البابور الموقع العربي

الإعلام الأردني مرآةٌ مشروخة تعكس أشلاءَ الحقيقة

2٬749

سمير الحجاوي

الإعلام، في جوهرِه، ليس وظيفةً، بل ممارسةٌ معرفيةٌ معقدةٌ تشبهُ العملياتِ الجراحيةَ. وكلُّ خبرٍ هو مشرطٌ، وكلُّ عنوانٍ هو شقٌّ في جسدِ الوعيِ الجمعيِّ للمجتمع. فالإعلامُ عبارةٌ عن جراحةٍ معرفيةٍ، ومن هنا فإنّ أخطاءَ الإعلامِ أخطرُ من أخطاءِ الأطباءِ، لأنّ خطأَ الطبيبِ يُميتُ جسدًا، أما خطأُ الإعلامِ فيُميتُ شعبًا.

دعونا نتحدث عن الإعلام الأردني..

أستطيعُ أن أقولَ إنّ الإعلامَ الأردنيَّ جسدٌ بلا روحٍ، لأنّ معظمَ المؤسساتِ الإعلاميةِ الأردنيةِ، تفتقرُ إلى الروحِ. فهي عبارةٌ عن أجسادٍ بيروقراطيةٍ تتحرّكُ بلا رؤيةٍ واعيةٍ، تقودُها إداراتٌ تمَّ تعيينُها بعيدًا عن الكفاءةِ بل لأسبابٍ أخرى تتعلّقُ بالمحسوبياتِ والولاءاتِ وغيرها، إداراتٌ تهدرُ ميزانياتِها القليلةَ فيما لا ينفعُ الناسَ، بل ولا يروْنَه أصلًا. همُّها الأوحدُ هو إرضاءُ من عيّنها لا أكثر.

القاعدةُ الأولى أنّه لا إعلامَ بلا حريةٍ، ولا حريةَ بلا ثقةٍ، ولا ثقةَ بلا إرادةٍ وقرارٍ. فالإعلامُ الحقيقيُّ الحرُّ الفاعلُ لا يُولدُ من رحمِ الرقابةِ والقيودِ، ولا يترعرعُ في ظلِّ الخوفِ. بل يُولدُ في فضاءِ كاملٍ من الحريةِ، لأنّه يحتاجُ إلى الأوكسجينِ الضروريِّ للحياةِ، فكلُّ كلمةٍ حرّةٍ تتنفسُ أوكسجينَ الحريةِ، وبدونه لا يمكنُ أن تعيشَ.

القاعدةُ الثانيةُ هي أنّ الإعلامَ يحتاجُ إلى المالِ، فالفاقةُ لا تصنعُ إعلامًا مبدعًا ولا إعلاميينَ مبدعينَ، فكيف يُطلبُ من صحفيٍّ أن يُبدعَ وهو يبحثُ عن رغيفِ الخبزِ؟ وكيف يُنتظرُ من كاتبٍ أن يكتبَ ما لا يجرؤ أحدٌ على قولِه، بينما راتبُه لا يكفي ليصلَ عملَه بسيارتِه، هذا إن كان عنده سيارةٌ أصلًا؟

في بيئةٍ كهذه، لا يُولدُ الإبداعُ، بل تموتُ الفكرةُ في رحمِها.

نحن نعرفُ الداءَ: المتمثلَ بغيابِ الحريةِ والإرادةِ والرؤيةِ.

ونعرفُ كذلك أنّ الدواءَ هو توفيرُ: الحريةِ، والكفاءةِ، والمالِ، والاستثمارِ في العقولِ، ووقفِ المحسوبياتِ والولاءاتِ الضيقةِ؟

كلُّنا نعرفُ ذلك، وأصحابُ القرارِ يعرفونَ كذلك، لكنّهم لا يرغبونَ بالإصلاحِ، لأنّ الوضعَ الحاليَّ الراهنَ يعجبُهم، ويناسبُ أمزجتَهم وأهواءَهم..

الحقيقةُ المرّةُ هي أنّهم يرفضونَ العلاجَ، لأنّ الحقائقَ موجعةٌ، وهم ينظرونَ إلى الحقائقِ على أنّها ليست أولويةً، بل خطرٌ يجبُ تطويقُه.

على مدى مسيرتي الإعلاميةِ خلالَ 35 عامًا، أستطيعُ أن أقولَ إنّ وضعَ حريةِ الإعلامِ في الأردنِ كان “أفضلَ نسبيًّا” قبلَ ربعِ قرنٍ، وكنا نملكُ بعضَ الهوامشِ من الحريةِ، وكانت “شقوقُ الحريةِ” تتركُ لنا بعضَ الأوكسجينِ للتنفسِ، أمّا الآن فقد سُدّت الشقوقُ، ولم يعُدْ في الجوِّ الإعلاميِّ، إلا ثانيُ أوكسيدِ الكربونِ. وما لم نصلْ إلى نتيجةٍ أنّ الإعلامَ الذي يرسمُ مصيرَنا ويوجّهُ عقولَنا ويصنعُ وعْيَنا ويقودُ “نهضتَنا”، يحتاجُ إلى الحريةِ، سنظلُّ نراوحُ مكانَنا، وسنبقى في ذيلِ القائمةِ الإعلاميةِ في العالمِ العربيِّ الذي تقودُه الجزيرةُ، وتتفنّنُ بتسييرِه، فالأرقامُ تشيرُ إلى أنّ أكثرَ من اثنينِ وتسعينَ بالمائةِ من العربِ يتابعونَ الجزيرةَ حاليًّا.

أختمُ بالقولِ إنّ “الجزيرةَ ليست معجزةً، بل نتيجةٌ لإرادةٍ.” وإذا كانت معجزةً، وهي كذلك في وجهٍ من الوجوهِ كذلك، فنحن الذين وضعنا لبناتِها العمليةَ الأولى، ونحن الذين أدرنا دفتَها، ونحن الذين صنعنا هياكلَها ووضعنا خططَها، ونحن الذين أسسنا أقسامَ التخطيطِ فيها..

من صنع ذلك كانوا ثُلّةً من شبابِنا، من أصحابِ السبقِ الإعلاميِّ المحليِّ والعالميِّ.. فمِنّا أولُ مذيعٍ وأولُ مديرٍ عامٍّ، وأوائلُ رؤساءِ التحريرِ، ومديرو الإداراتِ، والمشرفونَ والمنتجونَ والصحفيونَ والفنيونَ والمصورونَ والمترجمونَ. إلى جانبِ ثلةٍ طيبةٍ من شبابِنا في العالمِ العربيِّ.

الوضعُ الراهنُ للإعلامِ في الأردنِ محزنٌ تمامًا، لأنّه يعاني من انعدامِ الإرادةِ، ويتمِّ الكلماتِ، وشُحِّ الصورِ، وغيابِ الحقيقةِ، حتى لَكأنَّ الإعلامَ الأردنيَّ صار مرآةً مشروخةً، تعكسُ أشلاءَ الحقيقةِ وبؤسَ الصورةِ.

نعرفُ الداءَ ونعرفُ الدواءَ، ولدينا الأطباءُ.. وما ينقصُ هو القرارُ فقط.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار