د. محمد حسين بزي *
بعد 48 عامًا على رحيله، و34 عامًا على بدء رحلة النشر والقهر مع مؤلفات علي شريعتي (1933-1977م)؛ وفي ظلّ ما تتعرّض له إيران، موطن شريعتي، من عدوان إسرائيلي هذه الأيام، وفي خضمّ ما تعرّض ويتعرّض له أهل فلسطين ولبنان من مجازر إسرائيلية يندى لها جبين الإنسانية، وتحت عيون الديمقراطيات الغربية الزائفة، وشعارات حقوق الإنسان المُضلِّلة؛ حتى أصبحت المنطقة بأكملها على شفير جحيم حرب لا يعلم إلّا الله مآلاتها، ثمّة عَبَرات يجب أن تُنشر بالحبر بعدما نُشر بعضها بالدم؛ وذلك قبل أن نغادر هذه الفانية، كما ثمّة محرّمات على العقل وممنوعات على الفكر، كانت _ولا يزال بعضها_ على ناصية الانتظار؛ وإنّي أرى أنّه قد آن الأوان لتبثّ نجواها، أو نبثّ أساها في الذكرى الثامنة والأربعين لرحيل المعلّم شريعتي.
باختصار لا يخلّ بالنجوى، بدأت قصتي مع شريعتي سنة 1986م. عندما وزّعت “المستشارية الثقافية الإيرانية” في بيروت مطبوعة لشريعتي عنوانها “عليّ.. عليّ”، حملتها إلى بيتنا؛ وألقيتها كما ألقى موسى الصحف، ولم تقع عيني عليها إلاّ عندما زارنا شيخنا.
كنَّا ثلاثة؛ أنا والشيخ وأحد أقاربي، وما إنْ جال الشيخ بنظره الذي وقع على مطبوعة شريعتي حتى انتفض من مجلسه، وانتبهنا إلى جليس رابع أرعب الشيخ وهزّه، وأسال لعاب حنقه، وألمع بريق دهشتي، وحُوِّلت الأنظار إلى تلك النسخة.. إلى علي شريعتي! وهنا، صاح الشيخ: ماذا يفعل شريعتي بـ عليّ؟
قال قريبي: إنّما هي نسخة محمد يا مولانا!
قلتُ: إنّه عليّ بن أبي طالب بقلم علي شريعتي، فما الأمر؟!
صوَّب الشيخ إليّ نظرة لا يفهمها إلّا من كانت نفسه حفنة ريح في فوهة خريف؛ وأردف “علي شريعتي رجل أضلّ فضلّ، فإنْ كنت محبًّا للإمام عليّ فأنا أكفيك الأمر، وأدرأ عنك رزايا هذا المُضلّ يا ولدي”.
وبقدرة قادر تأبط الشيخ كتابي (المطبوعة)، ومضى ملقيًا السلام وهو يمشي إلى الباب، دون أن يشرب الشاي المُعدّ على شرفه، وأنا مصاب بالذهول؛ لكنّني بدأت أفكر وأتفكّر.. وقايستُ ما جرى مع عبارات كنت سمعتها في مجلس أحد السادة العلماء، تتحدّث عن تيارات مُتزمِّتة وأخرى متنوّرة، ولم أكن أدرك كنه كلّ ما أسمع وأنا ابن السادسة عشرة؛ ولكنّه بانتزاعه لكتابي وضعني على طريق آخر يتّصف بالتحدّي، ومُذّاك بدأت أمسك بطرف خيط جميل، وهنا – وأنا الموزّع بين عليّ وشريعته فينا وبين عليّ شريعتي وكتابه علينا؛ ودون أن أصغي لتواليف اللغة بينها أو أجراس البلاغة وأوجه الكناية – أنا الآن أمام اختبار آخر عنوانه: اقرأ باسم الشيخ.
بعد أيّام من مصادرة كتابي قمت بزيارة صديق، رويت له ما جرى مع الشيخ، فاستغرب وتعجّب! وبادرني بنسخة من الكتاب (المُصادر) قائلًا: “بمَا أنّ شريعتي مضلّ ومنحرف فخذ واقرأ له هذا الكتاب أيضًا”، كتاب “الشهادة”، ثم استطرد “إنّ الذي قام بتعريبه ونشره هو الإمام السيّد موسى الصدر عام 1976م. وزوّدني بنص الكلمة التي ألقاها الإمام الصدر في بيروت في أربعينية شريعتي عام 1977م، ودّعتُ صديقي بسرعة لأبدأ رحلة ينبوع من غديرين؛ غدير مع علي وآخر مع الحسين، وليكون الربّان: علي شريعتي.
ومع كتاب الشهادة، بدأت المعاني تتوافد إلى ذهني بغزارة، وبدأت عملية الزحزحة والانزياح؛ زحزحة معانٍ قديمة راسخة، وانزياحها لصالح معانٍ جديدة تحمل وعيًا والتزامًا وعمقًا، فالشهيد شاهد، والشاهد حاضر، والشهود من دون حضور لا قيمة لهم، والشهادة تتويج للحضور الواعي في الأمة، والمؤمن الملتزم؛ أي الشهيد، هو الشاهد على عصره وقضاياه، فكان ممّا قرأت: “مَن لا يكون شاهدًا على عصره، شاهدًا على صراع الحق والباطل في مجتمعه، فلا يهم أنْ يكون واقفًا في محراب العبادة؛ أو جالسًا إلى مائدة الخمر”. عندها فقط عرفت بأنّ الشيخ (الصارم – الصادِم) لم يكن شاهدًا على عصره، وبالتالي فإنّه لن يكون شهيدًا.
وشيئًا فشيئًا؛ بدأت أتوغّل في ثنايا شبكة معرفيّة تؤسّس لوعيٍ متجدّد، ومن ثمَ بدأت أفهم _وأتفهّم_ لماذا كانت المعلّبات الاتهامية جاهزة وحاضرة، وهي غبّ الطلب، وبدأت أستشعر وأحسّ بأصابع السلطوي المستبد الذي يقف خلف تلك التعليبات، وكان قد صدر في بيروت كتاب “النباهة والاستحمار”، الذي أشعل في نفسي نارًا لم يخبُ أوارها حتى كتابة هذه السطور، لقد شدّني العنوان، فالنباهة تقابل الاستحمار، ومَن لم يكن نبيهًا واعيًا متيقظًا فهو من الحمير أو المستحمَرين الذين يستغلّهم أصحاب السلطة والمال ووعّاظ السلاطين (فرعون، قارون، بلعم بن باعوراء)، والاستحمار هو أن نعمل شيئًا ما بالقول أو بالفعل، وبصرف النظر عن قيمته، ثم نترك القضية الأهم!! قضية إنسانية الإنسان وحقوقه وكرامته وحريته المشروعة وعقله.. وحينما ترى ثرواتك تُسلب وتُنهب، ثم تسكت وتحمد الله على كلِّ حال، أو حينما تنظر إلى مصيبة غيرك حتى تهون عليك مصيبتك فاعلم أنك خاضع للاستحمار.
وحينما تدعو الله لينتزع لك حقوقك ولينتقم لك من الظالمين؛ ولكن من دون أن تتحرّك على أرض الواقع، فاعلم بأنّك تستحمِر نفسك بشكل لا تُحسد عليه! والأمر عينه إذا تركت الدفاع عن حقوقك بحجة وجود من هو أقدر منك، فاعلم بأنّك تستحمِر نفسك أيضًا.. وإذا كنت خطيبًا أو كاتبًا، وتقوم بتوعية الناس في شؤون الدين أو الفلسفة وغيرهما، مبتعدًا عمّا يمسّ قضايا الوطن وحقوق المواطنين وكرامتهم، فاعلم أنّك استحماري (الاستحماري: مَن يركب الحمار) ومستحمَر (المستحمَر: مَن يقبل أن يكون حمارًا)، فأنت تركب نفسك وتستحمرها وبالتالي تكون من أصحاب المعارك الوهمية التي تشغل الناس عن قضاياهم الحيويّة.
وإنّ المستعمرين لا يدْعُونك لما تستاء منه دائمًا؛ بل يختارون دعوتك حسب حاجتهم، فيدعونك أحيانًا إلى ما تعتقده أمرًا طيبًا من أجل القضاء على حقّ كبير، حقّ مجتمع أو إنسان، وأحيانًا تُدعى لتنشغل بحقٍّ آخر، فيقضون هم على حقّ آخر هو أولى.
وعندما يشبُّ حريق في بيتك، ويدعوك أحدهم للصلاة والتضرّع إلى الله، ينبغي عليك أن تعلم أنّها دعوة خائن، فكيف الدعوة إلى عمل آخر؟ فالاهتمام بغير إطفاء الحريق، والانصراف عنه إلى عمل آخر، ما هو إلا استحمار، وإن كان عملًا مقدسًا أو غير مقدَّس.
إلى هنا أصبح جليًّا عندي كيف تُصادر العقول وتحنَّط بقالب المقدّس المصلحي، “وأنّ الأصنام لا تنحت نفسها، إنّما ينحتها عشّاق العبودية” بتعبير كليفورد.. وصالت الأيام وجالت حتى دخلتُ عالم النشر من خلال قصة لا تقل استفزازًا عن قصتي مع شريعتي؛ لأجد نفسي أمام وعد خفيّ، وهو نشر مؤلفاته، والعمل على تعريب ما أمكن منها، بهدف إخراجها إلى القارئ العربي بحلّة تليق به، وكثيرًا ما وجدت نفسي أمام كلمة قالها: “آه من قلّة الإمكانات وكثرة المشاغل”، ولكن لطف الله كان أكبر؛ حتى وصلنا إلى تعريب ونشر 35 كتابًا من تراث شريعتي حتى الآن.
وفي ذكراه الـ 48، وبعد كلّ ما تقدّم من “قصتي مع شريعتي”، وما يشهده عالم اليوم من توحّش رأسمالي أمريكي؛ سأترك لشريعتي، وكأنّه كان يرى ويُنظِّر لأيامنا هذه، سأترك له توصيف المشهد الراهن، إذ يقول في كتابه “مع أعزائنا المخاطبين”: “إنّ من الشروط الرئيسية للتقدّم، بكلّ أسف، هو انتشار “الرداءة” على مستوى الوعي والقيم الروحية.. وإنّ تمجيد التقدّم الأمريكي في مجاليّ المال والقوة يُظهر المرء كما لو كان أحمقًا صغير النفس، يُبجّل المتكبّرين وأصحاب النفوذ من أعماق قلبه، ويعتبرهم بشرًا متفوقين، يرى فيهم قوة ميتافيزيقية غامضة؛ وكأنّ العناية الإلهية أو العبقرية الإلهية قد منحتهم مكانتهم تلك.. والسؤال: كيف يمكنكم أنْ تحفظوا أنفسكم من “الأَمركة”؟
في كلّ الأحوال، لستم مضطرين لأنْ تعيشوا في هذه الغابة أو تنزووا في ركن تلك القاعة الأنيقة.. توجّهوا نحو الستائر الفاخرة، صوب ضوء الثريات الباهظة.. وأمّا كيف؟ فيكفي أنْ تلقوا هذه اللفائف البلاستيكية، وخيوط النايلون، والرقائق الورقية، الملقاة عند أقدامكم على هيئة عشبٍ أخضرٍ صناعيّ، وتغرسوا جذوركم في تربة حقيقية.. خذوا بأيديكم حفنات من التراب، ذلك التراب الذي تفوح منه رائحة العشق وكيمياء الشعر ودفء العاطفة ونور الإيمان وعظمة الإنسان وجمال القيم، وذرّوه على أقدامكم..”.
رحم الله شريعتي الذي لم يضحِّ بالحقيقة من أجل المصلحة رغم كلّ العذابات، ورحم الله كلّ الشهداء الذين قلّدوا الموت وسام الحياة، ليكون الإنسان إنسانًا حقيقيًا مقتدرًا كريمًا عزيزًا، ولتكون بلادنا بلاد الحريّة والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ولو كره المتوحشون الجُدد.
*شاعر وروائي لبناني، مدير دار الأمير في بيروت، ناشر أعمال شريعتي باللغة العربية.