البابور الموقع العربي

ما لا تعرفونه عن “المقاتل الأنيق”.. تفاصيل مجاهد ارتقى في أبهى حلة

319

ملحوظة: هذا النص يتضمن توثيقًا لما أُفصح عنه في حكاية الشهيد ” حمزة هشام عامر” الملقب بـ “المقاتل الأنيق”، الذي استشهد في معركة “طوفان الأقصى” استناداً إلى ما أخبرتنا به خالته، وقريبه رفيق دربه.

وحيد أمه.. اشترى سلاحه بماله الخاص ليثأر لأبيه

كتب محمد هنية

أنا ظِلُ أبي، انتقامه المستمر منذ 30 عاماً، أنا خطوات والدي التي حوّلت دبابات قاتلنا إلى حطام، وجنوده إلى أشلاء، شاهدتم بعض البأس بأناقة،

وللحكاية تفاصيل خفيّة أقصها، عنوانها “ميراث أبي”. أنا ابن هشام، اسالوا جدّ قاتلي عنه، سيُحدثكم عن المقاتل الذي كان أول من علّم على الاحتلال في خانيونس، حين أطلق رصاصه تجاه معسكر الاحتلال في مركز شرطة خانيونس قبل ثلاثين عاماً،

أولى رصاصات الانتقام من أسلحة كانت البداية لمطاردي القسام الأوائل في خانيونس.. كان أبي منهم. أنا ابن المطارَد، الذي ودّعته في أكتوبر، الشهر الذي لطالما حمل “غصة” في قلبي مذ ألقيت على والدي نظرة الوداع عام 1992، بعد ملحمته في خانيونس،

أكتوبر الذي جعل منه “طوفان الأقصى” يوم انتصار وتحقيق الانتقام، يوم حوّل كل غصّة في قلب كل يتيم وأرملة سلب الاحتلال أحبابهم، إلى يوم فخر وانتصار.

وفق تعريفكم “المقاتل الأنيق”، وفي الهوية اسمي حمزة هشام حسني عامر، وحيد والديّ من الأبناء ورفيق درب شقيقتي الوحيدة “زينب”،

اليوم بوسعي أن أعلن تفاصيل “قصة الظلّ”، ظل أبي وخطواته. هل سمعتم عن ظلٍ لخطوات ميّت في دنيا الفناء؟ هل سمعتم عن خطوات شهيد ظلت تسري في الدنيا لثلاثين عاماً بعد رحيله؟، هذا أنا صاحب المعطف الذي حاز ألقابكم يوم حملت على كتفي انتقام أبي الذي ما فارقني مذ طبعت قبلة الوداع قبل 30 عاماً.

عشت ثلاثين عاماً بعد رحيل والدي المطارَد، عشتهم أُطارِد فيهم من طارده في شوارع خانيونس، وفي ميادين تدريب كتائب القسام عشت متتبعا خطوات والدي، وكم يا والدي نعتوني رفاقك بصفاتك، يسرني قولهم “كم تشبه هشام يا حمزة”.

في الحروب تتعدد الانتصارات التي تُعلن على الشاشات، بينما كان يهمني انتصار خفي في قلبي، مستتر وراء أيام طويلة عشتها في مواقع التدريب، ألا وهو “اللقاء بك بعد الظفر”. اللقاء وقد تمّ، وها أنا أعلن انتصاري للعالم بجانبك، أما الظفر فهو ما رآه الناس يوم رأوا معطفي،

الحقيقة يا والدي لم تهمني العدسات يوماً ولم ألتفت لها، ويعرف رفاقي ذلك، غير أن تلك اللقطة أحببتها يا رفيقي، ليس اعتزازا ولا باب كبرياء، بل توثيق مهم للعالم، أن ميراث الفلسطيني سلاحه، وأن تحرير أرضه ينتقل من جيل إلى جيل.

ظل أبي أما قصة الظِلّ، فهل تعرف يا والدي أنني كنت نسختك في الدنيا ليس في الملامح فقط، بل في الطباع؟، حدثتني أمي عن حبك للرياضة البدنية ورياضة كمال الأجسام، حتى سرت مثلك، لا أعلم هي جينات، أم تشوق لتتبع خطواتك علّني أرى صورتك في كل مرآة أقف بها.

“لذيذة” تعليقات والدتي حين تتابع معي رياضة كمال الأجسام، تلاحظ تغيرات جسدي وكيف أصبح الشبه بجسدك المنحوت وعضلاتك المفتولة، وكم أتعبت أمي وزوجتي بنظامي الغذائي الدقيق، وكم اشتهت أم هشام أن أتناول البسبوسة من يديها وهي التي تتقنها “ولا أجدع حلواني”، فأكرر عليها “السكر وجسمي متناقضان”. ولن أخفي عليك، أن اهتمامي بجسدي لم يتوقف حتى في “عز الحرب”، بين الكمائن كنت أمارس بعض التمارين بما توفر من المواد الثقيلة التي تقع أمام عيني في ساحات القتال.

كنت ظلّك في الصفات، كم حدثتني أمي عن صمتك الرهيب، عن السرّ الذي لا يمكن أن تبوح به لإنسان، وكذلك يصفني الناس، عن انتمائك للأرض والسلاح دون أن تلتفت للدنيا، وقد تركت في قلبي ما يشبه الوصية، حين تركت مغريات المال والجاه، وسرت على ذات طريقك. كان جوابي دائما جاهزاً لمن يقول لي “يا حمزة أنت وحيد أمك، ومش ناقصك اشي، مال وعزّة وكل ما تطلبه يُجاب، استرح واجلس بجانبها”،

تتغير ملامحهم حين أرد “ورثت عن أبي بندقية ووصية، والمُفرّط في ميراثه لا يستحق الحياة”، وهل هناك عز أعظم من عزّ الجهاد وابتغاء الشهادة؟!. وكم كان يعز عليّ حين يتم استثنائي من بعض المهام القتالية، لظرف زعموه “وحيد أمي”، وما عرفوا أنني ما عشت يوماً وحيداً بعدك، كنت أنت ظلي ومرآتي، حتى حين تجن أمي من “صمتي” حين تسألني عن عملي، بينما كنت أبوح لك بما أصنع، أقف أمامك محدثا لك عن تطور العمل الذي بدأته ورفاقك.

أما “العزّ” الحقيقي يا صاحبي، فكنت أشعر به حين يكون سلاحي ومسدسي من مالي وحتى سيارتي وبنزينها الذي يُحرق في مهمات القتال،

ليس سراً يا صاحبي أن أخبرك أن سلاح ابنك من ماله الخاص، كنت في سباق مع جمع أفضل أقسام الجهاد، جهاد النفس والمال والتوجيه. كانت أمي تشاركني ذات الحرص، حتى أم هشام، وآه لو حدثتك عنها وعن أحفادك، كم صبرت عليّ في أوقات الغياب، وتحملت الكثير من الوقت، حين نكون في نزهة ويحصل طارئ فتُلغى الطشة وتحضيراتها، والحقيقة لم أكن أجد من ملامحها طفراً، بل كانت سنداً تقول لي “هذا ميدانك أبا هشام”.

وعلى سيرة الأحفاد، فهذه لانا ابنة السبع سنوات، وهذا ولي العهد هشام، ابن الخمس سنوات، وآخر العنقود محمد، تركته ابن عامين ونصف، ميراثهم “العز لا اليتم”، فابن الشهيد لا يتم له، أوليس الشهداء أحياء؟

أرقبهم يسألون والدتهم وجدتهم عنّا الآن، هل التقى أبي بجدي؟، نُغبط يا أبي على اللقاء، وظنّي بأم هشام وزوجة هشام، أن يستكملا طريقنا، فهذه أمي التي أكملت معي وشقيقتي زينب طريق العلم والجهاد، تعبت يا والدي معنا تعباً قلّ نظيره.

حبيبتي “أم حمزة”، أعظم أمّ، عادت لمقاعد الدراسة بعد استشهاد أبي، وحصلت على الشهادة الجامعية، ثم التحقت بالعمل في الجامعة الإسلامية، ولم يهدأ لها بال إلا بحصولي وزينب على الشهادة الجامعية، وكم أتعبتها معي بين جداول الرباط والعمل العسكري والجدول الجامعي. أمي الثابتة التي احتسبت رحيل أبي، وأخذت دوره في تربيتنا، هي خير من يؤنس أم هشام بعد رحيلي، وهي من رسمت لي خطوات أبي أسير عليها،

وهذا قلبي المُطمئن أني لم أغادرهم، أن خطواتي في حي الأمل لن تذهب مع الريح، أن هشاماً سيُبعث من جديد. يا صبرك يا أمي، يا ثباتك وقد توالت عليك الابتلاءات مُبكراً، واستكملت حلقاتها مع بدء معركة طوفان الأقصى، قصف الاحتلال منزلينا، وأتوك بخبري ثم بجثماني.

يا صبرك يا زوجتي وحبيبتي، يا “زوجة الشهيد وشقيقة الشهيد”، وقد اكتوى قلبك برحيل شقيقك قبل رحيلي بشهر، وصلني خبره واستودعته الله. بطل الكمائن لطوفان الأقصى سر دفين، ذلك الذي حمله أكتوبر شهر رحيل والدي، ومن يقوده اليوم رفاق والدي، ومُعلّم والدي يحيى السنوار، الذي صال معه وجال في مسجد فلسطين في تسعينيات القرن الماضي، وفيه انتقمت لأبي وتوّجت خطواته بالتحاقي فيه.

كانت معركة خانيونس هي الأشد باعتراف العدو، كيف لا وهي مدينة الأوائل والرواحل؟، رغم القصف الذي طال كل شبر، لم تتوقف المباغتة، وكم كان يحلو لي اصطياد الميركافاة، كاصطياد عصفور وأسهل. كان وقت الظهيرة يومها، أديت صلاة الظهر كعادتي في الحرب، بجعبتي وسلاحي، وذهبت مع فريقي نترقب ميركافاة العدو،

يوم وثقت العدسة انتقاماً هو واحدٌ من آلاف المشاهد التي جسّدها رفاق الحرب. كان معطف “الجوخ” من أجواء “ابن العز” الذي يفترض له التنعّم في الدنيا، غير أن نظرتي للنعيم مختلفة، صُدمت زوجتي يومها من تداول صورتي، غير أن مشهداً أسعدها، نعم “هو الحذاء الأبيض” كانت قد اشترته لي قبل الطوفان بشهر، ولم أرتديه إلا في ميدان الحرب. سيحدثكم رفاقي عن صولات وجولات، يوم قال لي أحدهم “أبو هشام، الحرب كر وفر، ارجع لأهلك”، وكان ردي صارما “لازم نلاحقهم، لازم نكون ثابتين”، حتى يوم إصابتي في ظهري إثر قصف استهدفنا في خانيونس وكتب الله لنا النجاة، لم أغادر ميدان القتال. لم يفلح العدو يا والدي في الفتك بي، مرارا حاول الترصد والاغتيال، حتى كان الموعد مع انتصاري بلقائك، قصف الاحتلال مربعا سكنياً كنا نعد فيه الكمائن، لم يصل العدو لجثماني وبقيت أنزف بعد استشهادي بتسعة أيام حين عثر الرفاق على جثماني بعد انسحاب العدو من خانيونس.

كانت الشهادة آخر ما نطقت، وظل اصبع السبابة مرفوعاً ودمي شلالا ينزف حتى لحظة العثور على جسدي بعد أيام من الارتقاء. أستطيع الآن أن أُعلن انتصاري في الطوفان، انتصاري يوم الظفر، ويوم اللقاء بك، ويوم أرى العدو يجر أذيال الخيبة.  

وكالة شهاب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار