بلقيس جراح، المديرة المشاركة لبرنامج العدالة الدولية في هيومن رايتس ووتش:
“كم مرة يجب أن يقرع ناقوس الخطر، وكم مدني يجب أن يعاني أو يُقتل بشكل غير قانوني قبل أن تتحرك الحكومات؟
تفتح قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا الباب لعملية قانونية أمام أعلى محكمة في العالم للتدقيق بمصداقية في سلوك إسرائيل في غزة، على أمل وقف المزيد من المعاناة”.
البابور العربي – متابعات
قالت “هيومن رايتس ووتش” اليوم إن جلستَي “محكمة العدل الدولية” يومي 11 و12 يناير/كانون الثاني 2024 حول الإبادة الجماعية في غزة ستُدرِجان أول رد رسمي من جانب إسرائيل أمام محكمة مستقلة ومحايدة على مزاعم ارتكابها فظائع ضد الشعب الفلسطيني منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. في 29 ديسمبر/كانون الأول، رفعت جنوب أفريقيا دعوى أمام المحكمة تزعم فيها أن إسرائيل انتهكت “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها” لعام 1948.
في 2 يناير/كانون الثاني، أكّد مسؤولون إسرائيليون عزم إسرائيل تمثيل نفسها أمام محكمة العدل الدولية لمعارضة طلب حكومة جنوب أفريقيا. تزعم جنوب أفريقيا انتهاك إسرائيل اتفاقية الإبادة الجماعية بارتكابها إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة، وتقاعسها عن الحيلولة دون وقوعها، بما يشمل عدم مساءلة كبار المسؤولين الإسرائيليين وغيرهم عن تحريضهم المباشر والعلني على الإبادة الجماعية. هذه القضية ليست دعوى جنائية ضد أفراد، بل تسعى إلى تحديد قانوني لمسؤولية الدولة عن الإبادة الجماعية.
قالت بلقيس جراح، المديرة المشاركة لبرنامج العدالة الدولية في هيومن رايتس ووتش: “تتعلق الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا بالتزامات إسرائيل بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، وتسلط الضوء على السلوك الإسرائيلي في غزة أمام أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة. طلبت جنوب أفريقيا من محكمة العدل الدولية إقرار إجراءات عاجلة لحماية الفلسطينيين في غزة الذين يواجهون ظروفا معيشية كارثية نتيجة جرائم الحرب التي ترتكبها السلطات الإسرائيلية”.
بينما قد تستغرق القضية سنوات عدة للوصول إلى حكم نهائي، طلبت جنوب أفريقيا من محكمة العدل الدولية، المعروفة أيضا بـ “محكمة العالم”، أن تأمر باتخاذ تدابير مؤقتة لحماية الشعب الفلسطيني في غزة من المزيد من الأذى، وضمان امتثال إسرائيل لاتفاقية الإبادة الجماعية، وصون قدرة جنوب أفريقيا على نيل بتّ عادل في القضية. طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة إصدار هذه الإجراءات “باعتبارها مسألة ملحة للغاية”، قائلة إن الفلسطينيين في غزة “بحاجة عاجلة وشديدة إلى حماية المحكمة”. ستكون الحجج المتعلقة بطلب التدابير المؤقتة موضوع جلسات الاستماع يومي 11 و12 يناير/كانون الثاني.
من التدابير المؤقتة المطلوبة تعليق إسرائيل عملياتها العسكرية في غزة فورا والتقيّد بالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية. تسعى جنوب أفريقيا كذلك إلى اتخاذ تدابير لمنع تدمير أي أدلة تتعلق بالقضية الأساسية والحفاظ عليها. تشمل الوسائل المطلوبة منح بعثات تقصي الحقائق، والهيئات ذات التفويض الدولي، وغيرها من الهيئات إمكانية الوصول إلى غزة.
كما طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة إلزام إسرائيل بتقديم تقارير إلى المحكمة عن الخطوات المتخذة لتنفيذ أمر التدابير المؤقتة في غضون أسبوع من صدوره ثم على فترات منتظمة إلى أن تصدر المحكمة حكمها النهائي. في مرافعاتها الشفهية في 11 يناير/كانون الثاني، يمكن لجنوب أفريقيا أن تطلب تحديدا من المحكمة نشر التقارير الإسرائيلية علنية.
في طلبها المقدم إلى المحكمة، تقول جنوب أفريقيا إن إسرائيل تقتل أعدادا كبيرة من الفلسطينيين في غزة، وتسبب لهم أذى جسديا ونفسيا خطيرا، وتفرض إجراءات تهدف إلى منع ولادات الفلسطينيين، وتُنشئ ظروفا معيشية تستهدف تدمير الفلسطينيين كمجموعة. استشهدت جنوب أفريقيا بعمليات الطرد والتهجير الجماعيين؛ والحرمان مما يكفي من الغذاء، والماء، والرعاية الطبية، والمأوى، والملابس، والنظافة، والصرف الصحي؛ وتدمير نسيج الحياة الفلسطينية في غزة.
تؤكد جنوب أفريقيا أيضا أن “أعمال الإبادة الجماعية” يجب أن توضع في “السياق الأوسع لسلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين خلال نظام الفصل العنصري منذ 75 عاما، واحتلالها الحربي للأراضي الفلسطينية الذي دام 56 عاما، وحصارها المستمر لغزة منذ 16 عاما”.
تزعم جنوب أفريقيا أن التصريحات العديدة التي أدلى بها المسؤولون السياسيون والعسكريون الإسرائيليون تشكل دليلا على وجود نية واضحة لتدمير الفلسطينيين في غزة كمجموعة. وتضيف، “يُستدل بوضوح من تصرفات الجيش الإسرائيلي على الأرض… تنفيذهم تصريحات وتوجيهات الإبادة الجماعية تلك ضد الشعب الفلسطيني”. يستشهد طلب جنوب أفريقيا بعدة تصريحات لخبراء أمميين حذروا من خطر الإبادة الجماعية.
ستستمع المحكمة إلى رد إسرائيل الرسمي في 12 يناير/كانون الثاني. وصفت وزارة الخارجية الإسرائيلية، في بيان منشور بتاريخ 29 ديسمبر/كانون الأول 2023، طلب جنوب أفريقيا بأنه “فرية الدم”، في إشارة إلى افتراءات تاريخية ضد مجتمعات يهودية، وأن الادعاء “يفتقر إلى أساس واقعي وقانوني ويشكل استغلالا مشينا ومهينا للمحكمة”. أفاد تقرير إعلامي أن وزارة الخارجية الإسرائيلية أصدرت تعليمات لدبلوماسييها بالضغط على المسؤولين في الدول التي تستضيفهم لإصدار بيانات ضد القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا. حث وزير الخارجية الإسرائيلي كذلك المملكة المتحدة تحديدا على معارضة طلب جنوب أفريقيا. نقلت وسائل الإعلام في 9 يناير/كانون الثاني عن وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون أنه لا يعتقد أن قضية محكمة العدل الدولية ستأتي بفائدة.
وصف المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي طلب جنوب أفريقيا بأنه “لا أساس له، ويؤدي إلى نتائج عكسية، ويفتقر تماما إلى أي أساس واقعي”. قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر بشكل منفصل إن واشنطن “لم تشهد حتى هذه المرحلة أفعالا تشكل إبادة جماعية” وإن قضية محكمة العدل الدولية “ليست خطوة مثمرة في هذا الوقت“.
وقد رحب عدد من الأطراف في اتفاقية الإبادة الجماعية بالطلب الذي قدمته جنوب أفريقيا، منها الأردن، وباكستان، بنغلاديش، وبوليفيا، وتركيا، وجزر المالديف، وفلسطين، وفنزويلا، وماليزيا، وناميبيا، ونيكاراغوا. أصدرت “منظمة التعاون الإسلامي” أيضا بيان دعم للقضية. قال سفير فرنسا لدى الأمم المتحدة في نيويورك إن فرنسا مؤيدة قوية لمحكمة العدل الدولية وستدعم قراراتها. قالت هيومن رايتس ووتش إن على الحكومات إعلان دعمها إجراءات محكمة العدل الدولية والالتزام علنا بدعم الامتثال لقراراتها.
ارتكبت السلطات الإسرائيلية والفصائل الفلسطينية المسلحة انتهاكات جسيمة خلال الأعمال القتالية الحالية. قتلت “حماس” وغيرها من الفصائل الفلسطينية المسلحة مئات المدنيين عمدا في إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، واحتجزت أكثر من 200 رهينة. ثم قطعت الحكومة الإسرائيلية الكهرباء، والوقود، والغذاء، والمياه عن سكان قطاع غزة وقلصت بشدة المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة، وهي أفعال تشكّل جميعها عقابا جماعيا، أي جريمة حرب. قالت هيومن رايتس ووتش إن السلطات الإسرائيلية تستخدم أيضا تجويع المدنيين أسلوبا حربيا في غزة، وهو أيضا جريمة حرب.
تشير الممارسة السابقة لمحكمة العدل الدولية إلى أن القرار بشأن التدابير المؤقتة يمكن اتخاذه خلال أسابيع. رغم أن إسرائيل ستكون ملزمة قانونا بالأمر الصادر عن المحكمة، إلا أنه لن يشكل حكما مسبقا على أحقية الادعاءات القائلة إن إسرائيل انتهكت اتفاقية الإبادة الجماعية. سيُرسَل الأمر بالتدابير المؤقتة تلقائيا إلى “مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة” في انتظار القرار النهائي في القضية.
تتألف محكمة العدل الدولية من 15 قاضيا تنتخبهم “الجمعية العامة للأمم المتحدة” ومجلس الأمن لتسع سنوات. عندما يكون ثمة نزاع بين بلدين لا تضم هيئة المحكمة مواطنيهما، يمكن للحكومتين تعيين قاضيين مخصصين للنظر في تلك المسألة المحددة. في هذه القضية، عيّنت جنوب أفريقيا النائب السابق لرئيس المحكمة العليا في جنوب أفريقيا ديكغانغ موسينيكي، وعيّنت إسرائيل رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية المتقاعد أهارون باراك كقاضيَيْن خاصَّين.
رفعت جنوب أفريقيا، التي صادقت على اتفاقية الإبادة الجماعية في العام 1998، قضيتها بموجب المادة 9 من الاتفاقية، التي تسمح بإحالة النزاعات بين الأطراف إلى محكمة العدل الدولية. أكدت المحكمة سابقا أن جميع الدول الأعضاء في الاتفاقية عليها واجب منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. إسرائيل طرف في اتفاقية منع الإبادة الجماعية منذ العام 1951.
كما أحالت جنوب أفريقيا مع بنغلاديش، وبوليفيا، وجزر القمر، وجيبوتي الوضع في فلسطين إلى المدعي العام لـ “المحكمة الجنائية الدولية” في نوفمبر/تشرين الثاني 2023. طلبت جنوب أفريقيا من مدعي عام الجنائية الدولية كريم خان التحقيق في جريمة الإبادة الجماعية من بين الانتهاكات الجسيمة الأخرى في فلسطين بهدف توجيه الاتهام إلى الأفراد المسؤولين. أكد خان أن مكتبه يجري، منذ مارس/آذار 2021، تحقيقا في الجرائم الفظيعة المزعومة المرتكبة في غزة والضفة الغربية منذ العام 2014، وأن لديه ولايةٌ قضائية على الجرائم المرتكبة في الأعمال القتالية الحالية بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية المسلحة تغطي السلوك غير القانوني من قبل جميع الأطراف. زار خان إسرائيل وفلسطين في ديسمبر/كانون الأول.
في سياق متصل، طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر/كانون الأول 2022 رأيا استشاريا من محكمة العدل الدولية بشأن العواقب القانونية للاحتلال الإسرائيلي المطول للضفة الغربية وقطاع غزة. طلبت الجمعية العامة لأول مرة قبل 20 عاما من المحكمة إصدار رأي استشاري يتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة. في 2004، خلص الرأي الاستشاري للمحكمة إلى أن مسار الجدار العازل الذي تبنيه إسرائيل ينتهك القانون الدولي وينبغي تفكيكه. الطلب المقدم في ديسمبر/كانون الأول 2022 أوسع نطاقا. قدمت جنوب أفريقيا، من بين دول أخرى، مرافعة مكتوبة في الدعوى. ومن المقرر أن تعقد محكمة العدل الدولية جلسات استماع عامة بشأن الطلب ابتداء من 19 فبراير/شباط.
قالت جراح: “كم مرة يجب أن يقرع ناقوس الخطر، وكم مدني يجب أن يعاني أو يُقتل بشكل غير قانوني قبل أن تتحرك الحكومات؟ تفتح قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا الباب لعملية قانونية أمام أعلى محكمة في العالم للتدقيق بمصداقية في سلوك إسرائيل في غزة، على أمل وقف المزيد من المعاناة”.
هيومان رايتس ووتش