حنان بديع
يهتمُّ علمُ الإنسانِ بدراسةِ البشرِ في كل تفاصيلِهم، بدايةً من أصولِهم وتكيفهم وبيئتهم وتوزيعهم وعاداتهم، بالإضافة إلى علم الوراثة البشريَّة، وصولًا إلى دراسة ماضي ما قبل التَّاريخ للانتقال إلى الحاضر، من القبائل السابقة إلى المدن الصناعية الحديثة، ومن عادات الحضارات القديمة إلى مُعتقدات الشعوب الشعبيَّة اليوم.
هذا يعني أنَّ علماء الأنثروبولوجيا يستكشفون جميعَ مراحل التطور البشري، ويحللون ثقافات ولغات الشعوب الحديثة. بعبارةٍ أخرى، فإنَّ الأنثروبولوجيا هي دراسة جميع جوانب الإنسانيَّة في جميع الأوقات.
وعادةً ما يدرسُ ويبحث علماء الآثار دائمًا وأبدًا عن كل ما يدل على وجود حضارات قديمة من الألواح المكتوبة والهياكل العظمية والأدوات البدائية، على أنها الدليل على تحضّر البشر، بعد أن قضى الإنسان القسم الأعظم من حياته في أطوار التوحّش والهمجيّة، إلى أن دخلت البشرية في أخطر تجربة بانتقالها إلى طور الحضارة الناضجة، إذ يؤيد عددٌ من علماء الآثار فرضية أن أقدم حضارة في العالم هي حضارة بلاد الرافدين حضارة السومريين، وعرفت تلك الحضارة بالعثور على شظايا من الألواح الطينية مكتوبة بالكتابة المسمارية، لكن متى انتقلنا حقًا كبشر إلى تلك المرحلة التي نستطيع أن ندعي فيها أننا ارتقينا عن باقي المخلوقات بإنسانيتنا وحضارتنا؟
أجابت عن هذا السؤال الخطير عالمة الأنثروبولوجيا «مارجريت ميد» عندما سألتها إحدى الطالبات ذات مرة عما تعتبره أول علامة حضارة في تاريخ الإنسان.
بالطبع توقع الجميع أن تحدثهم العالمة في الأنثروبولوجيا عن الأواني الفخارية أو أدوات الصيد.
لكن كان ردُّ «مارجريت ميد» معاكسًا لجميع التوقعات، حيث قالت: «إن أول علامة على الحضارة في الثقافة القديمة هي الدليل الذي وجدناه، عبارة عن عظام لشخص أُصيب بكسر في عظم الفخذ وشفي منه واستمرَّ في الحياة.
في مملكة الحيوان عمومًا، إذا كسرت رجلك، سوف تموت لا مفرَّ من ذلك، حيث إنك لن تتمكن من الهروب من الخطر المحدق بك من كل جانب أو البحث عن الطعام مثلًا، ثم ستصبح فريسة سهلة للحيوانات المفترسة، في الغاب لا ينجو أي حيوان كسرت رجله، لعدم توفر الوقت لغاية شفاء العظم. إن عظم الفخذ المكسور والذي تم معالجته، دليل على أن شخصًا ما آخر استغرق وقتًا للبقاء مع المصاب وحمايته والاعتناء به إلى أن تعافى.
فإذا كانت مساعدة شخص ما على تجاوز مصاعب الحياة هي نقطة البداية للحضارة؛ لأن الحضارة هي مساعدة مجتمعية، فماذا عسانا أن نقول عن عصرنا الحاضر بكل ما فيه من قسوة ووحشية! وكيف نقيم حضارتنا في ظل الحروب وجرائم الإبادة والصراعات المحلية والإقليمية التي يدفع ثمنها الأبرياء منَّا دون رحمة؟
حنان بديع: شاعرة وكاتبة لبنانية
الراية القطرية
