البابور الموقع العربي

الغارديان: بتحب عمرو موسى وبتكره… ايييييه

390

مالك التريكي

بينما كنت في قطار الأنفاق في لندن، وقع ذات يوم ما هو نادر الوقوع في هذه البلاد التي يتحاشى أهلها الحديث مع من لا يعرفون، بل ويصرفون أبصارهم حتى لا تتواجه الوجوه ولا تتلاقى العيون. فقد بادرني رجل لا يعرفني ولا أعرفه بالخطاب! لمح الجريدة التي كنت بصدد قراءتها، فسأل: أنت إذن من قراء الغارديان؟ قلت: أي نعم. قال: لا أحبها. أنا يهودي، وهي مناهضة لإسرائيل. سألت: هل أنت متأكد؟ فأجاب: طبعا، كل الناس تعرف أنها تروج الأباطيل! آنذاك لذت بالصمت وعدت للقراءة، فأي حوار يرجى مع من يوشك أن يغنّي: الغارديان بتحب عمرو موسى وبتكره إسرائيل… ايييييه!
والواقع أن الرجل لم يعد أن ردّد ما يقال. فالشائع عن الغارديان أنها أكثر الصحف البريطانية انتقادا لإسرائيل. بل إن من التهم، الزائفة، التي يرميها بها أنصار إسرائيل أنها مناهضة للصهيونية، وحتى معادية للسامية! لهذا بادرت الغارديان إلى تكليف الصحافية الإسرائيلية دافنا بارام بإجراء تحقيق في الموضوع نشر عام 2004 في كتاب بعنوان «خيبة الأمل: الغارديان وإسرائيل». إذ إن من المفارقات أن المانشستر غارديان كانت، طيلة ستة عقود، أكثر جرائد بريطانيا حماسا للصهيونية، وأن مديرها الشهير (لمدة 57 عاما!) تشارلز برستويتش سكوت قد كان صديقا للزعيم الصهيوني حاييم وايزمان، الذي كان أستاذا للكيمياء في جامعة مانشستر. وكان سكوت هو الذي قدم وايزمان عام 1914 لعضو مجلس العموم عن إحدى دوائر مانشستر (وزير الخارجية لاحقا) آرثر بلفور؛ ولليهودي الوحيد في الحكومة وزير الحكم المحلي هربرت صموئيل. ورغم أن وايزمان لم يكن مرتاحا لصموئيل بسبب عدم تعاطفه مع الصهيونية، فإن اللقاء كان مثمرا لأن صموئيل أخبره أن دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى قد جعل تحقيق الحلم الصهيوني ممكنا. آنذاك بلغ الابتهاج بوايزمان حد القول: لو كنت يهوديا متدينا لاعتقدت أن زمن الرسولية الخلاصية قد اقترب. وبعد ذلك رتب سكوت لوايزمان لقاء مع وزير المالية (رئيس الوزراء لاحقا) لويد جورج، فإذا بهذا الداهية يعجب بوايزمان ويتعهد بدعم مساعيه. وكان مما قاله لويد جورج لصموئيل: عندما نصير كلانا نسيا منسيّا، سيكون لهذا الرجل تمثال تكريمي في فلسطين.

الغارديان هي الجريدة البريطانية الوحيدة التي كانت تنشر مقالات إدوارد سعيد السياسية، تماما كما أن البي بي سي، إذاعة وتلفزة، هي التي كانت تستضيفه بما يليق بمقامه

كان سكوت هو الراعي السياسي لوايزمان، حيث مهّد له الأسباب ووصله بأكبر ساسة بريطانيا. ومن خدماته الجليلة للصهيونية أنه أقنع لويد جورج بأهمية الاكتشاف العلمي الذي حققه وايزمان في مجال إنتاج مادة الآسيتون التي سرعان ما يسّرت صنع القذائف بكميات ضخمة ضمنت استمرار زخم المجهود الحربي البريطاني. كما أن سكوت هو الذي سرّب لوايزمان تفاصيل مسوّدة اتفاقية سايكس بيكو. وقد أثارت هذه الاتفاقية مخاوف ما سمي بـ«مدرسة مانشستر للصهيونية» فضاعف زعماؤها الجهود لمحاولة الحصول على تعهد كتابيّ من الحكومة البريطانية بضمان مطامعهم في فلسطين. وما كانت هذه الجهود لتكلل بالنجاح لولا فعالية سكوت في إقناع بلفور بإعلان وعده الشهير.
وقد سبق لجريدة «جويش تلغراف» المانشسترية (وليس جويش كرونيكل اللندنية) أن نشرت عام 1998 كتابا يوثق ما قدمته الغارديان، ومانشستر عموما، من دعم للصهيونية ودولتها. ومما يذكر الكتاب أن المذيع جيمي سافيل هو الذي فتح الطريق لأول لقاء بين السادات وبيغن لأن سافيل كان صديقا لعائلة أمّ جيهان السادات (الإنكليزية غلاديس كوترل). أما المنعطف الحاسم في موقف الغارديان من إسرائيل فقد بدأ عقب حرب 1967، لمّا ثبت أن إسرائيل هي القوة العسكرية الكبرى في الشرق وأنه لا خطر عليها من جيرانها. ثم تضافرت جرائم الاحتلال العسكري والاغتصاب الاستيطاني والفصل العنصري على مدى العقود لتجعل من الغارديان الجريدة الوحيدة في بريطانيا، بل ربما في بلدان اللغة الإنكليزية قاطبة، التي يصعب أن تنطلي عليها تلك الحيل والمواويل التي تتقنها إسرائيل.
للغارديان كتّابها المجيدون، وسايمون جنكنز اليوم أفضلهم؛ كما كان مارتن ووكر، في الثمانينيات والتسعينيات، ألمعهم. ويبقى كاتبها الأثير عندي هو الراحل هيوغو يانغ الذي كان يمتاز بعمق الفكر وأخلاقيّة الرؤيا، والذي كنت قد حظيت بلقائه ومحاورته في بيته في هامبستد. أما زيارتي الأولى للغارديان فقد كانت بمناسبة حفل أقامه رئيس التحرير آنذاك، آلان راسبريدجر، بمناسبة اختتام دورة تدريب لمجموعة من الصحافيين الفلسطينيين الشباب. ومعروف أن الغارديان هي الجريدة البريطانية الوحيدة التي كانت تنشر مقالات إدوارد سعيد السياسية، تماما كما أن البي بي سي، إذاعة وتلفزة، هي التي كانت تستضيفه بما يليق بمقامه؛ بينما لم يحدث تقريبا أن ظهر على أي من القنوات الأمريكية.

كاتب تونسي – القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار