البابور الموقع العربي

اطلبوا العلم ولو في قطر (1)

752

 

أحمد سعد حمد الله

عندما فازت قطر قبل ثلاثة عشرة عاما بتنظيم نهائيات كأس العالم لكرة القدم 2022، شككت الغالبية العظمى من الناس في قدرتها على تنظيم هذا الحدث الكبير، فكيف لهذه الدولة العربية، صاحبة المساحة الجغرافية الصغيرة، والتي لا يزيد عدد سكانها عن المليونين نسمة، أن تنجح في تنظيم حدث رياضي كبير بكل هذا الحجم، ذلك الحدث الذي يشارك فيه أكبر وأشهر المنتخبات الكروية، ويتابعه العالم بأسره، ومن ثم فإن تنظيمه يتطلب وجود العديد من المنشآت الرياضية، والاستادات، والبنى التحتية والفوقية، وكلها لم يكن شيئا مذكورا عند الفوز بالتنظيم 2010، بل إن إنشاءها يحتاج لعشرات السنين، في حين أن المدة المتاحة والفاصلة بين الفوز بالتنظيم وموعد انطلاق البطولة، هي 12 سنة فقط، ثم كيف لها أن تتغلب على المعضلة الأكبر والأصعب، وهي معضلة طقسها الصيفي الحارق، والذي تصل فيه درجة الحرارة إلى 50 درجة مئوية، ويستحيل معه إقامة البطولة في مواعيدها المعتادة خلال شهري يونيو ويوليو من السنة؟!

والحقيقة أن كل هذه التساؤلات الاستنكارية، كانت تبدو منطقية إلى حد بعيد، وكانت فعلا توحي باستحالة وفاء قطر بالتزامها، بتنظيم البطولة في موعدها المقرر، بيد أن ما تبين لاحقا هو أن قطر كانت جاهزة بالإجابة على كل هذه التساؤلات، ولديها خطة كاملة متكاملة، لإنجاز المهمة طبقا للمواعيد التي قطعتها على نفسها أمام الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) إلا أنها تركت العوازل والشامتين، يلوكون في ترديدها، حتى لا يزيد حقدهم عليها، وتعطيلهم لها.. وسريعا جدا مرت الأيام والشهور والسنين، ومع كل يوم يمر، كانت قطر تتقدم خطوة جديدة نحو تحقيق المستحيل، ومع قرب انطلاق البطولة، نجحت في إزالة أكبر عقبة، وحلت أصعب معضلة، وهي عقبة الطقس الحار، حيث نجحت في الحصول على موافقة استثنائية من (الفيفا) بتعديل موعد إقامة البطولة من الصيف إلى الشتاء، هنا شعر العوازل بالخطر، خطر نجاح قطر في التنظيم، خصوصا وهم يرون أن كل الصعوبات التي كانوا يظنون استحالة عبورها، نجحت قطر في اجتيازها، ثم كان الاختبار الأهم والأخطر وقت الانطلاق الرسمي للبطولة، وكانت المفاجأة هي أن حققت قطر نجاحا تنظيميا منقطع النظير، أذهل العالم كله، بل الأعجب من ذلك، هو أن هذه النسخة من البطولة، سجلت حضورا جماهيريا غير مسبوق، قارب على الأربعة ملايين مشجع، دون أن يشعر أحد من مواطني قطر، أو المقيمين بها، أو الضيوف، بأن شيئا تغير في حركة المرور، أو أثر على سيولة الطرق، وكأن قطر في هذه اللحظة تمددت بمساحتها الصغيرة كما يتمدد رحم الأم ويتسع كلما زاد حجم الجنين، فظهرت قطر صاحبة الـ11 ألف كيلو متر تقريبا، وكأنها دولة شاسعة المساحة، ذابت فيها كل هذه الملايين، بل كان اللافت هو أن البطولة بدأت وانتهت دون أن تقع حادثة واحدة تعكر الصفو، لتخرج قطر من المونديال محققة علامة النجاح الكاملة، وصانعة لنفسها مجدا غير مسبوق، ليس على الصعيد الرياضي فحسب، إنما على الصعيد السياسي والمادي والمعنوي..

ساعتها ظننت أن قطر حققت كل ما تحتاجه من نجاح معنوي أثبتت به حضورها القوي إقليميا وقاريا ودوليا، وأنها اكتفت بهذا النجاح، كإنجاز دائم على الصعيد الرياضي أقله، ومن ثم ستفكر في طرق مجالات أخرى، لتبدع وتتألق فيها كما أبدعت وتألقت في المجال الرياضي، إلا أن الحاصل كان غير ذلك، حيث وجدنا قطر لا يزال لديها الكثير من الأفكار التي تريد إنجازها، وفي الرياضة أيضا، فقد علمت مؤخرا بأنها بصدد إنشاء كلية جديدة، في تخصصين نادرين وفريدين، هما التدريب والإدارة الرياضية، وهي الكلية التي ستبدأ نشاطها، اعتبارا من الموسم الدراسي القادم، أي في خريف 2025، كما أعلن ذلك الدكتور إبراهيم الكعبي نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية، والذي أكد على أن إنشاء هذه الكلية يأتي في إطار توجه الدولة الاستراتيجي تجاه الارتقاء بمستوى الرياضة والرياضيين، مشيرا إلى أن الدولة وضعت استراتيجية كاملة للرياضة، نظمت من خلالها العديد من البطولات الكبرى، وأن إدارة الجامعة فكرت في كيفية التخديم على هذه الاستراتيجية، ومن ثم اتخذت تلك الخطوة، بإنشاء الكلية الجديدة..

ولا أخفي سرا إذا ما قلت إن هذه الخطوة أذهلتني، وأصابتني بدهشة كبيرة، فكما أشرت سلفا أنني تصورت أن النجاحات الكبيرة التي حققتها قطر في مجال الرياضة، وتنظيمها لأهم وأكبر الأحداث، مثل نهائيات كأس العالم لكرة القدم، أوصلها لقمة المجد الرياضي الذي كانت تصبو إليه، واعتقدت أنه لن يكون لها طموحات رياضية أخرى، إلا أنها فاجأتنا بهذه الخطوة الفريدة، باستحداث كلية في مجال التدريب والإدارة الرياضية، وهي خطوة تثبت أن طموح هذه الدولة – التي ظلمتها المساحة – أكبر من حدودها الجغرافية، وأوسع من نطاقها القاري، وأن تطلعاتها لتحقيق المزيد من النجاحات، لم تتوقف عند ما حققته من إنجازات رياضية كبيرة، جعلتها الدولة العربية الأشهر في العالم، حيث أن إنشاء كلية للتدريب والإدارة الرياضية، لم يكن بالخطوة العادية، التي يمكن أن نتجاوزها، ونتعامل معها على أنها مجرد فكرة عابرة، هدفها إضافة تخصص أكاديمي جديد بالجامعة، بل إنها خطوة غاية في الأهمية، سيكون لها ما بعدها، فهي تمثل نقلة نوعية في العمل الرياضي، تضع به قطر في مصاف الدول الأوروبية المتقدمة، التي تعرف كيف تمزج بين مواهب وقدرات أبنائها، بالعلم، لا سيما وأن الرياضة لم تعد نشاطا ترفيهيا قائما على “الفهلوة” كما كان في العصور السابقة، إنما أصبحت علم، وصناعة، واستثمار، بل وبيزنس ضخم جدا تٌضخ فيه مليارات الدولارات، وهو بيزنس بات محتاجا للعلم الذي يعرف أصحابه كيف يديرونه ويثمّرونه، وهي خطوة لن يعرف قيمتها وأهميتها إلا العاملون في المجال الرياضي، خصوصا هؤلاء الذين يواجهون المتاعب في الإلمام بالقوانين واللوائح الرياضية التي تحكم العلاقة بين عناصر الرياضات المختلفة، ولا يعرفون فك رموزها وطلاسمها، لأنها قوانين ولوائح قائمة على علوم حديثة، يجب دراستها واستيعابها، وهي علوم تزداد الحاجة إليها في بلادنا العربية تحديدا، بعد أن انتقلت فيها الرياضة – رغم أنوفنا – من الهواية إلى الاحتراف، وأصبح الفكر الاحترافي هو الحاكم للمنظومة الرياضية بأكملها، ومن ثم أصبح على كل عنصر من عناصر هذه المنظومة، أن يلم به، ويفهم قوانينه جيدا، ليعلم ما له وما عليه، وليتفادى به الاشتباك والتخبط، والعشوائية التي تعاني منها أغلب دولنا العربية، منذ أن أجبرتها عجلة التطور على دخول عالم الاحتراف من أوسع أبوابه، ذلك العالم الذي دخلناه دون أن نتهيأ له، أو ندرس قوانينه ولوائحه، بل ودون أن يوجد ما يضبط العلاقة فيه بين الأطراف المتشابكة، وفقا للقواعد المعمول بها في دول العالم المتقدم..

ولعلني هنا أستطيع القول بإن قطر باتخاذها تلك الخطوة المهمة جدا، أصبح لديها فائضا في علم الرياضة كفائضها في الغاز، وهو فائض لن يخدم قطر فحسب، إنما سيخدم الجيران والدول المحيطة بها أيضا، ويخدم كل من طرق بابها للتعلم، ونقل العلم.. فاطلبوا العلم ولو في قطر.

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار