوى «أمة من البقالين وأصحاب الدكاكين».
كاتب تونسي
القدس العربي