أحمد سعد حمد الله
أيام قليلة تفصلنا عن اكتمال السنة الأولى، للحرب التي يخوضها إخواننا في غزة ضد إسرائيل، تلك الحرب التي اندلعت في السابع من أكتوبر 2023، عقب عملية عسكرية محدودة، قامت بها فصائل حركة حماس العسكرية، ثم قابلتها إسرائيل بمعاونة أمريكا والغرب بحرب إبادة شاملة على أهل غزة، وليس على الفصائل العسكرية، حيث قتلوا إلى الآن نحو 41 ألفا، جلهم من الأطفال والنساء والشيوخ، بواقع تقريبي 17000 طفلا و11000 امرأة و1100 مسن، والباقي بين عسكريين، أو مفقودين تحت الأنقاض!
سنة كاملة، تعني 365 يوما، أي 8760 ساعة، أي 525 ألفا وستمائة دقيقة، أي 31 مليونا و536 ألف ثانية، ولو أني استطعت أن أحولها إلى الجزء من الثانية أو الفيمتو ثانية لفعلت، حيث أن الكوارث الكبرى، والنوازل المدمرة، كالتي يمر بها شعب غزة طوال هذه الفترة، لا يعرف ثقل الزمن فيها، إلا من جربها، وعاش أهوالها، وقاسى آلامها، فكم تعتقد أن يكون طول الثانية الواحدة في حياتك، إذا – لا قدر الله – واجهتك كارثة، أو تعرضت وأنت في بيتك لزلزال عنيف، أو اشتعلت النار في منزلك؟! فلك أن تتخيل أن إخواننا في غزة على مدار سنة بأكملها، يواجهون كل تلك المصائب في وقت واحد، فهم يتعرضون على مدار الساعة إلى ما هو أعنف وأشد من الزلازل، بنسف منازلهم بالقنابل والصواريخ، والنيران لا تأكل منازلهم فقط، إنما تأكل أجسادهم، فكم يكون طول اللحظة هنا؟!
أي كرب هذا؟!
سنة كاملة من حرب الإبادة مرت على إخواننا في غزة، دون أن يأخذوا سِنة من نوم، أو يهنأون بلحظة راحة، أو يعيشون هنيهة أمل، فالكرب على مدار الثانية الواحدة، وحياتهم إذا جاز وصفها بالحياة، بين فرار من القصف، أو اختباء من القتل، أو بحث على أطراف بترتها القنابل، أو جمع لأشلاء مزقتها الصواريخ، أو بحث عن ضحايا دٌفنوا أحياءً تحت أنقاض الخرسانة والحديد المسلح، التي لا أمل في الخروج من بينها، حتى الهدنة الوحيدة التي حصلوا عليها ولم تستمر سوى 96 ساعة فقط، كانوا مشغولين فيها بتشييع ودفن ذويهم!
سنة كاملة يعيشها أهلنا في غزة، بلا طعام، بلا شراب، بلا كساء، بلا مأوى، بلا طبيب، بلا دواء، بلا أمل.. فأي حياة هذه؟!
سنة كاملة من الدعم الأمريكي والأوروبي المادي والعسكري اللامحدود لإسرائيل!
سنة كاملة من تخاذل وتواطؤ الهيئات والمنظمات الدولية والإنسانية، بالتغاضي عن إبادة شعب بأكمله، وتجويعه، وطرده من الأرض!
سنة كاملة، وأنظمتنا الإسلامية والعربية في حالة انسلاخ، من كل قيمها الدينية والأخلاقية والإنسانية، لا تفعل شيئا سوى الفرجة، ولا تمارس عملا سوى الخيانة، المخلصون منهم هم الذين يتفاوضون من أجل توقيع هدنة مؤقتة ليس أكثر، لا إيقاف الحرب، والأندال منهم هم الذين أداروا ظهورهم لغزة، متظاهرين بالعجز وقلة الحيلة عن فعل شيء، فيما الحقراء والخونة منهم فهم الذين يقفون في خندق الصهاينة ويشجعونهم على المزيد من القتل وسفك الدماء، إما بالمزيد من التطبيع، أو بسد المنافذ والمعابر!
شعب عجيب!
تُرى بعد كل هذه الكوارث والأهوال والمؤامرات والخيانات، هل أبدى أهل غزة، كفرا بقضيتهم، أو يأسا من نضالهم، أو قنوطا من مجئ النصر، أو اعتراضا على قدر الله؟ أبدا بل ما يحدث هو العكس، حيث أن ما نشاهده ونسمعه منهم على مدار سنة بأكملها، يكشف أن الحرب لم تزدهم إلا إيمانا بالقضية، وثباتا على الموقف، وصلابة في وجه الصهاينة، وصبرا على المحنة، ورضا بالمكتوب، بل الأهم من كل هذا هو حبهم للشهادة في سبيل الله والذي يبدو أكبر من حبهم للحياة، ترى هذا في زغاريد الثكالى والأرامل، وهم يودعون أبناءهم وأزواجهم الشهداء، وتراه أيضا في رباطة جأش نسائهم، والنساء يعرفن بعواطفهن الجياشة حتى أنهن يبكين في الحزن والفرح على حد سواء، لكن نساء غزة غير أي نساء، فهن يظهرن في أشد المواقف وأصعبها كالجبال الراسيات، ففي حالة فقد الأب أو الابن أو الزوج أو الأخ، تجدهن ينعين ذويهن وهن في قمة الثبات النفسي والعاطفي، تسيل منهن الدموع لكن لا تهزمهن، وإذا أردت أن تتطلع على هذا بنفسك، فعليك أن تراجع تصريحات الزوجة المحتسبة إيناس هنية زوجة الشهيد حازم هنية نجل الشهيد إسماعيل هنية، وهي تتحدث عن زوجها أو والد زوجها، عندها ستعرف أن نساء غزة من تركيبة غير تركيبة باقي البشر، فجل النساء المسلمات، يؤمن بأن الشهيد في سبيل يدخل الجنة بإذن الله، لكن أين هي هذه المرأة التي لديها يقين امرأة غزة، تلك المرأة نراها تبتهج وتزغرد وهي تودع ابنها أو زوجها أو أبيها إلى مثواه الأخير؟!
وللإنصاف فإن هذه الصفات الفريدة لا تقتصر على نساء غزة فقط، بل موجودة وبمستويات أعلى عند رجالها، والنماذج هنا أكثر من أن تحصى أو تعد، لكن أشهرها هو الإعلامي المعروف وائل الدحدوح مراسل قناة الجزيرة، والذي استشهد غالبية أفراد عائلته (زوجته واثنين من الأبناء وحفيد) ومع ذلك ظل يواصل مهمته الصحفية بكل إخلاص وأمانة من منطلق وطني بحت وهو كشف جرائم الصهاينة، ولولا أنه تعرض لإصابات بالغة طالت يده التي يحمل بها الكاميرا والميكروفون ، واستدعت ضرورة خروجه من غزة للعلاج خوفا من بتر يده، لما خرج منها أبدا، ولواصل الجهاد والقتال حتى أخر لحظة، فإما الشهادة وإما النصر!
فهل يكون أهل غزة من نفس نوعية البشر التي نعرفها، أم أنهم من طينة غير طينتنا؟ يجب تحليل الحمض النووي (DNA) لنعرف السر.