البابور الموقع العربي

ابن سلمان: ملكيتنا مطلقة وبدون آل سعود ستكون السعودية أفغانستان.. وحادثة خاشقجي أسوأ شيء حدث لي

935

ردًّا على سؤال حول مقتل جمال خاشقجي، قال محمد بن سلمان: «إذا كانت هذه هي الطريقة التي نُنجِز بها أمورنا، لما كان خاشقجي واحدًا حتى من بين أهم ألف شخص على قائمة المستهدفين».

هكذا استهل جرايم وود، الصحافي في مجلة «ذي أتلانتيك» الأمريكية، مقابلته المطولة مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، من داخل القصر الملكي في الرياض. وفيما يلي الترجمة الكاملة للمقابلة.

يبلغ محمد بن سلمان، ولي عهد المملكة العربية السعودية، من العمر 36 عامًا، وقاد بلاده لما يقرب من خمس سنوات حتى الآن. ونادرًا ما شُوهد والده الملك سلمان البالغ من العمر 86 عامًا أمام الناس منذ عام 2019، وحتى محمد بن سلمان – المعروف عالميًّا بالحروف الأولى من اسمه (إم بي إس) – واجه العالم مراتٍ قليلة منذ أن بدأت الجائحة.

يومًا ما، كان ابن سلمان في كل مكان، في جولة دعائية لا تنتهي للترويج لخطته لتحديث مملكة والده. لكن بعد وقت قصير من مقتل الصحفي جمال خاشقجي الكاتب في صحيفة «واشنطن بوست» عام 2018، قلَّص محمد بن سلمان من أسفاره. وكانت آخر مقابلة له مع صحافة غير سعودية قبل أكثر من عامين، وخلُصت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) إلى أنه أمرَ بقتل خاشقجي، ووجد المدَّعون السعوديون أن الأمر قد جرى على يد بعض مساعدي ولي العهد المقربين، ويُعتقد أنهم قطَّعوا أوصال خاشقجي ومزَّقوا جثته إربًا إربًا.

وقد ذاع صيت محمد بن سلمان، واشتهر بأنه بالغ القسوة، بحسب وود، وفي عام 2017، جمع مئات من أفراد عائلته وغيرهم من الأثرياء السعوديين وسجنهم في فندق ريتز كارلتون بالرياض بتهم فساد غير رسمية، ورسَّخ مقتل خاشقجي النظرة عن ولي العهد بأنه همجي ولا يقبل النقد ومختل عقليًّا، ومن بين أولئك الذين يتبنُون تقييمًا سيئًا عن محمد بن سلمان، الرئيس جو بايدن، الذي رفض حتى الآن التحدث معه، فيما يأمل كثيرون في واشنطن وعواصم غربية أخرى ألا يصعد محمد بن سلمان إلى عرش المملكة.

صعود محمد بن سلمان للعرش أمر حتمي

لكن داخل المملكة، يُنظر إلى صعود محمد بن سلمان إلى العرش على أنه أمر حتمي، بحسب وود، وينقل عن دبلوماسي سعودي بارز قوله: «اسأل أي سعودي، أي شخص على الإطلاق، هل سيكون محمد بن سلمان ملكًا أم لا؟ وإذا كان هناك أشخاص في واشنطن يعتقدون أنه لن يكون كذلك، فعندئذٍ لا يمكنني مساعدتهم، فأنا لست طبيبًا نفسيًّا». وفي نهاية المطاف، ستؤدي وفاة والده إلى أن يصبح ابن سلمان العاهل المطلق لمهد الإسلام ومالكًا لأكبر احتياطيات نفط يمكن الوصول إليها في العالم. كما أنه سيكون زعيمًا لدولة من أقرب حلفاء أمريكا ومصدرًا لعديد من مشكلاتها أيضًا.

يشير الكاتب إلى تجربة سفره إلى السعودية على مدار السنوات الثلاث الماضية، محاولًا فهم طبيعة ولي العهد، هل هو قاتل أم مصلح أم كلاهما؟ – وإذا كان كليهما، فهل يمكن أن يكون أحدهما دون الآخر.

حتى منتقدي محمد بن سلمان يعترفون بأنه قد أنقذ البلاد من سُبات اقتصادي واجتماعي، إذ أعلن في عام 2016، عن «رؤية السعودية 2030»، لتحويل المملكة من واحدة من أغرب دول العالم، بحسب وصف الكاتب، إلى مكان يمكن وصفه وصفًا معقولًا بأنه طبيعي، فهي الآن مفتوحة للزوار والاستثمار، وتسمح لمواطنيها بالمشاركة في أعمال الترفيه العادية وحتى «اقتراف بعض الرذائل»، وأضفى ولي العهد الشرعية على دور السينما والحفلات الموسيقية، ودعا بشكل خاص فناني الهيب هوب إلى إحياء الحفلات في المملكة، كما سمح للمرأة بالقيادة وارتداء الملابس بحرية قدر المستطاع مثل دبي والبحرين، وقلَّص دور علماء الدين الرجعيين وألغى الشرطة الدينية المعروفة باسم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنه ينظر في العلاقات مع إسرائيل.

كذلك أوجد ابن سلمان مناخًا من الخوف غير مسبوق في تاريخ السعودية، التي لم تكن دولة حرَّة أبدًا، بحسب وود، لكن حتى أكثر أسلاف محمد بن سلمان قمعًا، عمُّه الملك فيصل، لم يُشرف أبدًا على أجواء كتلك الأجواء السائدة في الوقت الحاضر، إذ يُعتقد على نطاق واسع أنك تعرض نفسك للخطر إذا انتقدتَ الحاكم أو حتى إذا قدَّمت مجاملة لطيفة لخصومه. وقد ذهب منتقدو محمد بن سلمان إلى المنفى، وهم ليسوا من قتلة الملوك المتعصبين أو المتعاطفين مع القاعدة، بحسب وود، بل مجرد أناس عاديين لديهم أفكار مستقلة حول إصلاحاته.

يخشى بعض المعلِّقين أنه إذا استمر يفعل ما يريد، فإن السعودية الحديثة ستقمع الناس بطرق لم تتخيلها السعودية القديمة. وينقل الكاتب تحذير خالد الجابري، الابن المنفي لأحد أبرز منتقدي محمد بن سلمان (سعد الجابري؛ مسؤول استخباراتي سابق)، من أن الأسوأ لم يأتِ بعد، قائلًا له: «حينما يحصل على لقب الملك، سيُذكَر ولي العهد محمد بن سلمان على أنه ملاك».

اختفى محمد بن سلمان عن أنظار الجماهير، لمدة عامين تقريبًا، كما لو كان يأمل نسيان مقتل خاشقجي، وهو ما لم يحدث، بحسب وود. لكن ولي العهد لا يزال يريد إقناع العالم بأنه ينقذ بلاده، ولا يتخذها رهينة – وهذا هو السبب، بحسب وود، في أنه التقى مرتين في الأشهر الأخيرة معه ومع رئيس تحرير المجلة، جيفري جولدبرج.

برتوكولات متعددة المراحل

يصف وود ما كان عليه ولي العهد في اجتماعاتهما، إذ كان «ساحرًا ولطيفًا ومتحررًا من الرسميَّات وذكيًّا»، وفي لقائهما الأول، استدعاهم محمد بن سلمان إلى قصرٍ بعيدٍ يقع على البحر الأحمر، وهو ملاذ عائلته من فيروس كورونا. ويصف الكاتب إجراءات دخوله للقصر، إذ كانت البروتوكولات متعددة المراحل، بداية من سلسلة من اختبارات تفاعل البوليميراز المتسلسل (بي سي آر) بواسطة ممرضات من العيادات الملكية، ثم ركوب طائرة تابعة لشركة جلف ستريم في منتصف الليل من الرياض، ثم قافلة من مهبط طائرات مهجور، إلى تسليم الأجهزة الإلكترونية، ثم توقف في دار ضيافة غامضة تراها الأقمار الصناعية لكن ليس لها علامات على خرائط جوجل، وأخيرًا دعاهم إلى قصره حوالي الساعة 1:30 صباحًا، وتحدثا لمدة ساعتين تقريبًا.

أما فيما يخص الاجتماع الثاني في قصره بالرياض، يقول الكاتب إنه طُلِب منهم الاستعداد بحلول الساعة 10 صباحًا، وبدأ الاجتماع أيضًا بعد منتصف الليل. يقول الكاتب: «كانت القاعات تضج بالحركة. وكان ولي العهد قد عاد لتوه بعد ما يقرب من عامين من العمل عن بعد، وراح مساعدوه ووزراؤه يسيرون على السجاد الأحمر سعيًا إلى عقد اجتماعات، هي الأولى منذ شهور، مع رئيسهم. وتراكمت الطرود والوثائق المهملة على المكاتب والطاولات في مكتبه، الذي كان كبيرًا ولكن لا يكاد يكون فخمًا. وكان التنازل الأكثر وضوحًا للذوق الرفيع هو تلسكوب قديم الطراز مثبت على حامل ثلاثي القوائم، حيث ضُبِط ارتفاعه بعدم احترافية لدرجة أنه بدا غير موجهٍ نحو السماء بل إلى الرياض، العاصمة الصحراوية القبيحة مترامية الأطراف، التي حكمت منها أسرة آل سعود معظم القرون الثلاثة الماضية».

وفي بداية كلتا المحادثتين، يقول الكاتب: «أبدى محمد بن سلمان أسفه لأن الجائحة تمنعنا من العناق. واعتذر عن اضطرارنا جميعًا إلى ارتداء الكمامات. (حضر كلا الاجتماعين لفيفٌ من الأمراء الصامتين، الذين يرتدون أثوابًا وكماماتٍ بيضاء متطابقة، مما يجعلنا غير متأكدين، حتى يومنا هذا، من كان حاضرًا بالضبط). وترك ولي العهد سترته غير مزرَّرة عند الياقة، بأسلوب حديث يفضِّله الآن الشباب السعودي، وقدم إجابات مريحة لا تشي بالاضطراب العقلي على أسئلة حول عاداته الشخصية. إنه يحاول الحد من استخدامه لموقع تويتر، ويتناول الإفطار كل يوم مع أولاده، ومن أجل المتعة؛ يشاهد التلفاز، ويتجنب مسلسلات مثل هاوس أوف كاردز، لأنها تذكره بالعمل، وبدلًا من ذلك، قال -دون سخرية واضحة- إنه يفضل مشاهدة المسلسلات التي تساعده على الهروب من واقع وظيفته، مثل صراع العروش».

ما من أسئلة لا يمكن أن يطرحها مساعدوه عليه

وقبل الاجتماعين، سأل الكاتب أحد مستشاري محمد بن سلمان إذا كانت هناك أي أسئلة «يمكنني أن أطرحها على رئيسه لا يستطع هو أن يطرحها عليه بنفسه. فأجاب دون تفكير: (لا شيء، وهذا ما يجعله مختلفًا عن كل ولي عهد سبقه)». وخلال لقائهم في الرياض، سأل جيف، رئيس تحرير المجلة، محمد بن سلمان عن مدى قدرته على التعامل مع النقد، فقال الأمير: «شكرًا جزيلًا لك على هذا السؤال. إذا لم أكن قادرًا على ذلك، لما كنتُ أجلس معك اليوم للاستماع إلى هذا السؤال

قال جيف ملمحًا إلى الواقعة الشهيرة: «ربما كنتُ نزيلًا في فندق ريتز كارلتون؟»، أجاب ابن سلمان: «حسنًا، على الأقل فهو فندق خمس نجوم». وتسببت الأسئلة الصعبة، بحسب الكاتب، «في تحرك ولي العهد حركات عصبية، وارتفاع نبرة صوته. وفي كل دقيقة أو دقيقتين، كان يقوم بتشنجات حركية معقدة: إمالة سريعة للرأس للخلف، يتبعها ابتلاع (ريقه)، كأنه بجَعَة تبتلع سمكة. واشتكى من أنه تعرَّض للظلم، وأظهر مستوًى من لعب دور الضحية وهوس العظمة غير عادي حتى بمعايير حكام الشرق الأوسط».

يضيف الكاتب: «عندما سألناه هل أمرَ بقتل خاشقجي، قال إنه (من الواضح) أنه لم يفعل ذلك، مضيفًا (لقد آلمني مقتله كثيرًا)، وتابع (إن الأمر يؤلمني ويؤذي المملكة العربية السعودية، من منظور المشاعر)»، وسأله الكاتب عن معنى الجملة الأخيرة «من منظور المشاعر»، فأجاب ابن سلمان: «أنا أتفهَّم مشاعر الغضب السائدة، خاصة بين الصحفيين. وأحترم مشاعرهم. لكن لدينا أيضًا مشاعر، ونشعر بالألم».

أخبر ولي العهد شخصين مقربين منه أن «حادثة خاشقجي كانت أسوأ شيء حدث لي على الإطلاق، لأنها كان من الممكن أن تدمر كل خططي» لإصلاح البلاد. وفي مقابلة المجلة في الرياض، قال ولي العهد إن حقوقه قد انتُهِكت في قضية خاشقجي، وأضاف: «أشعر أن قانون حقوق الإنسان لم يطبَّق عليّ، إذ تنص المادة الحادية عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن أي شخص بريء حتى تثبت إدانته». وقال إن بلاده عاقبت المسؤولين عن جريمة القتل، لكن الفظائع المماثلة، مثل تفجير حفلات الزفاف في أفغانستان وتعذيب السجناء في خليج جوانتنامو، مرت دون عقاب».

ولي العهد لم يقرأ مقالًا واحدًا لخاشقجي

دافع ولي العهد عن نفسه جزئيًّا من خلال التأكيد على أن خاشقجي لم يكن مهمًا بما يكفي كي يسعى هو وراء قتله، بحسب نص المقابلة، وقال: «لم أقرأ قط مقالًا لخاشقجي في حياتي». وأضاف، بعد تعبير الصحافيين عن دهشتهما، أنه إذا أرسل فريق اغتيال، فسيختار هدفًا أقيَم، يمثل قتلة أثرًا أكبر، قائلًا: «إذا كانت هذه هي الطريقة التي نُنجِز بها أمورنا، لما كان خاشقجي واحدًا حتى من بين أهم ألف شخص على قائمة المستهدفين. وإذا أردتَ تنفيذ عملية أخرى من هذا القبيل، في حق شخص آخر، يجب أن تكون عملية احترافية ويجب أن يكون هو واحدًا من أهم ألف شخصية». وعلى ما يبدو، كان لدى ولي العهد قائمة استهداف افتراضية جاهزة للانطلاق، ومع ذلك، أكد أن مقتل خاشقجي كان «خطأً فادحًا»، بحسب الصحافي.

وقال: «من المأمول»، ألا يسمع أحد عن مزيد من فرق الاغتيال. وأضاف: «أحاول أن أبذل قصارى جهدي»، مضيفًا أنه إذا كان أفضل جهوده هذه ليست جيدة بما يكفي من وجهة نظر جو بايدن، فإن مهمة الرئيس الأمريكي تكمن في اكتشاف نتائج إدارة سياسة خارجية أخلاقية، وقال: «لدينا علاقة تاريخية طويلة مع أمريكا. ويتمثل هدفنا في الحفاظ عليها وتقويتها».

وكان بايدن ونائبته كامالا هاريس قد دعيا إلى إجراء «مساءلة» عن مقتل خاشقجي، وكذلك عن الكارثة الإنسانية في اليمن، بسبب الحرب بين السعودية والمتمردين الحوثيين المدعومين من إيران. كما يرفض الأمريكيون معاملته على أنه نظير بايدن – ويصرون على أن نظير بايدن هو الملك – على الرغم من أن ولي العهد يحكم البلاد بمباركة والده، بحسب الكاتب، الذي اعتبر الأمر مؤلمًا، مشيرًا إلى أن محمد بن سلمان لديه خطوط اتصال مفتوحة مع الصينيين، إذ يقول ولي العهد: «أين هي الإمكانات في العالم اليوم؟ إنها في المملكة العربية السعودية. وإذا كنتَ تريد غض الطرف عنها، فإنني أعتقد أن الآخرين في الشرق سيكونون سعداء للغاية».

وسأل الصحافي ابن سلمان عما إذا كان بايدن يسيء فهم شيء ما عنه، فأجاب: «ببساطة، أنا لا أهتم». وأشار إلى أن إثارة نفور النظام الملكي السعودي من شأنه أن يضر بموقف بايدن: «الأمر متروك له للتفكير في مصالح أمريكا». وهزَّ كتفيه. «فليبحث عنها».

ومن الأمور المثيرة للضحك لدى ولي العهد أيضًا، بحسب الكاتب، فكرة أن مواطنيه يخشون الحديث ضده، وقال إننا بحاجة إلى معارضة، «إذا كانت كتابة موضوعية، دون أي أجندة أيديولوجية». وعلَّق الكاتب أنه من الناحية العملية، يبدو أن المعارضة غير موجودة. وفي سبتمبر (أيلول) 2017، أمر محمد بن سلمان بمقاطعة قطر، مشيرًا إلى دعم الدولة للحكومة الإيرانية والإخوان المسلمين والقاعدة والمنظمات الإسلامية الأخرى في المنطقة. وتحوَّلت جارته الصغيرة فجأة من صديق رسمي إلى شرير رسمي، واختفى مَنْ يعبِّرون عنها بكلمةٍ طيبةٍ في غياهب السجن.

وهذه المشاعر، على ما يبدو، لم تُعَد موضوعية أو غير إيديولوجية، إذ قال محمد بن سلمان إن قطر يمكن مقارنتها بألمانيا النازية. وتساءل: «ما الذي تعتقد أنه (كان سيحدث) إذا كان شخص ما يمتدح هتلر ويحاول الدفاع عن مساعيه في الحرب العالمية الثانية؟ كيف ستقبل أمريكا ذلك؟». بالطبع سيكون رد فعل السعوديين قويًّا ضد المتعاطفين مع النازيين في وسطهم. لكن بعد ثلاث سنوات، يشير الكاتب، تصالحت الدولتان، ونشرت الحكومة السعودية صورة لمحمد بن سلمان وأمير قطر تميم آل ثاني – وهو يرتدي سروالًا قصيرًا ويبتسم في قصر محمد بن سلمان الواقع على البحر الأحمر. وقال ابن سلمان: «الشيخ تميم شخص رائع». ولم يكن الخلاف بينهما أمرًا خطيرًا، إنه «خلاف بين الإخوة». والعلاقة الآن «أفضل من أي وقت مضى في التاريخ». ومع ذلك، يقول الكاتب إن المعارضين ما زالوا في السجن، وليس سجن فندق الريتز كارلتون.

عملية فندق الريتز

يشير الكاتب إلى أنه فيما يتعلق بسجناء فندق «ريتز كارلتون»، أكدَّ ولي العهد السعودي أنهم كانوا يستحقون ذلك. وكان ابن سلمان، بين عشية وضحاها، قد أمر قوات الأمن السعودية باعتقال مئات من الشخصيات السعودية البارزة، وتسلميهم إلى أفخم فندق في الرياض، ورفض ولي العهد إطلاق سراحهم حتى يعترفوا بقيمة ثرواتهم ويدفعوا مقابل الإفراج عنهم. وقال الكاتب لولي العهد أنه رأى هذا الأمر وكأنه يتخلص من خصومه ومنافسيه على العرش. يقول الكاتب: «بدا محمد بن سلمان مرتابًا، قائلًا: (كيف يمكنك أن تبدأ في التخلص من هؤلاء الذين ليس لديهم أي سلطة؟ إذا كانت لديهم أي سلطة أو قوة، فلن تتمكن من إجبارهم على دخول فندق الريتز)».

ويُوضح محمد بن سلمان أن عملية فندق الريتز كانت حربًا خاطفة ضد الفساد، وحققت نجاحًا كبيرًا وشعبية لدى السعوديين لأنها بدأت من القمة ولم تتوقف عند هذا الحد. مضيفًا «كما تعلم، يعتقد بعض الناس أن السلطات السعودية تحاول فحسب ملاحقة الحيتان الكبيرة أصحاب الأموال الطائلة». وافترض البعض أنه بعدما تمكنت الحكومة السعودية من التسوية مع شخصيات سعودية بارزة، مثل الوليد بن طلال، أكثر رجال المملكة ثراءً، سيُستأنف الفساد في المستويات الأدنى.

وأشار ابن سلمان بكل اعتزاز إلى أن السلطات السعودية لم تغفل حتى عن الفاسدين الصغار، وبحلول عام 2019، «أدرك الجميع أنه لو سرَقت مائة دولار، فإنك ستدفع مقابل ذلك». وبعد بضعة أشهر فحسب من هذه الحملة، أعلن ابن سلمان أنه استعاد مائة مليار دولار بطريقة مباشرة، ويعتقد أنه سيسترد مبالغ أكبر بكثير بطرق غير مباشرة، من أرباح حملة درء الفساد.

وأردف الكاتب أن ابن سلمان أقرَّ بأن عملية فندق الريتز ربما تكون قد بدت أمام الأجانب على أنها بلطجة وخارجة عن القانون، لكنه ينظر إليها على أنها حل راقٍ وغير عنيف، على أي حال، لمشكلة ناهبي الأموال الذين يلتهمون ميزانية المملكة السنوية، يقول الكاتب: «أخبرني أحد مستشاري ابن سلمان أن إعدام حفنة قليلة من المسؤولين الفاسدين البارزين كان أحد البدائل التي اقترحها مساعدوه».

وخلال أشهر تحوُّل فندق الريتز إلى معتقل، وحينها كانت الجهة التنظيمية المالية للمملكة تضطلع أساسًا بدور الملك المؤقت، لمنح الحكومة السلطة الكاملة لاستنزاف دماء ناهبي أموال السعودية حتى ينتهوا، بحسب الكاتب. إلا أن ابن سلمان أعلن أن ضيوف فندق الريتز لم يوضعوا رهن الاعتقال، وهذا يعني ضمنيًا أنهم عُرضوا على المحاكم ووجهت إليهم اتهامات. وبدلًا من ذلك، يقول ابن سلمان إنهم تلقوا دعوة «للتفاوض»، ولحسن حظه، استجاب 95% منهم لذلك، موضحًا «لقد كانت عملية الريتز رسالة قوية».

من يتولى العرش السعودي بعد الملك سلمان؟

يلفت الكاتب إلى أن العرش السعودي لا ينتقل إلى الوريث الذكر التالي كما كان الحال في العرش البريطاني سابقًا. لكن الملك السعودي يختار خليفته، ومنذ أن اختار الملك عبد العزيز، مؤسس الدولة السعودية الحديثة، ابنه سعود وليًا لعهده عام 1933، كان أي ملك يتولى العرش السعودي يختار ابنًا آخر من أبناء الملك عبد العزيز، (الملك المؤسس كان لديه 36 ولدًا، من عدة زوجات).

يقول الكاتب: «كان جميع أولاد عبد العزيز كبارًا بما يكفي ليتذكروا أيام الجِمَال والخِيَام قبل الثراء الفاحش وكان أسلوب حكمهم للبلاد يتسم بأنه حكم محافظ، كما لو كانوا يحاولون الإبقاء على مكتسباتهم المتحققة. وحتى أذكى ملوكهم وأكثرهم طموحًا لم يُنجز سوى القليل. وبدأ الملك عبد الله، الذي تولى السلطة في عام 2005، حكمه بصفته مصلحًا، لكن كثيرًا من الزخم الذي حققه في النصف الأول من ولايته ذهب أدراج الرياح عندما وهنت قوته في النصف الثاني من حكمه، وهو ما أدَّى إلى نهب الخزانة الملكية. ويقال إن أحد اللصوص المزعومين سيئي السمعة الذي جِيء به إلى فندق الريتز، وكان شخصية مهمة في الديوان الملكي، سرق عشرات المليارات من الدولارات أثناء تدهور حالة جلالة الملك عبدالله».

أما الملك سلمان الذي يجلس على عرش السعودية حاليًا ويبلغ من العمر 86 عامًا وهو أحد أصغر أبناء الملك عبد العزيز، فقد لاحظ مخاطر حكم الشيوخ المنفلت وعيَّن خلفًا له ينتمي إلى الجيل الجديد الصاعد. لكن اختياره لابنه لم يكن سببه واضحًا، إذ أن الملك سلمان لديه أبناء آخرين أكبر من محمد، مثل فيصل (ويبلغ من العمر 51 عامًا) والحاصل على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة أكسفورد، وهناك سلطان (الذي يبلغ من العمر 65 عامًا) وهو طيار سابق في سلاح الجو الملكي السعودي، وأمضى في عام 1985 أسبوعًا كاملًا على متن مكوك الفضاء ديسكفري بصفته رائد فضاء.

وربما كان من الطبيعي أن يختار الملك سلمان أيًّا من هؤلاء الرجال المؤهلين والمتعلمين خليفة له، لكن سلمان كان يعتقد أن المَلِك القادم ينبغي أن يكون لديه قدر معين من الجرأة والإتقان مع القوة التي لا يُمكن الحصول عليها خلال ندوة علمية أو من خلال جهاز لمحاكاة الطيران. إن الجيل السعودي الصاعد، المولود في أجواء حافلة بالترف ورغد العيش، يميل إلى أن يكون رقيقًا وناعمًا، وسيحتاج الملك القادم إلى أن يكون نسخة عصرية من أمراء حرب الصحراء على غرار جده الملك عبدالعزيز، بحسب الكاتب.

بدائل متعددة

يُنوه الكاتب إلى أن الملك سلمان اختار، من خارج أفراد أسرته المباشرين الأقربين، ابن أخيه محمد بن نايف وعيَّنه وليًا للعهد في عام 2015، عندما كان ابن نايف يبلغ من العمر 55 عامًا. وجديرُ بالإشارة أن ابن نايف عندما كان مديرًا لجهاز الاستخبارات وقوات الأمن السعودية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قاد حربًا محلية داخل البلاد ضد تنظيم القاعدة، وبعد هذه العملية، أصبح ابن نايف من الشخصيات المقربة من نظرائه في العاصمة الأمريكية واشنطن والعاصمة البريطانية لندن. وفي عام 2009، أُصيب محمد بن نايف بجروح خطيرة جراء استهدافه بعملية تفجير انتحاري نفَّذها أحد عناصر تنظيم القاعدة بعدما اقترب منه في إحدى المناسبات.

وكانت الحكومات الأجنبية تعتبر ابن نايف اختيارًا آمنًا لتولي عرش السعودية بعد الملك سلمان، فهو كبير في السن كفاية، ولكنه ليس طاعنًا في السن جدًا، كما أنه محارب مشهود له بالكفاءة ويحظى بالاحترام والتقدير في خارج البلاد. لكن من وجهة نظر سلمان، كان ابن نايف بمثابة الحارس للعرش حتى يحين وقت ابنه. ولم يكن محمد بن سلمان قد شغل منصبًا رفيع المستوى قبل تتويج والده ملكًا واحتاج إلى عامين في منصب وزير الدفاع لتلميع صورته وتقوية سيرته المهنية، بحسب الكاتب.

وفي عام 2017، أعفى الملك سلمان الأمير محمد بن نايف من ولاية العهد، وعند إقالة أمير من منصبه، يعني ذلك الإطاحة بكل هؤلاء الذين رهنوا حظوظهم على صعوده للعرش؛ ومن بين هؤلاء حكومات أجنبية مُعارِضة لصعود ابن سلمان وخطَّطت لأن يكون محمد بن نايف ملكًا للسعودية، بالإضافة إلى بعض السعوديين الذي نمت ثرواتهم وتزايد نفوذهم بسبب وجوده على قمة السلطة، بحسب الكاتب.

يشير الكاتب إلى هروب سعد الجبري، كبير مستشاري محمد بن نايف، إلى كندا، ويقول الجبري إن محمد بن سلمان أرسل فريق اغتيال إلى كندا لقتله، بينما تقول حكومة ابن سلمان إن الجبري نهب ثروة طائلة ويتولى تمويل الجهود الرامية إلى تشويه سمعة ولي العهد، لكن الطرفان ينفيان هذه المزاعم. ينقل الكاتب عن خالد الجبري قوله: «ربما يكون محمد بن نايف قد نجا من عمليات تنظيم القاعدة. لكنه لم يستطع النجاة من ابن عمه».

ويتابع الكاتب أن هناك آخرين اقترحوا أن يكون الأمير أحمد المحبوب، شقيق الملك سلمان الأصغر، ونائب وزير الداخلية السابق، بديلًا جديرًا لتولي العرش بدلًا من محمد بن سلمان، وأفادت بعض التقارير أن الأمير أحمد عارض تعيين ابن سلمان وليًا للعهد، وفي عام 2020، ألقي القبض على الأمير أحمد بتهمة الخيانة.

الرؤية الإصلاحية لابن سلمان

وبعد أن وطَّد ابن سلمان أركان سلطته، ركَّز على تحقيق رؤية 2030، بيد أنه أعرب عن غضبه الشديد من عدم اعتراف باقي دول العالم بحجم النجاحات التي حققها، مشيرًا إلى أن: «السعودية تعد واحدة من دول مجموعة العشرين. ويمكنك أن ترى وضعنا قبل خمس سنوات: كانت السعودية تبدو وكأنها تحتل المرتبة العشرين في المجموعة، لكنها اليوم تقترب من المرتبة السابعة عشر».

وألمح إلى النمو القوي للناتج المحلي الإجمالي من الإيرادات غير النفطية، وقدَّم إحصائيات تتعلق بحجم الاستثمار الأجنبي المباشر والاستثمار السعودي في الخارج وحصة التجارة العالمية التي تمر عبر المياه السعودية، مؤكدًا على أن النجاح الاقتصادي وحفلات الموسيقى والإصلاح الاجتماعي أصبحت من الأمور الأساسية في المملكة، ويضيف ابن سلمان: «إذا كنا نُجري هذه المقابلة في عام 2016، ستقول إن ما أقوله مجرد افتراضات. لكننا أنجزنا ذلك بالفعل ويمكنك ملاحظته بقوة الآن».

ويقول الكاتب إن ابن سلمان لم يكن يكذب حينما قال ذلك، مضيفًا: «تمكنتُ بصورة شخصية خلال الفترة ما بين زيارتي الأولى للسعودية في عام 2019، وإجراء هذه المقابلة بعد ذلك بعامين، من الذهاب إلى السينما في العاصمة السعودية الرياض وجلست بجوار سيدة سعودية لم ألتق مثلها من قبل، إذ كانت ترتدي الجينز وحذاء رياضيًّا، بينما كنا نشاهد فيلم (زومبي لاند: دوبل تاب/ Zombieland: Double Tap). في حين أنني عندما زرتُ المملكة لأول مرة، كنت أتناول الطعام في مطاعم ذات جدران حجرية تفصل بين الرجال العزاب في جهة بعيدًا عن النساء والعائلات في جهة أخرى، لكن هذه الجدران هدمت بمطرقة ثقيلة، والتي بدت وكأنها حائط برلين 1989 موجود في كل مطعم، وأصبح الآن بمقدور الرجال والنساء تناول الطعام معًا دون اختلاس كثير من النظرات الجانبية على رفقائهم في تناول الطعام».

وألمح الكاتب إلى أن عديدًا من المنتقدين الأشرس لولي العهد يوافقون على هذه التغييرات، وقالوا إنهم كانوا يأملون فقط في أن تنفذ في وقت سابق، مضيفًا: «كان خاشقجي منتقدًا شرسًا لابن سلمان وعندما التقيته في لندن لتناول وجبة غداء، قبل وقت قصير من اغتياله، طلبت منه أن يعد إخفاقات ابن سلمان، فقال إن «90%» من الإصلاحات التي نفذها كانت رشيدة وتأخرت كثيرًا».

كيف يتعامل ابن سلمان مع معارضيه؟

وينتقل الكاتب للحديث عن توجهات معارضي ابن سلمان ومنهم لجين الهذلول، السيدة السعودية الأشهر والناشطة الحقوقية التي دافعت عن حق المرأة في قيادة السيارة، وعارضت «نظام الولاية على المرأة»، الذي يحظر سفر النساء أو خروجهن في الأماكن العامة من دون محرم من الرجال الأقارب.

وحتى بعد إعلان ابن سلمان ووالده عن نهاية وشيكة لكلا النظامين، اعتقلت قوات الأمن السعودية لُجين بتهم الإرهاب في عام 2018، وأفادت عائلتها إنها تعرضت في السجن للصعق بالكهرباء والاعتداء، والذي كان قبل أشهر قليلة من مقتل خاشقجي، وهُددت بتقطيع جثتها بعد قتلها وإلقائها في مواسير الصرف الصحي، ولن يُعثر عليها أبدًا، فيما نفت الحكومة السعودية سابقًا مزاعم تعذيب السجناء.

وكانت لجين وغيرها من الناشطات يطالبن بحقوقهن التي وافق عليها الحاكم، لكن جرمهم الوحيد يتمثل في اعتقادهم أن هذه الحقوق واجب من حقهم الحصول عليه وليست مِنحًا يأمر بها العاهل السعودي، الذي يستحق الثناء لأنه منحهم إياها. وأُطلق سراح لُجين في فبراير (شباط) 2021، لكن عائلتها تقول إنها ممنوعة من السفر للخارج أو التحدث علانية.

أما المعارض الآخر لسياسات ابن سلمان فكان الشيخ سلمان العودة وهو داعية إسلامي وله أتباع كُثر. وكانت جريمته الأساسية أيضًا هي الجهر علانية بأحد الأفكار التي اتفق معه فيها ولي العهد نفسه في وقت لاحق. وعندما بدأ ابن سلمان المشاحنات مع أمير دولة قطر، غرَّد العودة قائلًا: «اللهم ألف بين قلوبهم لما فيه خير شعوبهم».

وزّج بالشيخ سلمان في السجن ولم يشفع له الانسجام الفعلي الحاصل الآن بين ابن سلمان والشيخ تميم لإطلاق سراحه. فيما يقول عبد الله، ابن الشيخ سلمان العودة والمقيم حاليًا في الولايات المتحدة، إن والده، الذي يبلغ من العمر 65 عامًا، محتجز في الحبس الانفرادي ويتعرض للتعذيب.

وكانت السلطات السعودية قد أعلنت أن العودة إرهابي وعضو في جماعة الإخوان المسلمين التي تدعمها قطر وتعتزم قلب نظام الحكم الملكي السعودي واستبداله بنظام ديني. وبحسب الكاتب: «تُعد جماعة الإخوان المسلمون بعبعًا في المخيلة السعودية على غرار الشيوعيين في أمريكا أثناء فترة الذعر الأحمر. وكان الإخوان المسلمين، مثل الشيوعيين أيضًا، يعملون سرًا على تقويض حكم الدولة ولكن ليس بالقدر الذي كان متصورًا». ويقول المدافعون عن العودة إنه يُعاقب لجرأته على التحدث بصوت الضمير الحر عن النظام الملكي. وقد يواجه العودة عقوبة الإعدام.

إما ابن سلمان أو الإسلاميون الجهاديون

يتساءل الكاتب هل سيفكر ابن سلمان في العفو عن هؤلاء الذين نادوا بحقوق المرأة في قيادة السيارة وتحسين العلاقات مع قطر، لا سيما بعدما أصبحت هذه الدعوات حاليًا ضمن سياسات الدولة؟ يقول ابن سلمان «هذا الأمر ليس من سلطتي وصلاحياتي»، مضيفًا أنه «لا يوجد ملك استخدم أبدًا سلطة العفو، ولا ينوي والده أن يكون أول من يفعل ذلك». وأوضح أن القضية ليست انعدام رحمة، ولكنها مشكلة توازن، يقول ابن سلمان: «خذ عندك مثلًا، اليسار المتطرف واليمين المتطرف. إذا منحت العفو في ميدان ما، فعليك أن تمنحه لبعض الأشخاص السيئين جدًا. وهذا الأمر سيؤدي إلى عودة كل شيء إلى الوراء في المملكة».

من جهة، هناك الليبراليون، الذين يحظون بتعاطف الغربيين، ومن جهة أخرى، هناك الإسلاميون الذين يعارضون النظام الملكي أيضًا. وبحسب الكاتب: إذا تُركت هذه الفئة الأخيرة تفعل ما تشاء في الخارج بحرية لا يعني ذلك نهاية حفلات موسيقى الروك والاختلاط أثناء تناول الطعام فحسب، لكنهم لن يتوقفوا حتى يُسقطوا آل سعود، ويصادروا ما يُقدَّر بنحو 268 مليار برميل من النفط في البلاد ويستولوا على مكة المكرمة والمدينة المنورة، ويؤسسوا دولة إرهابية». وخلال حوارات خاصة مع وسائل إعلام أخرى، شبّه ابن سلمان السعودية قبل سيطرة آل سعود في القرن الثامن عشر بالأرض القاحلة الفوضوية في سلسلة أفلام ماد ماكس. وقد وَّحدت عائلته شبه الجزيرة وأنشأت على مهل نظامًا للقانون. ومن دونهم، ستكون السعودية مثل ماد ماكس من جديد أو أفغانستان.

ومع ذلك، عبر الكاتب عن دهشته من تبرير ولي العهد أنه إذا منح العفو إلى الأشخاص الصالحين الذين يستحقونه، فسيتعين أن يشمل عفوه الأشرار الذين لا يستحقونه لأنه شاذ وغريب. وبعد ذلك يقول الكاتب: «أدركت أن ابن سلمان لم يقل أن فشل خطته لإعادة تشكيل المملكة قد يُؤدي إلى كارثة، بل كان يقول إنه سيضمن تحقيق ذلك، وقد قدم عديدٌ من القادة العرب العلمانيين قبله نفس المعنى الكئيب: ادعموا كل ما أفعله، أو سأطلق سراح كلاب الجهاد وأجعلها تفلت من أيدينا، وهذه لم تكن حجة بل كان تهديدًا».

نظام جديد

يقول الكاتب: أخبرني علي الشهابي، الممول السعودي والمعلِّق المؤيد لمحمد بن سلمان، أنه يمكن مقارنة التغييرات الجارية في السعودية بتلك التي كانت موجودة في فرنسا إبَّان الثورة الفرنسية. فقد أُسِقط نظام قديم، وسُحِقت طبقة كهنوتية، وأصبح هناك نظام جديد يكافح من أجل أن يرى النور.

وفي إشارة إلى تلك الطبقة الكهنوتية، يشير الكاتب إلى أنه يومًا ما تمتَّعت الماركة المسجلة للإسلام المحافظ الذي يُمارَس في المملكة -أي الوهَّابية، نسبة لمحمد بن عبد الوهاب، مؤسس الحركة في القرن الثامن عشر – بقوة كبيرة وتتمتع على الأقل ببعض الدعم الشعبي. يضيف الكاتب: «سألتُ الشهابي هل قلَّل محمد بن سلمان بالفعل من دور الوهابيين. فرد الشهابي مستنكرًا: (قلَّصَ دورهم فحسب؟ لقد وضع محمد بن سلمان الوهابيين في قفص، ثم دخل عليهم وفي يده مقص البستنة) – هنا أشار الشهابي بأصابعه إلى حركة التشذيب والقص- (وقطع دابرهم)».

وفي فرنسا، أحدثت الثورة المآسي نفسها لعائلة بوربون كما فعلت مع رجال الدين في السعودية، وهنا يشير وود إلى مقولة الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو الشهيرة: «لن يتحرر البشر إلا عندما يُخنَق آخر ملك بأحشاء آخر رجل دين». وأراد آل سعود ثورة مناهضة لسيطرة علماء الدين بينما أغفلوا الثورة المضادة للملكية عن عمد، وذكر الكاتب أنه أراد رؤية شكل هذا التحالف بين الملكية والناس العاديين المنحدرين من الطبقات الدنيا.

تُعد رؤية السعودية 2030 سببًا في ملاحظة التحديث والعصرنة بسهولة الآن على نحو أكبر مما كان عليه الحال قبل بضع سنوات فحسب. وحتى أكتوبر (تشرين الأول) 2019، لم تكن التأشيرات السياحية للسعودية موجودة، ثم أدرك السعوديون أنه لجذب الجماهير إلى الحفلات الموسيقية التي قاموا بإضفاء الشرعية عليها، يجب عليهم السماح بدخول الزوار. وبين عشية وضحاها، أصبحت تأشيرة الدخول إلى السعودية واحدة من أسهل التأشيرات في العالم بعد أن كانت واحدة من أصعبها.

وفي دقائق، يقول الكاتب، حصلتُ على تأشيرة دخول سارية لمدة عام كامل. وكانت رحلتي إلى الرياض مليئة بالأجانب الذين كانوا في طريقهم لحضور فعاليات معرض «ستان لي سوبر كون» الذي كان يقام ضمن فعاليات موسم الرياض. وكان يقف أمامي في الطابور للحصول على جواز السفر لويس فيريغنو (ممثل أمريكي ولاعب كمال أجسام)، بطل فيلم هولك الخارق.

عصر جديد

وطُبِّق النظام الجديد بسرعة كبيرة لدرجة أن الزوار الأوائل للمملكة كانوا مثل الغزاة، إذ كانوا لا يشبهون تمامًا النظام الاجتماعي الصارم للمملكة. وطوال سنوات، كان كل الأجانب تقريبًا في البلاد بحاجة إلى وثيقة تسمى الإقامة، وهي ترخيص للعيش في المملكة، إذ يحدد إقامتك كفيلك، وهو المواطن السعودي الذي تزوره أو تعمل لديه، والذي يتحكم في مصيرك، وكان لكل كفيل سعودي كفيل آخر خاص به أيضًا – أحيانًا يكون زعيم قبلي، وأحيانًا زعيم إقليمي، وحتى هؤلاء الزعماء والشخصيات ذات الشأن يخضعون لشخصٍ ما وصولًا إلى الخضوع للملك نفسه.Embed from Getty

وأوضح محمد بن سلمان أن السعودية «ليست مملكة واحدة. يوجد تحتها أكثر من ألف مملكة – ممالك مدينة، ممالك قبلية، ممالك شبه قبلية». وبذلك فقد ضمنت «الإقامة» أن كل مخلوق عاقل يخضع لمخطط المجتمع السعودي هذا. وأشار الكاتب إلى أن محمد بن سلمان تجاهل اقتراحه بأن هذا النظام عفا عليه الزمن ويمكن أن يحل محله نظام ملكي دستوري – نظام يتمتع فيه المواطنون بحقوق مستقلة لا يمنحها لهم الملك أو ولي عهده، قائلًا: «لا». وأضاف: «تقوم المملكة على نظام ملكي بحت»، وبصفته وليًّا للعهد، فإنه سيحافظ على النظام. إن إبعاد نفسه عنه سيكون بمثابة خيانة لجميع الملكيات والسعوديين الذين كانوا تحت حكمه. وقال: «لا يمكنني القيام بانقلاب ضد 14 مليون مواطن».

لكنه أجبر هذا النظام بالفعل على التكيُّف، يوضح الكاتب: «يوميًّا تقريبًا كان يسألني أحدهم عن إقامتي، وكان عليَّ التوضيح أنه ليس لدي أي إقامة. لقد تصرفوا وكأنني أخبرتهم أنه ليس لدي اسم! وحتى التحركات البسيطة مثل استئجار سيارة، شراء تذكرة قطار، تسجيل الدخول إلى فندق – كلها تركت بعض الموظفين المساكين في حيرة من أمرهم. لكن في السعودية الجديدة كنت حرًّا في التجول والتفاعل».

سؤال وحيد رفض ابن سلمان الإجابة عنه

ولفت الكاتب إلى أن الرياض وجدت دون عناء شبابًا مبتهجًا بالإصلاحات. وعلى غرار المدن السعودية الكبيرة الأخرى، الدمام وجدة، تكثر في الرياض المقاهي – مراكز صغيرة مكيفة الهواء لتناول الكافيين، في بيئة تتسم بالضجر والملل إن لم تكن لهذا الغرض.

وأوضح الكاتب: «أعرب سعوديون كثُر ممن قابلتهم عن حبهم العميق لأمريكا، وقال لي أحدهم: (لقد أمضيتُ سبع سنوات في ولاية كال ستيت نورثريدج) قبل أن يسرد بسرعة قائمة المدن التي زارها. وكان هذا الرجل واحدًا من مئات الآلاف من الطلاب السعوديين الذين التحقوا بالجامعات الأمريكية عن طريق مِنَح حكومية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وأضاف الرجل: (درستُ الموارد المالية، لكني لم أتخرج قط. أمضيتُ وقتًا رائعًا فحسب. (وسرد لي مجموعة من أصدقائه الأمريكيين، وذكَرَ من أسمائهم مايك وإيميليو. وأردف: (شربتُ الكحول وتناولت كثيرًا من أقراص الميثامفيتامين، ولم تكن درجاتي جيدة)».

فسألته: «هل يمكن تناول مثل هذه الكمية من الميثامفيتامين هنا في هذا البلد؟»، فأجابني قائلًا: «عندما عدتُ من أمريكا، توقفت عن تناوله». ونظر من نافذة المقهى إلى منظر المدينة الذي يتَّسم بالجفاف، وقال: «هذا البلد أفضل مركز لإعادة التأهيل على ظهر هذا الكوكب».

والآن يدرس مرةً أخرى في جامعة سعودية ويخطط لفتح شركته الخاصة. وكان قد حضر بالفعل حفلاتٍ موسيقية، «وقال لي إن أكثر أمنياته الاستماع إلى الموسيقى في الهواء الطلق وتدخين سيجارة – واحدة فقط، كما وعد بذلك. وسألني إذا كنتُ أعتقد أن ذلك سيحدث. فقلت إنني لا أعتقد أن ذلك كان جزءًا صريحًا من رؤية 2030، لكنه على الأرجح سيحصل على رغبته. ولاحقًا، وكان سؤاله يدور في ذهني، سألتُ ولي العهد عن إمكانية بيع الكحول قريبًا في المملكة. فكان هذا هو السؤال السياسي الوحيد الذي رفض الإجابة عنه».

تبًّا لهؤلاء الرجال!

وفي مقهى آخر في مدينة حائل الشمالية أشار رجل إلى جدارية مرسومة حديثًا للمغنية اللبنانية فيروز وشَعرها يتهدَّل بكل جمال على كتفيها، وبجانب الصورة كانت كلمات أغنيتها مكتوبة (بالعربية): «أعطني الناي وغنِّي، فالغنا سر الخلود».

وقال: «لم يكن ذلك ممكنًا منذ عام واحد مضى». وكلمة «ذلك» هنا تعني كل شيء تقريبًا: الشَّعر الذي يتهدل على كتفي المرأة؛ الاحتفال بالأغنية، الحديث عن الغناء؛ وفوق كل هذا، الموسيقى التي كانت تُعزَف في المقهى ويصل صداها إلى آذاننا أثناء الحديث.

يقول الكاتب إنه قبل صعود محمد بن سلمان، كان كل عنصر في هذا المشهد ينتهك شرائع طويلة الأمد كانت مطبَّقة في السعودية. وكانت الشرطة الدينية، المعروفة بالعربية باسم «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو المطوِّعين»، ستهاجم كل هذا وتفُضّه. وكان رجال هذه الهيئة، بحسب الكاتب، يرتدون ثيابًا بيضاء قصيرة حتى الكاحل، ولحاهم طويلة، وكانوا يصرخون على السيدات بسبب ارتدائهن ملابس غير محتشمة، أو كانوا يوجهون الرجال بالعصي لدفعهم إلى المسجد لأداء الصلاة. وفيما مضى كان من الممكن أن يتعرض صاحب المقهى للاعتقال والاستجواب وتوقيع العقاب. وقال الرجل، في تعبير موجز عن المشاعر الأكثر شيوعًا التي سمعتها عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «تبًّا لهؤلاء الرجال».Embed from Getty Imageshttps://embed.smartframe.net/s/baeeb00ba17010131e44c0e4ef9b7f2e/915948362.html?source=aHR0cHM6Ly93d3cuc2FzYXBvc3QuY29tL3RyYW5zbGF0aW9uL3RoZS1hdGxhbnRpYy1tb2hhbW1lZC1iaW4tc2FsbWFuLw..#4

والمواجهات مع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدَّمت كثيرًا من القصص المروِّعة للزوار الأجانب، ويحكي الكاتب أنه عندما ذهبت مورين داود، الصحافية في «نيويورك تايمز» إلى الرياض في عام 2002، رصدتها الهيئة في مركز تسوق واعترض رجال الهيئة على أن ملابسها ضيقة حتى أنهم يستطيعون رؤية تفاصيل جسدها. وتحدث معهم مضيِّفها، وزير الخارجية المستقبلي عادل الجبير، لكنهم لم يتأثروا بمكانته بصفته دبلوماسيًّا بارزًا، فهربت إلى غرفتها في الفندق. وكتبت مورين: «لقد شعرتُ بالقلق. كأنني كنت في أحد تلك الأفلام حيث يرتكب أمريكي خطأً واحدًا في بلد قمعي وينتهي به الأمر إلى التعفُّن في زنزانة».

طلاب فاشلون

يقول الكاتب إنه قال لأحد مستشاري محمد بن سلمان إن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت تُمثِّل مشكلة علاقات عامة دولية، فقال المستشار متسائلًا: «هل لي أن أكون غير مهذب؟»، مضيفًا: «أنا لا أبالي بالأجانب. لكن هؤلاء أرهبونا». وشبَّه الشرطة الدينية بـ جون إدغار هوفر، أول رئيس لمكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي كان يعمل بسلطة غير خاضعة للرقابة. يقول الكاتب إنه يمكن لأي شخص يرغب في وضع منافس مهني أو سياسي في مأزق أن يتتبعه بحثًا عن خطاياه، ومن ثم يتصل بالشرطة الدينية لتسديد الضربة إليه، أو يمكن للهيئة أن تستعرض سلطتها من تلقاء نفسها، إما لأسباب سياسية – الإطاحة بأمير لا يحبونه مثلًا – أو للترفيه.عربيمنذ 3 سنواتمن «بشت» الأمر بالمعروف إلى «بذلة» الترفيه.. كيف تحولت الوهابية السعودية؟

وقال لي علي الشهابي: «يتألف أعضاء الشرطة الدينية من الطلبة الفاشلين في الدراسة، ومن ثم يحصلون على هذه الوظائف التي تعطيهم سلطة اعتراض طريق الفتيات، واقتحام الحفلات التي لا يريدهم أحد فيها، وإنهائها. لقد جذبت هذه الهيئة مجموعة سيئة للغاية من الناس». يشير الكاتب إلى ما قاله له دبلوماسي سعودي إنه لم يأسَف عليهم، وأن السعودية كانت بحاجة إلى شخص لديه قوة ولي العهد للتخلص منهم. وقال: «عندما يضربك شخص ما لأنه لا يحبِّذ ما ترتديه، فهذا ليس مجرد شكل من أشكال المضايقة؛ إنها إساءة». وكان محمد بن سلمان قد أمر بحل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيقافها عن العمل.

لقد أسَّس جد محمد بن سلمان، الملك عبد العزيز، الدولة السعودية الحديثة بدعم من علماء الدين. لكنه أيضًا اتخذ إجراءات صارمة ضدهم، عندما تجاوزوا صلاحياتهم. وروى محمد بن سلمان حكاية شهيرة عن جده، في عام 1921، حينما حضر الملك عبد العزيز جنازة أكبر علماء الدين في المملكة، وأخبر الملك علماء الدين المجتمعين باعتزازه بهم مستخدمًا تعبير «فوق عِقَالي»، لكنه حذرهم بعد ذلك: «يمكنني دائمًا هزَّ عقالي، وسوف تسقطون».

العلاقة الشائكة مع رجال الدين

وطوال الخمسين عامًا الماضية، اتخذ خلفاء عبد العزيز موقفًا أكثر ليونة مع الوهابيين. ونمَت قوة طبقة علماء الدين السعوديين، وأصبح رأيهم مهمًا. وفي عام 1964، حسَموا مصير الملك سعود غير الكفؤ عندما سعى أشقاؤه فيصل ومحمد للحصول على موافقة دينية على إطاحته وحصلوا عليها. وتُعد معارضة المحافظين المتدينين محفوفة بالمخاطر، إذ لم يضع حكام المملكة أي قيود تقريبًا على كلام أو سلوك علماء الدين المحافظين، وفي المقابل أعفى علماءُ الدين الحكامَ من الانتقاد.

فمَنْ قد يرفض التصفيق لمحمد بن سلمان على إعادته التفاوض على هذه العلاقة؟ وينقل الكاتب عن السيناتور كريس مورفي، وهو نائب ديمقراطي عن ولاية كونيتيكت، أحد أبرز منتقدي محمد بن سلمان في واشنطن، قوله إن الحفلات الموسيقية والمعارض والفعاليات في الرياض لم تُترجَم بعد إلى وقف تمويل التعصب الوهابي في الخارج. وقال مورفي: «أسمع في أسفاري المختلفة حول العالم قصة تلو الأخرى عن الأموال الخليجية والسعودية التي تغذي المساجد الوهابية المحافظة للغاية وغير المتسامحة».Embed from Getty Imageshttps://embed.smartframe.net/s/baeeb00ba17010131e44c0e4ef9b7f2e/88278840.html?source=aHR0cHM6Ly93d3cuc2FzYXBvc3QuY29tL3RyYW5zbGF0aW9uL3RoZS1hdGxhbnRpYy1tb2hhbW1lZC1iaW4tc2FsbWFuLw..#0

وبحسب الكاتب، تُعد السِّمة المميزة للوهابية التقليدية هي كراهية المسلمين غير الوهابيين، الذين يَعُدُّهم الوهابيون أسوأ من غير المؤمنين لتحريفهم للدين. ومع القليل من التعديلات، يمكن أن تؤدي التعاليم الوهابية إلى ظهور جهاديين على غرار أسامة بن لادن، بحسب الكاتب. وقال مورفي إنه يعتقد أن الأمر لم ينته بعد، إذ إن «الأموال التي تتدفق من السعودية إلى الإسلام المحافظ ليس هناك شفافية بشأنها كما كان الحال قبل 10 سنوات – دُفِعت أموال طائلة منها في الخفاء – لكنها لا تزال موجودة».

ومع ذلك، وبعد قضاء ساعات في رفقة محمد بن سلمان، وبصحبة حلفائه وأعدائه، يقول الكاتب: «كنت مقتنعًا بأن تحييد علماء الدين لم يكن أمرًا رمزيًّا، لقد كان يقاتلهم بشراسة ومن منطلق شخصي. وأخبرني برنارد هيكل، الباحث في الشريعة الإسلامية في جامعة برنستون وأحد معارف محمد بن سلمان: (لقد ابتعد الملوك تاريخيًّا عن الدين)، وكان إسناد العلوم الدينية وعلوم الشريعة إلى اللحى الكبيرة وسيلة وضرورة، لأنه لم يكن هناك أي حاكم لديه أي خبرة في الشريعة، أو في الواقع لم يكن لديه أي لحية كبيرة».

معرفة بالقانون

وعلى النقيض من ذلك، يحمل محمد بن سلمان شهادة في القانون من جامعة الملك سعود ويتفاخر بمعرفته وهيمنته على رجال الدين. وينقل الكاتب عن هيكل قوله: «ربما يكون الزعيم الوحيد في العالم العربي الذي يعرف شيئًا عن نظرية أصول المعرفة والفقه الإسلامي».

وأوضح محمد بن سلمان قائلًا: «في الشريعة الإسلامية، رئيس المؤسسة الإسلامية هو ولي الأمر، الحاكم». وكان محقًا، بحسب الكاتب، فبوصفه حاكمًا هو المسؤول عن تطبيق تعاليم الإسلام، وعادةً ما سعى الحكام السعوديون للحصول على آراء رجال الدين، وكانوا يعتمدون عليها أحيانًا لتبرير سياسة اختارها الملك مسبقًا، ولكن محمد بن سلمان لا يُشرك وسطاء فيما يتعلق بأمور دينه على الإطلاق.

وأضاف ولي العهد أن الشريعة الإسلامية تستند إلى مصدرين نصيين: القرآن والسنة، وقال إن بعض القوانين، ليست كثيرة، تأتي من النصوص التشريعية الواضحة للقرآن، ولا يمكنه فعل أي شيء حيالها حتى لو أراد ذلك، لكن هذه الأحاديث النبوية، كما أوضح، ليس لها القيمة ذاتها التي لنصوص القرآن باعتبارها مصادر للشريعة، وقال إنه ملزم بعدد محدود للغاية لا يمكن الشك في موثوقيتها، حتى بعد 1400 عام، بينما كل مصدر آخر للشريعة الإسلامية منفتح على التأويل، وبالتالي يحق له تفسيرها على النحو الذي يراه مناسبًا.

ويقول الكاتب إن تأثير هذه المناورة يتمثل في دفن حوالي 95% من الشريعة الإسلامية في رمال التاريخ السعودي وترك محمد بن سلمان حرًا في فعل ما يروق له. وقال هيكل: «القليل جدَّا من الأشياء التي يجري إصلاحها يتم بشكل لا خلاف عليه في الإسلام. وهذا يترك ولي العهد يقرر ما هو في مصلحة المجتمع المسلم. وإذا كان ذلك يعني فتح دور السينما والسماح للسياح أو النساء بالتنزه على شواطئ البحر الأحمر، فليكن».

وتابع الكاتب قائلًا: وبّخني محمد بن سلمان عندما أطلقت على هذا الموقف اسم «الإسلام المعتدل»، على الرغم من أن حكومته تدعم هذا المفهوم على مواقعها على الإنترنت، وقال: «هذا المصطلح يُطرِب الإرهابيين والمتطرفين». وقال إن الغرب يشير إلى «أننا في السعودية ودول إسلامية أخرى نغير الإسلام إلى شيء جديد، وهذا غير صحيح»، مضيفًا «سنعود إلى الجوهر، إلى الإسلام النقي» كما مارسه النبي محمد وخلفاؤه الأربعة. وقال: «كانت تعاليم النبي والخلفاء الأربعة مذهلة. لقد كانوا مثاليين».

تطبيق معتدل للشريعة

أشار الكاتب إلى أن حتى الشريعة الإسلامية التي يلتزم بتطبيقها سوف تُطبَّق باعتدال، لافتًا إلى أن محمد بن سلمان أخبره بقصة، وردت في حديث نبوي، عن امرأة مارست الزنا، واعترفت بجريمتها للنبي، وطلبت تنفيذ الحد عليها. وأمرها النبي مرارًا بالانصراف، مما يعني، كما قال ولي العهد، أن النبي فضل منح المذنبين فرصة للعفو، ويشير الكاتب إلى أن محمد بن سلمان لم يروِ نهاية هذه القصة، إذ تعود المرأة مع دليل دامغ على خطيئتها، ابنها من الزنا، ويوافق النبي ،على تطبيق الحد عليها.Embed from Getty Imageshttps://embed.smartframe.net/s/baeeb00ba17010131e44c0e4ef9b7f2e/1237067475.html?source=aHR0cHM6Ly93d3cuc2FzYXBvc3QuY29tL3RyYW5zbGF0aW9uL3RoZS1hdGxhbnRpYy1tb2hhbW1lZC1iaW4tc2FsbWFuLw..#10

وبدلًا من البحث عن الخطيئة ومعاقبة مرتكبيها بطبيعة الحال، قلَّص محمد بن سلمان وظيفة التحقيق الممنوحة للشرطة الدينية، وشجع المذنبين على إبقاء تجاوزاتهم بينهم وبين الله. وقال: «يجب ألا نحاول البحث عن أشخاص وإثبات التهم الموجهة إليهم، وعليك أن تفعل ذلك بالطريقة التي علمنا بها النبي. لن يُطبق القانون إلا ضد أولئك المخالفين المجاهرين الذين يستحقون العقاب». وأكد أن أيًا من هذه القوانين لا ينطبق على غير المسلمين في المملكة. وقال: «إذا كنت أجنبيًا تعيش أو تأتي إلى السعودية، فلديك كل الحق في أن تفعل ما تريد، بناءً على معتقداتك. وهذا ما حدث في زمن النبي».

ولفت الكاتب إلى أنه من الصعوبة بمكان المبالغة في مدى تأثير هذا التهميش للشريعة الإسلامية في التغيير الذي تشهده السعودي. وربما استسلم بعض رجال الدين لأنهم اقتنعوا بالتفسيرات القانونية لولي العهد، ويبدو أن آخرين استسلموا للترهيب على الطراز القديم. يضيف الكاتب: «سينظر رجال الدين المحافظون، سابقًا، مباشرة إليك وبدون تردد أو ريبة ويتحدثون عن توافقهم مع برنامج الحكومة. ويدافع الآن فرحًا وزير الشؤون الإسلامية والإرشاد، الذي لا يبتسم عادة، عن افتتاح دور السينما والتسريح الجماعي للأئمة الوهابيين. ويشير اسمه، عبد اللطيف آل الشيخ، إلى أنه ينحدر من سلالة طويلة من دعاة الأخلاق الصارمين الذين تعود جذورهم إلى محمد بن عبد الوهاب نفسه، وقد أخبرته أنني شاهدت فيلم (زومبي لاند) في بلده، وإذا كرر بطل الفيلم وودي هاريلسون دوره في (زومبي لاند 3)، سأعود إلى الرياض حتى نتمكن من الذهاب إلى المسرح ومشاهدته سويًا. فاجاب قائلًا: (ولم لا؟)». 

وتطرَّق الكاتب إلى محمد العريفي، ويصفه بأنه خطيب معروف بمظهره الجميل وآرائه المحافظة، والذي بدأ بشكل غامض في الترويج لرؤية 2030 بعد لقاء مع محمد بن سلمان في عام 2016. وكان العريفي قد أفتى في دروسه في السابق بأن مدائن صالح، وهي موقع أثري مذهل ما قبل الإسلام في شمال غرب السعودية، محرمة على السياح المسلمين، وذلك لأن الله عاقب تلك الحضارة التي عاشت هناك ذات يوم، وسوف يبقى المكان إلى الأبد تذكيرًا لغضب الله عليها. وكان يرى الرأي التقليدي أن المسلمين يجب أن يتبعوا تحذير الرسول بالابتعاد عن مدائن صالح، ولكن إذا كان عليهم المرور، فينبغي عليهم تنكيس رؤوسهم والتحلي بالخشية من الله.

يقول الكاتب: «وبعد ذلك، في عام 2019، ظهر العريفي في مقطع فيديو صورته هيئة السياحة السعودية، فيما بدا لي، كنوع من مقاطع فيديو الرهائن، وهو يلقي محاضرة حول تاريخ الموقع ويدعو الجميع للاستمتاع به. وإذا كان يُظهر حينها سلوكًا تظلله الخشية، فلم تكن تلك الخشية من الله!».

https://youtube.com/watch?v=ikJFgqU5irk%3Ffeature%3Doembed

التحديث في المدن الصغيرة

وتابع الكاتب: في المدن الصغيرة، ليس من الواضح مدى سرعة انتشار التحديث، زرتُ مدينة بريدة، عاصمة القصيم، الجزء الأكثر محافظة في البلاد، وخلال يومي وجودي هناك، كانت كل النساء اللاتي رأيتهن يرتدين عباءة سوداء متدلية. وحضرتُ افتتاح مركز تسوق جديد، وذهبتُ مبكرًا لمشاهدة وصول الحشود، وانفصل الجنسان بعضهما عن بعض دون ترتيب: النساء في المقدمة، وكلهن يرتدين عباءات سوداء، بالقرب من المسرح حيث كان الأطفال يتلون القصائد ويغنون، والرجال بأثواب بيضاء، في المؤخرة وعلى الأطراف. وحدثت تلك العملية بعفوية وتلقائية، ولكن بالنسبة لشخص غريب، كان الأمر رائعًا، كما لو أن الملح والفلفل قد رُج في طبق، والحبوب تفصل نفسها ببطء وبشكل مثالي، لا يتخلى الناس عن الممارسات الثقافية التي تعود إلى عقود أو قرون فجأة.

وكانت الطائف، التي تقع خارج مكة على بعد ساعة، المقر الصيفي للملك وأسرته، ويُعتقد أن النبي قد زارها، ويكمل عديد من المسلمين حجهم إلى مكة برحلات جانبية إلى مواقع أخرى والتي جسدت جزءًا من حياة النبي، لقد تعامل الوهابيون تاريخيًّا مع هذه الزيارات على أنها ليست من التعاليم الإسلامية وتستحق الشجب.

وفي صباح أحد الأيام، مشيت لمسافة طويلة إلى مسجد يقال إن النبي صلى فيه، وعند وصولي وجدت مبنى في حالة سيئة، محاطًا بسياج من الأسلاك الصدئة، وتحولت أجزاء منه إلى أنقاض، ورأيت لافتة في هذا الموقع، وضعتها وزارة الشؤون الإسلامية، مكتوبًا عليها باللغات العربية والأردية والإندونيسية والإنجليزية أن الدليل التاريخي لزيارة النبي لهذا المكان لم يثبت. وأشارت، علاوة على ذلك، إلى أن «الشعور باحترام أو توقير هذه الأماكن هو من البدع في الدين»، وهي بدع لا يقرها الله وتؤدي إلى الشرك.Embed from Getty Imageshttps://embed.smartframe.net/s/baeeb00ba17010131e44c0e4ef9b7f2e/1129905205.html?source=aHR0cHM6Ly93d3cuc2FzYXBvc3QuY29tL3RyYW5zbGF0aW9uL3RoZS1hdGxhbnRpYy1tb2hhbW1lZC1iaW4tc2FsbWFuLw..#15

لاحقًا، التقيت محمد العيسى، وزير العدل السابق في عهد الملك عبد الله، بصفته حاليًا أمينًا عامًّا لرابطة العالم الإسلامي، ومبعوثًا لبلاده للتعايش بين الأديان، وحول ذلك يقول الكاتب، في الماضي كان رجال الدين السعوديون يهاجمون غير المؤمنين على اختلاف أنواعهم، بينما يقضي العيسى الآن وقته في لقاء البوذيين والمسيحيين واليهود، ويحاول تجاهل الظهور العرضي للتعليقات التي أدلى بها في أوقات أقل تسامحًا. سألته عن موقع المسجد، وما إذا كان تسامح السعودية الجديد، الذي يؤكده هو بقوة في الخارج مع غير المسلمين، سيطبق محليًّا، وأكد لي أن المملكة فعلت ذلك بالفعل، قائلًا: «إذا كانت هناك أخطاء في الماضي، فهناك تصحيح الآن، ولكل فرد الحق في زيارة الأماكن التاريخية، وهناك قدر كبير من العناية المقدمة لهم».

قلت «لكن اللافتات التي لا تزال موجودة هناك تقول عكس ذلك». فأجاب: «ربما تكون هناك لتذكير الناس بأن يتحلوا بالاحترام. وأنت ترى علامات من هذا القبيل في مواقع في جميع أنحاء العالم، من قبيل: لا تلمس أو تأخذ الحجارة». لكن، وحسب ما يعلق الكاتب، فإن هذه العلامات لا تهدف إلى الحفاظ على الأنقاض. إنها هناك لتذكيرك بأنك مُذنب لزيارتك تلك المواقع.

يقول الكاتب: «بينما كنت أنتظر في الخارج بمفردي، توقفت شاحنة شرطة صغيرة خلفي. وألقى الشرطي التحية علي فأجبته بالعربية، وفقط بعد استجواب قصير (ماذا تفعل هنا؟ لماذا أنت هنا؟) اكتشف أنني أمريكي، وليس فلبينيًّا كما كان يظن، واعتذر بشكل محرج ثم رحل، واستغرق الأمر مني دقيقة لأدرك ما حدث: لقد توقفت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن حلَّت الشرطة العادية محلها، لم تختف نزعة المحافظة في المجتمع، وفي بعض الأماكن، استبدلت فقط زيها».

مشروع نيوم

يلفت الكاتب إلى أن هذه المظاهر المستمرة للتعصب توضح ما يقول منتقدو محمد بن سلمان إنه خطأه الجوهري: حتى ولي العهد لا يمكنه تغيير ثقافة كاملة عن طريق أمر.

وقد يكون الإدراك المتأخر لهذا الخطأ وراء أكبر مشروعاته، فإذا قاومت المدن الحالية أوامرك، فما عليك سوى إنشاء مدينة جديدة جرى برمجتها لتطبيق تعليماته من البداية، في أكتوبر (تشرين الأول) 2017، أصدر محمد بن سلمان قرارًا بإنشاء مدينة في منطقة غير مأهولة تقريبًا على خليج العقبة، ومتاخمة لشبه جزيرة سيناء المصرية، والحافة الجنوبية الغربية للأردن، ومدينة منتجع إيلات الإسرائيلية، وتُسمى مدينة نيوم.

في الوقت الحاضر، لا يوجد سوى القليل من المخيمات لموظفي مشروع نيوم، وهي منطقة صغيرة من أماكن مخصصة للسكن، وتأخذهم الحافلات العادية للتسوق في أقرب مدينة، تبوك، التي هي نفسها مدينة فقط وفقًا لمعايير الصحراء الشاغرة القريبة والتي تنتشر فيها الصخور، وتُعد الطموحات المرتبطة بهذه المدينة هائلة؛ إذ يقول مديرو نيوم إنهم يتوقعون أن تجتذب استثمارات بمليارات الدولارات وملايين السكان، سعوديين وأجانب، في غضون 10 إلى 20 عامًا. ونمت دبي بوتيرة مماثلة في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فيما قال محمد بن سلمان إن نيوم «ليست نسخة من أي شيء في أي مكان آخر»، وليست استنساخًا لدبي، ولكنها تشترك مع التيار العام المعولم بدرجة أكبر من أي شيء في تاريخ بلد كان، حتى وقت قريب، نجح نجاحًا ملحوظًا في عزل ثقافته التقليدية عن نفاق الحداثة.عربيمنذ سنة واحدة«نيويورك تايمز»: «ذا لاين» و«نيوم».. الحقيقة المظلمة وراء أحلام السعودية الطوباوية

يقول الكاتب: لبضع ساعات، أراني فريق نيوم المكان وقدموا وعودًا عظيمة بشأن المستقبل، لقد استنتجت أن نيوم ستجذب مستثمريها من خلال خلق بيئة تنظيمية مثالية، مصممة من أفضل الممارسات في أماكن أخرى، وستستفيد المدينة من التخطيط المركزي، وعندما ترغب نيويورك أو دلهي في النمو، ستختنقان بحركة المرور والبنية التحتية المتداعية، بيد أن نيوم لا توجد بها بنية تحتية موروثة على الإطلاق.

وسيكون محور المشروع مدينة «ذا لاين»، وهي شريط حضري يبلغ طوله 106 أميال ومتصلة بقطار سريع واحد ينتقل من طرف إلى آخر في غضون 20 دقيقة. (لا يوجد قطار يقطع هذه السرعة حاليًا)، ويُفترض أن المشروع مصمم لجعل المشي نمطًا متاحًا؛ إذ سيعمل القطار تحت الأرض، وستأخذك طبقة مرتفعة قليلًا متعامدة مع محورها الرئيس إلى الصحراء الصافية. وسيجري تحلية المياه باستخدام الطاقة المتجددة.

مدينة أم معتقد حضري

حتى الآن، نيوم ليست مدينة بقدر ما هي معتقد حضري، وقد تأتي الجوانب العملية لاحقًا أو قد لا تأتي أبدًا (التكلفة المتوقعة للمشروع تبلغ مئات المليارات من الدولارات وهو مبلغ كبير جدًّا حتى بالنسبة إلى السعودية). ولكن عديدًا من الأفكار الجيدة تبدو مجنونة في البداية، وما أدهشني هو أن رؤية نيوم هي في الحقيقة رؤية مناهضة؛ إذ هي عكس كل ما كانت عليه السعودية في السابق.

ففي السعودية القديمة، وحتى اليوم إلى حد ما، يتراكم الفساد والبيروقراطية بعضها فوق بعض لتجعل من ريادة الأعمال كابوسًا. ولا يوجد بالرياض وسائل نقل عام تقريبًا، وبغض النظر عن المكان الذي أنت فيه، لا يمكنك أن تذهب مشيًا على الأقدام إلى أي مكان ما عدا مسجد الحي الذي تقطنه ربما، ولكن لم يذكر أحد في نيوم الدين على الإطلاق، حتى إن موقع نيوم بحد ذاته يحمل إيحاءً ما؛ إذ يبعد عن المكان الذي يعيش فيه السعوديون بالفعل، بل أُنشئت في ركن خالٍ من البلاد، كما لو كانت تبحث عن الدعم والإلهام من الأردن وإسرائيل.

وبهذه الطريقة، فإن نيوم هي إعلان محمد بن سلمان عن الإفلاس الفكري والثقافي نيابةً عن بلاده، بحسب الكاتب. وتحملت قلة من الدول التكاليف كما فعلت المملكة، ونيوم تصفِّر كل هذه الجهود وتبدأ بخطة محررة من أعباء الماضي، وتَعِد أي جزء من المملكة ما زال يتمسك بأساليبه القديمة أن المستقبل سيكون عكس كل ما هم عليه، وأنهم سينتظرون طويلًا جدًّا.Embed from Getty Imageshttps://embed.smartframe.net/s/baeeb00ba17010131e44c0e4ef9b7f2e/1212154663.html?source=aHR0cHM6Ly93d3cuc2FzYXBvc3QuY29tL3RyYW5zbGF0aW9uL3RoZS1hdGxhbnRpYy1tb2hhbW1lZC1iaW4tc2FsbWFuLw..#11

الرؤية الجهادية للسعودية

وخلال التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت السعودية مُصدِّرة للرؤية، ولكن هذه الرؤية كانت هي الرؤية الجهادية، والرواية الرسمية، المقبولة حتى من الدولة السعودية نفسها، هي أن الإسلام المحافظ قد أغوى المملكة ثم أعاد الجهاديون الذين أرسلتهم السعودية إلى الخارج (وأبرزهم أسامة بن لادن) توجيه أعمالهم نحو النظام الملكي السعودي وحلفائه. فقد كان 15 شخصًا من الذين قاموا بهجوم 11 سبتمبر (أيلول) مواطنين سعوديين.

وأخبرني فيليب زيليكو، مسؤول وزارة الخارجية في عهد جورج دبليو بوش، والمدير التنفيذي للجنة 11 سبتمبر، قائلًا: «حدثت أمور عديدة جعلت السعودية تُدرك أنها لا تستطيع الاستمرار في ممارسة اللعبة نفسها التي كانوا يلعبونها»، فقد صدمت أعمال العنف التي تلت 11 سبتمبر السعوديين ودفعتهم لإدارك أن هناك تصفية حساب قد تطالهم، ومع ذلك، لم تتحرك الحكومة لمهاجمة الجهاديين إلا عندما بدأوا بتوجيه هجماتهم إلى المملكة، بحسب الكاتب. وكان السعوديون يفتقرون إلى خطة لإعادة توجيه طاقة الجهاديين.

وقال زيليكو: «لقد احتاجوا لأن يكون لديهم فكرة عن الطبيعة التي ستكون عليها بلادهم عندما يكبرون»، ولن تكون الجهادية هي تلك الفكرة بالطبع، إلا أنهم لم يكن لديهم بديل فوري، سواء للمجتمع أو للأفراد المنجذبين إلى الفكر الجهادي، وتُركت السعودية لتفعل ما تفعله أي دولة أخرى، بما فيها الولايات المتحدة، وهي سَجْن الإرهابيين حتى يشيخون على القتال.

ينقل الكاتب ما بلغه، العام الماضي، من مسؤولين سعوديين أن لدى ولي العهد خطة جديدة لإعادة تأهيل الجهاديين، وفي ذات صباح أرسلوا للكاتب قافلة من سيارات الدفع الرباعي التابعة لأمن الدولة إلى الفندق الذي يقيم فيه، مضيفًا: مع وميض الأضواء، تركنا ناطحات السحاب خلفنا في العاصمة وواصلنا مسيرنا على طريق مستقيم يتجه من الرياض إلى اللامكان، وبعد ساعة، وصلنا إلى منطقة تسمى حائر وعبرنا حاجزًا أمنيًّا.

سجن حائر.. الخطة البديلة

يوضح الكاتب أن حائر سجن تابع لأمن الدولة، تديره المباحث السعودية، ما يعني أن السجناء فيه ليسوا من سارقي السيارات أو مزوري الشيكات؛ بل من المطلوبين للدولة، ومن بين السجناء جهاديون من تنظيمي القاعدة وداعش، وقد التقى الكاتب 12 شخصًا على الأقل، ومنهم إسلاميون أكثر اعتدالًا مثل رجل الدين سلمان العودة.

يقول وود: «ومررنا عبر الحاجز الأمني والبوابات، نحو منشأة يكسوها الغبار، واستقبلنا مدير سجون أمن الدولة محمد بن سلمان السراح، ومعه طاقم بدا أنه من التلفزيون مكون من ستة رجال على الأقل يحمل كل منهم كاميرا أو ميكروفون. وكنت قلقًا مما سيحدث بعد ذلك؛ إذ إن القصص التي تستحق الذكر خلف قضبان سجون الإرهابيين ليست جيدة في الأغلب، وكان هناك رجال في الخلفية جميعهم ملتحون ويرتدون بدلات رمادية اللون».

مضيفًا: «اتضح أن السراح نفسه كان مهووسًا بالجهادية في السابق، وذكر لنا بعض الشخصيات الجهادية البارزة في تاريخ الإرهاب السعودي ونحن نحتسي الشاي، وبعد هذا الحديث السريع، دعاني للانضمام إليه في قاعة اجتماعات أشبه بقاعة محاضرات في حرم جامعي صغير، وتبِعَنا المصورون».

وبحسب وود: «في القاعة، اعتلى الرجال الذين يرتدون البدلات المسرح، وأوضح قائدهم، وهو رجل يُدعى عبد الله القحطاني، أنه ومعظم الحاضرين كانوا سجناء، وأن هناك عرضًا تقديميًّا يُريد أن يطلعني عليه حول الشركة التي يديرونها وهم في السجن، وحتى طاقم التصوير كان من السجناء السابقين أيضًا، وكانوا يوثقون زيارتي لعرضها على المجموعات الجهادية المسجونة».

يقول وود: «ما أعقب ذلك، كان أكثر شرائح مرئية سريالية أراها في حياتي، مخطط تنظيمي للشركة وخطط لمجموعة من الشركات التي يديرها الجهاديون وغيرهم من أعداء الدولة من داخل السجن، وتحدث القحطاني بالعربية وترجم له زميله المتحمس الجالس بالقرب منه».

شركة «باور»

وأظهر الرسم البياني الرئيس التنفيذي القحطاني في القمة ثم تقارير عن سبعة مكاتب تعمل تحت إمرته من بينها المالية وتطوير الأعمال «وشؤون البرامج»، وتحت آخر هذه المكاتب، كان هناك مكتب فرعي آخر يحمل اسم «المسؤولية الاجتماعية».

وأوضح القحطاني أن 89% من نزلاء السجن شاركوا في هذه البرامج حتى الآن. بطريقة ما، كان هذا أشبه بأي برنامج سجون آخر، ففي الولايات المتحدة يعمل السجناء موظفي خدمة عملاء، أو يكنسون الممرات ويتقاضون دولارًا في الساعة، ولكن مجموعة حائر تعمل بوصفها شركة تسمى «باور»، وهي شركة ريادة أعمال مكتملة، بحسب وود.Embed from Getty Imageshttps://embed.smartframe.net/s/baeeb00ba17010131e44c0e4ef9b7f2e/1201429267.html?source=aHR0cHM6Ly93d3cuc2FzYXBvc3QuY29tL3RyYW5zbGF0aW9uL3RoZS1hdGxhbnRpYy1tb2hhbW1lZC1iaW4tc2FsbWFuLw..#13

ثم انتقل القحطاني ومترجمهُ بصحبة وود إلى حديقة صغيرة، حيث كان السجناء يزرعون الفلفل تحت أغطية بلاستيكية، ويربون النحل ويقطفون عسله ويبيعونه في متجر السجن معلبًا في علب صغيرة تحمل شعار شركة «باور»، وهناك مغسلة لغسيل الثياب اطلع الكاتب على قائمة أسعار خدماتها، وقالوا إن السجن يغسل الملابس بالمجان، لكن يمكن للموظفين والسجناء إحضار ملابسهم هنا لإجراء خدمات إضافية كالخياطة مقابل أجر، كما رأى وود قمصانًا مغسولة ومكوية وعليها أرقام السجناء مكتوبة على الياقات، ويبدأ كل رقم بسنة دخول السجن وفقًا للتقويم الهجري. ورأيت قميصًا كُتب عليه 1431هـ أي منذ 12 سنة.

كان جميع الرجال تقريبًا ملتحين وعلى جباهِهم أثر السجود، يضيف الكاتب: «وكانت بعض منتجاتهم حِرَفية وذات طابع ديني، وقادوني إلى غرفة صغيرة تُستخدم مصنعًا للعطور من أجل بيعها خارج السجن، وإلى غرفة أخرى يصنع فيها السجناء مسابح من عجم الزيتون».

يقول وود: «طلب مني عضو سابق في القاعدة قائلًا: (شُمَّ هذه الرائحة) واضعًا تحت أنفي شريطًا ورقيًّا مبللًا بمادة كيميائية لم أعرف ما هي، أظن أن الرائحة كانت لنبات الخزامى. وقدَّم لي سجين يعمل في مقصف السجن المثلجات مجانًا، لكنها بدأت تذوب وأنا أتجول في السجن، فحملها المترجم كي أتمكن من كتابة ملاحظاتي».

من جهاديين إلى موظفي مكاتب

يقول الكاتب: الأغرب من كل هذا، هو المركز العصبي لشركة باور، وهو عبارة عن مكاتب رمادية مليئة بالمقصورات، والموظفون يرتدون الزي الرسمي، بدلات للمديرين التنفيذيين، وقمصان بولو زرقاء عليها شعار شركة باور للموظفين الأقل رتبة الذين يعملون على أجهزة الحاسوب. وهناك غرفة اجتماعات بها لوح أبيض (كُتب في أعلاه بسم الله الرحمن الرحيم، وباقي اللوح كان بقايا كتابات جلسة عصف ذهني للمبيعات)، ومكتب استقبال، وصور للملك وولي العهد.مجتمعمنذ 7 شهور«واشنطن بوست»: نسيج المملكة مهدد.. كيف يُقلِّص ابن سلمان نفوذ رجال الدين؟

والحقيقة أنه ليس هناك ما هو أغرب من وجود حياة طبيعية حيث لا يتوقعها أحد، يضيف الكاتب: «ويبدو أن هؤلاء الجهاديين، الذين كانوا حتى وقت قريب سيضحون بحياتهم من أجل قتلي، تحولوا إلى روَّاد وعاملي مكاتب، وقبل 15 عامًا، حاولت المملكة تغيير طريقة تفكير هؤلاء الجهاديين بإرسالهم لمناقشة رجال الدين الموالين للحكومة الذين قالوا للسجناء إنهم أساءوا فهم الإسلام وأنهم بحاجة إلى التوبة، ولكن إذا صُدِّق هذا المشهد، فلم يكن الجهاديون بحاجة إلى نقاش مدروس حول مُراد الله، بل بحاجة إلى أن تُنهك أجسامهم بالكدح لصالح الشركة».

بحسب وود: «لم يكن المترجم الذي يترجم لي من الجهاديين الاعتياديين، بل كان عضوًا أمريكيَّ المولد في القاعدة ويدعى ياسر عصام حمدي، وحمدي الذي يبلغ من العمر الآن 41 عامًا، كان قد انتُشل من أفغانستان في ديسمبر (كانون الأول) 2001، مع صديقه المقرب جون ووكر ليند، مما يسمى طالبان الأمريكية. وأمضى حمدي شهورًا في سجن جوانتانامو قبل نقله إلى الولايات المتحدة ثم إطلاق سراحه بعد أن ساعده والده الذي كان شخصية سعودية بارزة في مجال البتروكيماويات في رفع قضية إلى المحكمة العليا، ثم (فاز حمدي ضد رامسفيلد)».

وأعيد حمدي إلى السعودية بشرط أن يتخلى عن جنسيته الأمريكية (وُلِد في لويزيانا وغادرها وهو طفل صغير)، ولكن السعوديين رأوا أنه بحاجة لأن يقضي مزيدًا من الوقت في السجن، وأودعوه ثماني سنوات في سجن في الدمام، ثم سبع سنوات أخرى في سجن حائر، ومن المقرر أن يُطلق سراحه هذا العام، بحسب الكاتب.

برنامج «إدارة الوقت»

يروي الكاتب أن حمدي قاده في أرجاء السجن مثل طفل صغير يُرِي والديه المخيم الذي يشارك فيه، وقال: أوضح لي حمدي أن شركة باور جزء من كيان أكبر في السجن يعرف باسم «إدارة الوقت»، وهو برنامج شامل ولكن غير مبلور يهدف إلى تغيير أفكار السجناء السيئة وإقناعهم بأخرى حسنة، بحسب وود.

يضيف الكاتب: «يحتوي البرنامج على تدريب جماعي، ولكن يجمع السجناء أيضًا من أجل الاستماع للموسيقى والأغاني، وقراءة الشعر وإعداد صحف ونشرها (حصلت على نسخة من صحيفة أخبار إدارة الوقت)، ولإنتاج البرامج التلفزيونية، لقد شاهدت غرفة مليئة بالرجال يغنون أغنية كتبوها بأنفسهم بعنوان (يا بلادي)، وعُرضت مقاطع فيديو تمجد الحكومة وولي العهد، على الرغم من أن القاعدة وداعش يحرِّمون الأغاني والموسيقى ويسبون النظام الملكي، ومثل عديد من السعوديين، بدا هؤلاء الرجال وكأنهم استبدلوا تعصبهم الوطني بتعصبهم الديني، ما يجعل المرء يتساءل عما يؤمنون به في الحقيقة».

يقول الكاتب: «تَبِعنا السراح في مشيتنا ورمقتُه بنظرة عندما ذكر اسم البرنامج؛ إذ كان أحد أشهر النصوص الجهادية، والكتاب الذي جمع مبادئ داعش هو كتاب «إدارة التوحش»، وهو دليل لتدمير العالم وإحلال عالم جديد بدلًا منه، وهذا ما كان يفعله البرنامج ولكن في الاتجاه المعاكس؛ استبدال الشهية المرتبطة بالواقع والحاضر والسائد بشهية الجهاديين الوحشية لمستقبل خيالي».

مضيفًا: «أخبرت حمدي أنني تواصلت مع صديقه ليند، الذي قضى 17 عامًا في السجن الفيدرالي في الولايات المتحدة قبل أن يُطلق سراحه عام 2019، ودفعتني مراسلاتنا للاعتقاد أنه ما زال متطرفًا كما كان، وأن إقامته في السجن، التي قضاها في الدراسة المنفردة للنصوص الإسلامية، رسَّخت نزعته العنيفة وحوَّلته من مؤيد للقاعدة إلى مؤيد لداعش».

تساءل حمدي: «حقًّا؟» قبل أن يسأل لماذا، وقال: «الولايات المتحدة لا تعرف كيف تتعامل مع المسلمين، وعندما كنت في أفغانستان كان لدي تفكير متطرف أيضًا»، لكن إقامتي في السجون السعودية أفادتني أكثر. وأضاف: «الفرق أننا هنا في السجن السعودي لدينا برنامج، فأنت تريد أن تمحو التفكير الساكن في عقولنا، ولكن ليند كان لمدة 17 عامًا في السجن وحيدًا». أي أن السعوديين ملأوا وقت حمدي ووجَّهوه، يقول حمدي: «لم يكن لدينا الوقت لقراءة الكتب الإسلامية، بل لم يكن لدينا وقت لفعل أي شيء سوى العمل لتطوير أنفسنا». وكان حمدي متخصصًا في قسم الإعلام في شركة باور ويمكنه الآن إنتاج مقاطع فيديو بجودة جيدة.

حياة طبيعية هي كل ما يأملون

يواصل الكاتب مع حمدي الذي قال: «لم أكن أعرف ما هو المونتاج، ولا التصميم»، وكنا في هذه الأثناء نقود السيارة إلى جزء آخر من السجن والسراح في المقعد الأمامي وحمدي وأنا في المقعد الخلفي، وأضاف: «الآن أنا محترف، وخبير مونتاج مميز»، وأشار إلى السراح الذي ابتسم ولكن لم يقل شيئًا أو يلتفت إلى الخلف، «كل الشكر لهذا الرجل، فالحكومة فتحت هذا المكان لنا، وأنا الآن في السيارة وأتحدث إليك، كالمعتاد! وبسلام وبلا مشكلات».

وقال إنه عندما يُطلق سراحه سيعمل لصالح شركة والده أو ربما (كان هذا حلمه) وينتقل للعمل في الإنتاج السينمائي والتلفزيوني، وتساءل الكاتب عمَّا سيكون عليه الحال لو كان لديه زميل عمل مثل حمدي مع تاريخ عمل غير تقليدي إن صح التعبير، وميل للتطرف وأسامة بن لادن، بينما هو يقسم الآن مرارًا وتكرارًا أنه غيَّر ميله هذا إلى حب إنتاج الأفلام والفيديو وولي العهد والسعودية، ويؤكد وود أن حمدي سيكون زميلًا أفضل من جون والكر ليند.Embed from Getty Imageshttps://embed.smartframe.net/s/baeeb00ba17010131e44c0e4ef9b7f2e/1330275966.html?source=aHR0cHM6Ly93d3cuc2FzYXBvc3QuY29tL3RyYW5zbGF0aW9uL3RoZS1hdGxhbnRpYy1tb2hhbW1lZC1iaW4tc2FsbWFuLw..#8

يقول الكاتب: «سألتُ عديدًا من الأشخاص في السجن، كيف يمكنهم استبدال هذه الأشياء الدنيوية بالجهادية، والتي كانت تافهة بالطبع مقارنةً بالموت في سبيل الله، فضحكوا بتوتر وكأنهم يسألون عمَّا كنت أحاول فعله هل أريدهم أن يغادروا السجن ليقتلوا الناس مرةً أخرى؟ وكان معظمهم لا يزالون في مقتبل العمر وكانوا يتوقون إلى الحرية، وكان الهدف بالضبط هو تحريرهم من الرغبة في شيء مثير أو غير اعتيادي بعد اليوم، ومن الممكن أن يكون لديك كثير من الرؤى أو النوع الخاطئ منها، فبعضهم قد ذهب إلى سوريا ونجا بأعجوبة وتشبع من الرؤى وأنِفَها. فقد قال لي أحدهم: (لا نريد أي شيء سوى حياة طبيعية، سأكون سعيدًا أن أخرج من السجن وأتمشى في بوليفارد الرياض وأتناول الطعام في ماكدونالدز)».

وقال آخر: «لقد ذهبت إلى سوريا لأنه عُرض عليَّ المشاركة في حلم الخلافة»، وينقل الكاتب عن علي الفقعسي الغامدي، وهو رجل مولع بالكتب وكان مع ابن لادن في تورا بورا، أنه أدرك الآن أن هذه كانت أحلامًا مزيفة. وتساءل عن الهدف من السعي وراء حلم كبير ومثير وهو حلم كاذب؟ إن الطموح الصغير الذي يمكن تحقيقه أفضل من الطموح الكبير الذي لا يمكن تحقيقه، وقال: «رؤية 2030 حقيقة».

تغيير بنكهة الاستبداد

يرى الكاتب أنه يجب على أمريكا الآن أن تُقرر هل تستحق هذه الرؤية التشجيع أم لا، فقبل 20 عامًا، لو كنتَ قد قلتَ لي إنه في عام 2022 سيسعى الملك المستقبلي للسعودية إلى مد جسور العلاقات مع إسرائيل، وأنه سيعامل المرأة بوصفها عضوًا مكتملًا في المجتمع، وسيحارب الفساد حتى في عائلته، وسيوقف تدفق الجهاديين، وسينوِِّع اقتصاد بلاده ويحرره، ويحرر مجتمعه، وسيشجع العالم على رؤية بلاده وسيشجع بلاده على رؤية العالم، وستُلعن الوهابية في البلاد، لكنتُ قلتُ لك إن آلة الزمن الخاصة بك معطلة وأنك زُرتَ عام 2052 على أقل تقدير، والآن وقد أصبح محمد بن سلمان في السلطة، باتت كل هذه الأشياء تحدث بالفعل. ولكن أثر ذلك ليس مُرضيًا، بحسب الكاتب.

وفي عام 1804، اعتقل نابليون بونابرت، أحد المستبدين الذين أدخلوا التحديث والعصرنة في زمانه، لويس أنطوان، دوق إنجين، بشبهة التمرد، وكان الدوق يافعًا وغبيًّا ولم يكن يمثل تهديدًا لنابليون، ولكن الإمبراطور المستقبلي أعدمه. وأصيب الملوك الأوروبيون بالصدمة، لأنه إذا كانت هذه هي الطريقة التي تعامل بها نابليون مع شخص ساذج وغير مؤذٍ مثل الدوق، فما الذي يمكن أن يتوقعوه منه عندما تزداد سلطته وتختفي المعارضة الداخلية في بلاده خوفًا؟ فقد ضرب إعدام دوق إنجين على وتر الإدراك لديهم بأن نابليون لا يمكن التعامل معه أو استرضاؤه، واستغرق الأمر عقدًا من المذابح قبل أن يتمكنوا من إيجاد طريقة لإيقافه.

ولم تكن مخططات إنجين لِتوقف نابليون، ولم تكن مقالات الأعمدة التي كتبها خاشقجي لتوقف محمد بن سلمان. ولكن مقتله كان يعد تحذيرًا بشأن شخصية الرجل الذي سيحكم السعودية لنصف قرن مقبل، ومن المنطقي أن تقلق من هذا الرجل حتى وإن كان معظم ما يفعله جيدًا ومنتظرًا منذ وقت طويل.

وفي الوقت الحالي، نجد أن الطلب الرئيس لمحمد بن سلمان من العالم، خاصة الولايات المتحدة، هو الطلب المعتاد من المستبدين الذين يسيئون التصرف، وهو أن يبقى العالم بعيدًا عن شؤون بلاده الداخلية، فقد قال محمد بن سلمان: «نحن ليس لدينا الحق أن نلقي عليك محاضرة حول أمريكا، والأمر نفسه ينطبق على الآخرين»، إن الشأن السعودي يخص السعوديين. «وليس لك حق في التدخل في شؤوننا الداخلية».

بيد أنه يعترف أن مصير البلدين لا يزال مترابطًا، وفي واشنطن، يرى كثيرون أن صعود محمد بن سلمان كان مدعومًا، بل ربما جُعل حتميًّا، بتشجيع أمريكي. وينقل الكاتب عن السيناتور مورفي قوله: «هناك لحظة كان بإمكان المجتمع الدولي أن يجعل مقتل خاشقجي القشة التي قسمت ظهر البعير، ويعلن بوضوح أننا لسنا مستعدين للتعامل مع محمد بن سلمان».

بيد أن دعم إدارة ترامب قد أنقذ محمد بن سلمان من الموقف الذي كان فيه في أكثر حالاته ضعفًا. وأضاف مورفي: «إذا أصبح محمد بن سلمان في نهاية المطاف ملكًا، فهو لا يدين لأحد بالجميل بقدر ما يدين لجاريد كوشنر»، مبعوث ترامب الشخصي لولي العهد، وينقل الكاتب ما قاله له أحد المحللين السعوديين: «أنتم الأمريكيون ترون أن هناك أمرًا غريبًا في أن يرسل الحاكم صهره غير المؤهل لإدارة العلاقات الدولية، وهذا أمر طبيعي تمامًا من وجهة نظرنا».

هل سيصبح ابن سلمان ملكًا؟

يشير الكاتب إلى أنه لا يزال البعض يأمل في ألا يتولى محمد بن سلمان الحكم، وأشار خالد الجبري للكاتب بتفاؤل: «واحد فقط من آخر خمسة أولياء للعهد أصبح ملكًا في نهاية المطاف». ولكن كل ما أراه يشير إلى أن صعوده إلى سدة الحكم مؤكد، وأن البحث عن بدائل أمر لا طائل منه، وهناك اثنان من أولياء العهد هُمِّشوا لصالح محمد بن سلمان، بينما توفي الاثنان الآخران وهم في عمر الشيخوخة.Embed from Getty Imageshttps://embed.smartframe.net/s/baeeb00ba17010131e44c0e4ef9b7f2e/1236996950.html?source=aHR0cHM6Ly93d3cuc2FzYXBvc3QuY29tL3RyYW5zbGF0aW9uL3RoZS1hdGxhbnRpYy1tb2hhbW1lZC1iaW4tc2FsbWFuLw..#6

وتحتاج الولايات المتحدة لشركائها من أجل عزل إيران، بحسب الكاتب، ومحمد بن سلمان نصير قوي للولايات المتحدة هناك، وحتى على الصعيد المحلي، يظل من نواحٍ عديدة هو الرجل المناسب لهذه الوظيفة، إنه على الأقل، كما قال فيليب زيليكو للكاتب، ليس حاكمًا يعيش في حالة إنكار، موضحًا: «أردنا قيادة سعودية تستطيع مواجهة مشكلاتها الخاصة، وتشرع في صراع طموح لإعادة تشكيل المجتمع السعودي على شاكلة العالم الحديث»، ونحن لدينا الآن هذا القائد وهو يقدم خيارًا ذا حدين: ادعمني أو استعد لطوفان من الجهاديين.

ويرى الكاتب أن محمد بن سلمان كان محقًّا عندما أشار إلى أن موقف إدارة بايدن تجاهه هو في الأساس موقف تجريمي يطالبهم بالتوقف عن قصف المدنيين في اليمن، وحبس المعارضين وتقطيع أوصالهم، وقد تكون الولايات المتحدة قادرة على إقناع محمد بن سلمان بتخفيف إحكام قبضته، وذلك فقط إذا استطاعت إقناعه بأنه سيكافأ على حسن سلوكه، ولن يكون ذلك ممكنًا على الإطلاق دون الاعتراف بأن لعبة صراع العروش قد انتهت بالفعل وأن ابن سلمان قد انتصر.

وقال عديد من المنفيين الذين تحدثتُ إليهم أن أملهم الآن أن يهدأ ولي العهد، وأن يمنعه المسؤولون السعوديون الأكبر سنًّا من تدمير البلاد بقراراته المتهورة، مثل مقاطعة قطر ومقتل خاشقجي، ومحمد بن سلمان لديه شعور بأن هناك ثمنًا لأن تكون متقلبًا مندفعًا، فقد قال في حواره للمجلة: «إذا أدرنا البلاد بعشوائية، فإن الاقتصاد بأكمله سينهار»، فقد جرب آخرون هذه الإستراتيجية «فهذه طريقة القذافي».

وقد اتخذ الملك سلمان إجراءاتٍ تهدف ظاهريًّا إلى إجبار ابنه للحكم بشمولية أكثر بعد وفاته؛ فقد غيَّر قانون الخلافة لمنع الملك القادم من تسمية أبنائه، أو في الواقع أي فرد من فرع عائلته، وليًا للعهد، وسألتُ محمد بن سلمان هل يُفهم من ذلك أن هذا هو الهدف من القانون، فقال: نعم. وسألته إن كان يفكر في شخص جدير بهذا المنصب، فقال: «إن هذا من الموضوعات المحرم الحديث فيها، وستكون أنت آخر من يعلم».

غير أنه عندما يصبح ملكًا، ستكون القواعد ملكًا له، وربما ينفذ ولي عهد ذو عقل أرق وروح ألطف إصلاحات محمد بن سلمان دون اللجوء إلى أساليبه الوحشية، لكن من غير المجدي التفكير في السياسة في حالة من الخيال الطفولي، كما لو كان من الممكن استحضار عاهل سعودي جديد من خلال إغلاق عينيك وتمني وجوده، افتح عينيك وستجد أن محمدًا بن سلمان لا يزال هناك، وما لم يكن هناك، فإن الرجل الذي يحكم مكانه لن يكون دالاي لاما عربيًّا، بحسب الكاتب، إنما سيكون، في أحسن الأحوال، عضوًا في الحرس القديم السعودي غير المستدام، وفي أسوأ الأحوال سيكون واحدًا من اللحى الجهادية الكبيرة، وكما أخبرني محمد بن سلمان، لتبرير عملية فندق ريتز، «في بعض الأحيان يكون القرار بين السيئ والأسوأ».

كيف يمكن أن تؤثر أمريكا في محمد بن سلمان؟

يقول الكاتب: بما أن الواقع قدم لنا محمدًا بن سلمان، فإن السؤال بالنسبة لأمريكا هو كيف تؤثر فيه؟ وهذا السؤال عملي وليس أخلاقيًّا، فإذا كانت أخلاقه تدفعه إلى شراكة مع الصين، فما الخير الذي ستحققه؟ ومن المبادئ الأساسية للعلاقات الخارجية الصينية الابتعاد عن الشؤون الداخلية للدول الأخرى وتوقع الشيء نفسه منها، ومن المؤكد أن بكين لن تعاقبه على معاملته للمعارضين له.Embed from Getty Imageshttps://embed.smartframe.net/s/baeeb00ba17010131e44c0e4ef9b7f2e/599079718.html?source=aHR0cHM6Ly93d3cuc2FzYXBvc3QuY29tL3RyYW5zbGF0aW9uL3RoZS1hdGxhbnRpYy1tb2hhbW1lZC1iaW4tc2FsbWFuLw..#3

وفي الواقع، كل من السعوديين والأمريكيين موجودون الآن في فندق ريتز كارلتون، ومجبرون على المساومة مع سجان يعدنا بالازدهار إذا خضعنا لمطالبه، أو مواجهة الجنون إذا لم نفعل ذلك. المأزق مألوف، لأنه المأزق نفسه الذي وضع فيه كل مستبد عربي علماني أمريكا منذ الخمسينيات، لقد استبدلت مصر والعراق وسوريا بالمجتمعات شبه القبلية مجتمعات حديثة، وأصبحوا جميعًا ديكتاتوريات قذرة تبرر نفسها على أنها متاريس ضد الفوضى.

قبل 20 عامًا، امتدح مراقبو سوريا توجهات الأسد التحديثية، وانفتاحه على النفوذ الغربي وكذلك أذواقه الغربية، وكان يحب المطرب البريطاني فيل كولينز، فكيف يمكن أن يكون شريرًا؟ في الوقت الحالي، يعترف الجميع خارج دمشق وطهران وموسكو بأنه المنافس الوحيد لصدام حسين في السباق المشبوه على مركز الزعيم العربي الأكثر شرًّا.

وقد أكمل محمد بن سلمان نحو ثلاثة أرباع فترة الانتقال من ملك قبلي بسمات ثيوقراطية (دينية) إلى مستبد قومي علماني تقليدي وصريح، ولا يجب أن تكون بقية تلك الفترة الانتقالية قاسية مثل البداية، لكن محمدًا بن سلمان لا يُظهر أي علامة على التراجع. ويمكن للولايات المتحدة، بل يجب عليها، إثبات أن أمن السعودية وتنميتها سيتطلبان أدوات مختلفة للمضي قدمًا، لكنها ربما لا تستطيع أن تجعل محمدًا بن سلمان يستخدمها.

المهم.. لا تراجع عن الإصلاحات

يلفت الكاتب إلى أن النهج الأكثر واقعية يتمثل في التأكد من أن الإصلاحات التي أدخلها ابن سلمان سوف تبقى، وأن التغييرات في الثقافة السعودية لا رجعة عنها، إن فتح البلاد والتهميش القسري لطبقة ملكية ملتوية – هذه تغييرات يصعب التراجع عنها، وهي ملزمة حتى للعاهل المطلق الذي أصدرها. وكان منح رخص القيادة للسيدات عملية سلسة في نهاية المطاف، والتراجع عنها سيعطل حياة الملايين ويزرع الاحتجاجات في جميع أنحاء المملكة، ويمكن للتأثير الأمريكي أن يعترف بمثل هذه التغييرات ويشجعها.

وأحيانًا تكون هذه هي الطريقة التي تخفف بها القوة المطلقة قبضتها: ببطء وبدون أن يلاحظ أحد، في إنجلترا، استغرق الانتقال من ملكية مطلقة إلى نظام دستوري كامل 200 عام، ولم يشرف على الفترة كلها ملوك مستقرون، ولا يزال محمد بن سلمان شابًا ويجمع السلطات، وكل من توقع أنه سيخفف من قسوته مع المعارضة أثبت حتى الآن أنه متفائل، لكن خمسين سنة هي فترة حكم طويلة، ويمكن لجنون «الملك» محمد أن يفسح المجال لشيء آخر: التخلي البطيء والأنيق عن السلطة، أو، كما هو الحال مع الأسد، الممارسة الأعنف لها، بحسب ما يختم الكاتب.

المصدر: ساسة بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار