جورجيا ميلوني “بطلة” الزعرنة الإيطالية.. من الفاشية إلى البراغماتية الشعبوية
إسرائيلية الهوى.. روضت اليمين الإيطالي تحت جناحها وصنعت نموذجا للهيمنة
“الله.. الوطن.. العائلة”.. صعود جورجا ميلوني زعيمة “إخوان إيطاليا”
البابور العربي – متابعات
في ساعة متأخرة من مساء يوم 25 سبتمبر/أيلول 2022، خطبت جورجا ميلوني أمام حشود مبتهجة في العاصمة الإيطالية لتعلن فوزها كأول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في البلاد.
كانت الدموع تترقرق من عينيها، وترتعش ابتسامة على شفتيها وهي تقول إنها تهدي فوزها إلى “كل من رحلوا واستحقوا رؤية هذه اللحظة”. لم توضح ميلوني من تعني بالضبط، لكن هذا الإهداء المبهم فهمه الكثيرون على أنه إشارة إلى أبطالها من ساسة أقصى اليمين الإيطالي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
انتصار ميلوني، المرأة الرومانية ذات اللكنة المحلية الثقيلة، والأسلوب الشعبوي الفج، والتي كانت تبلغ من العمر 45 عامًا حينها؛ كان تتويجًا لرحلة مثيرة من هامش السياسة الإيطالية إلى قلب المتن فيها، لتتولى أعلى منصب في الجمهورية.
وبينما كان مؤيدوها يهتفون باسمها ويحتفلون بالفوز التاريخي وهم يلوحون بالعلم الإيطالي ثلاثي الألوان، كان المتابعون يراقبون صعودها بتوجس مع إدراكهم للحمولة الأيديولوجية التي تحملها في رأسها.
ميلوني جاءت في وقت كان الكثيرون في القارة العجوز يعتقدون أن تجربة حكمها لإيطاليا -التي لم تنته بعد- ستترك أثرًا عميقًا في قارتهم. يعتبرها البعض وجهًا ناعمًا ممهدًا للفاشية والاستبداد في أوروبا، بينما يعتبرها آخرون امرأة ناجحة على نحو استثنائي استطاعت أن تطور أيديولوجية أقصى اليمين، وأعطت للأفكار اليمينية بريقًا وتوجهًا جديدًا أكثر وسطية وبراغماتية.
كما ينظر إليها البعض بوصفها أحد أكثر الرموز الشعبوية الجديدة في العالم الغربي تأثيرًا، وأن تلك الرموز -وهي على رأسهم- تهدد الديمقراطية الغربية، في حين يراها البعض الآخر صانعة للاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي في بلدها، فضلًا عن أنها جسر التواصل المحتمل بين أوروبا والولايات المتحدة، في عالم تبدو روابطه القديمة معرضة لزلزال غير مسبوق.
لكن، كيف يمكننا فهم صعود ميلوني؟ هل يكفي النظر في السياسة الإيطالية، أم علينا أن ننبش أكثر في شخصية ميلوني نفسها، وتاريخها، ورؤيتها للعالم، بحثًا عما يفسر نجاحها؟
الطفولة الصعبة
لفهم حكم ميلوني وصعودها، يجب أن نتتبع أصولها إلى غارباتيلا، حي العمّال البسيط في روما، حيث تشكلت شخصية السياسية لديها. تتحدث ميلوني عن طفولتها بطريقة “ميلودرامية” تجعلها كشخصية في رواية “البؤساء” لفيكتور هوغو أو رواية “أوليفر تويست” لتشارلز ديكنز، فقد هجر والدها منزل العائلة عندما كانت رضيعة في عامها الأول، وأبحر بعيدًا إلى جزر الكناري ليتزوج مجددا، ولم يعد أبدًا.
بعد ذلك بوقت قصير، دُمر منزلها بعدما احترق جراء شمعة مشتعلة تركتها ميلوني مع شقيقتها الكبرى آريانا. من دون منزل وأب، انتقلت آنا، والدة ميلوني، بالفتاتين إلى شقة متواضعة في حي غارباتيلا الذي يسكن فيه العديد من أصحاب الياقات الزرقاء. هناك عاشت ميلوني مع جدها وجدتها وأمها وأختها في المنزل الذي لم تتجاوز مساحته 45 مترًا، وهناك كانت تنام على سرير قابل للطي مع أختها في ممر المنزل.
أما والدتها آنا، فكانت تتنقل بين العديد من الوظائف، لدرجة أنها كتبت روايات رومانسية تحت أسماء مستعارة للحصول على المال اللازم للإنفاق على ابنتيها. تتذكر ميلوني قضاء الأمسيات على طاولة مطبخ جدتها، وهي الطاولة الوحيدة التي كانت بمثابة مكتب ومكان لتناول الطعام للعائلة. أصبحت هذه النشأة المتواضعة فيما بعد حجر الزاوية في شخصية ميلوني السياسية، التي تطلق على نفسها بفخر لقب “ابنة الشعب” (una figlia del popolo) التي تغلبت على المشقة بـ”الشجاعة والإيمان”.
لم تكن طفولة ميلوني سهلة لأسباب أخرى أيضًا، فقد كانت تعاني من زيادة الوزن أثناء طفولتها، كما أن لهجتها الثقيلة كانت تجذب سخرية الأطفال الآخرين. كتبت ميلوني في مذكراتها تقول إنها شعرت في هذه المرحلة أنها غريبة أو دخيلة على مجتمعها، ما جعلها تطور أدوات دفاعية ومزاجًا متحديًا للعالم، تعتبر أنه جعلها دائما في حاجة لإثبات نفسها، وأن يتقبلها المحيطون بها، خاصة الذكور، لا سيما بسبب نقص الحب والاهتمام الذي نتج عن غياب والدها.
ستُنسج هذه الندوب من الهجر، والتنمر، والمنزل المحطم، في مرحلة التكوين والنشأة، لاحقًا في قصة قائدة تقدم نفسها على أنها المستضعفة التي لا تقهر، والمقاتلة التي لا تتوانى. لكن ميلوني وجدت منفذًا للقتال في السياسة في سن مبكرة للغاية، ففي عام 1992، وبينما كانت في سن 15 من عمرها، وحينما كانت إيطاليا تمر بفترة من الاضطرابات بسبب الاغتيالات التي كانت تنفذها عصابات الجريمة المنظمة (المافيا) ضد المسؤولين ومنهم القضاة، قررت ميلوني الانضمام إلى الفرع المحلي للحركة الاجتماعية الإيطالية، والتي تمثل الفاشية الجديدة في البلاد.
كان خيار ميلوني باعثًا على الدهشة، فلم يكن من المعتاد على أحد قاطني حي غارباتيلا العمالي اليساري أن ينضم إلى حركة يمينية متطرفة. لكن ميلوني، اللامنتمية، التي كانت تبحث عن تنظيم وهوية وقضية تنضم إليها وتتقبلها كما هي! لقد تحدثت نفسها عن ذلك حين فسّرت انضمام العديد إلى الحركة الاجتماعية الإيطالية بأنهم “جاؤوا من ظروف عائلية صعبة” وأنهم “كانوا يبحثون عن الانتماء إلى شيء ما”.
كانت الرفقة التي قدمتها لها الحركة الاجتماعية كافية لجذب ميلوني وجعلها تدرك أنها اختارت الاختيار الصحيح بالانضمام إليها، فرغم قرار الحركة حل نفسها عام 1995 وتأسيس جبهة يمينية جديدة تحمل اسم “التحالف الوطني” منبتة الصلة عن ماضيها الفاشي، استمرت ميلوني في الصعود السياسي خاصة كناشطة طلابية.
“أختار الأم واليمين”
ومع بلوغها سن 19، كانت ميلوني تقود الجناح الطلابي للتحالف الوطني، وتمثله في اتحادات الطلاب التي شكلتها وزارة التعليم الإيطالية، لتلفت انتباه قادة اليمين أكثر وأكثر.
في تلك الأيام، لم تتردد ميلوني في التعبير عن إعجابها بأشد حكام إيطاليا عنفًا في العصر الحديث، ففي مقابلة عام 1996، أشادت ميلوني، وهي متخرجة حديثًا من المدرسة الثانوية، بزعيم إيطاليا الفاشية بينيتو موسوليني أمام الكاميرا، قائلةً إنه “كان سياسيًا جيدًا، بل الأفضل في البلاد خلال الأعوام 50 الماضية”.
سيظل هذا المقطع يطاردها في سنواتها اللاحقة، حيث يروج له خصومها كدليل على نهايتها التي لم تأت أبدًا.
تتجذر صورة ميلوني في تجارب الطفولة والمراهقة تلك وغيرها، فهي دومًا تصور نفسها على أنها الفتاة القادمة من العدم، من حي يساري، لتقاتل المؤسسة المسيطرة المعادية لها. بالطبع، ليست هذه هي الصورة الكاملة لنشأة ميلوني، فأبوها فرانكو جاء من عائلة من الطبقة الوسطى العليا، فجدُّها مخرج سينما وجدّتها ممثلة ومؤدية صوتية. كذلك عاشت أسرتها، قبل انفصال والديها، أو حتى احتراق منزلها، في منطقة كاميلوتشيا الراقية في شمال روما.
لكن هذه الحياة المرفهة اختفت بين عشية وضحاها بعد أن تخلى أبوها عن أسرته وذهب ليؤسس أخرى في جزر الكناري، ليكون لها 4 إخوة غير أشقاء. إذا صدقنا كل تفاصيل رواية ميلوني عن نفسها، فسيكون بإمكاننا تفسير توجهها السياسي باعتباره مجازًا عائليًا أيضًا، فقد كان والدها يساريًا، في حين كانت والدتها متدينة محافظة. وباختيارها اليمين المحافظ، تكون ميلوني قد اختارت رمزيًا الأم المضحية بنفسها والمخلصة لأسرتها، لا الأب الخائن.
إن قصة ميلوني بهذا المعنى تبدو روائية في تفاصيلها، بين الأب الضال الذي اعتُقل عام 1995 في إسبانيا بتهمة تهريب المخدرات وحُكم عليه بالسجن 9 سنوات، في نفس الوقت الذي كانت تبدأ فيه ميلوني مسيرتها السياسية، وبين الأم المحاصَرة بين التزاماتها ومحافظتها الدينية والسياسية، والابنة التي وجدت في اليمين القومي بديلًا عن الأسرة التي فقدتها صغيرة. ولقد انعكس هذا الأمر على مواقفها السياسية بوضوح، فميلوني مخلصة بشدة للمثل الأعلى للعائلة، وهو ما يبدو انعكاسًا مباشرًا لما واجهته في طفولتها.
ترفض ميلوني زواج الشواذ جنسيا، ولا تعترف إلا بشكل واحد للأسرة النووية يقوم على ذكر وأنثى، أب وأم، ولا ينفصل ذلك عن نشأتها في عائلة مفككة كما أشارت هي مرات عدة. ومع ذلك، تصر ميلوني على أنها قد حظيت بطفولة سعيدة مليئة بالحب، وهي تنسب الفضل في ذلك إلى تضحيات والدتها، لكنها تؤكد أيضًا أن المجتمع خارج دائرة أسرتها كان دوما ما يسيء فهمها.
لذلك، فإن حملة ميلوني الانتخابية حملت شعارًا يلخص كل أفكارها: “الله، الوطن، العائلة”. وفي هذا الشعار نرى عناوين معركتها ونضالها ضد هذا الشعور بالاغتراب الاجتماعي، في مهمة للدفاع عن الركائز التقليدية للدين والأسرة والمجتمع، والتي لا يدرك أحد قيمتها أكثر من ميلوني، التي فقدت تلك الركائز كلها منذ طفولتها.
الطريق الطويل إلى قصر كيجي
عرفت ميلوني إيطاليا كبلد يجاهد لإعادة تعريف هويته السياسية بعد سنوات الحرب العالمية الثانية التي كان يلعب فيها دور الشرير. لذلك لم يتقبل الإيطاليون الحركة الاجتماعية التي لم تسع لقطع الصلة بالأيديولوجيا السياسية التي قادت موسوليني إلى التحالف مع هتلر، وبالتالي ظلت الحركة لعقود منبوذة تُمنع من المشاركة الانتخابية. لذلك، في عام 1995، عمد زعيمها جيان فرانكو فيني إلى تحويل الحركة إلى حزب التحالف الوطني في إطار خطته لمحو الإرث الفاشي للحركة.
رأت ميلوني، التي كانت حينها في 18 من عمرها، في فيني معلمًا ومرشدًا، ورأى فيها نجمة صاعدة في اليمين الإيطالي، وهو ما تحقق بالفعل، ففي سن 29، انتُخبت ميلوني للبرلمان لتصبح أصغر أعضائه سنًا، ودفعها فيني دفعًا لتولي مسؤوليات أكبر فيه.
خلال عامين فقط، وفي عام 2008 أصبحت ميلوني أصغر وزيرة تنضم إلى حكومة إيطالية على الإطلاق، بعدما عيّنها سيلفيو برلسكوني وزيرة للشباب وهي بعدُ في سن 31، لتجد الناشطة اليمينية نفسها جالسة على طاولة مجلس الوزراء في واحد من أهم بلدان الاتحاد الأوروبي.
في تلك السنوات، رسخت ميلوني صورتها كشخصية محافظة لكن عصرية ومتحررة من التطرف الذي عرفته الحركة اليمينية في الماضي. بل إن أصواتًا من اليسار أعربت عن تقدير كبير لتلك الشابة الشغوفة التي بدت كما لو كانت تمثل جيلًا جديدًا من الإيطاليين. لم تكن ميلوني اعتذارية أيضًا، فقد تحدثت أن علاقتها هادئة مع الفاشية، باعتبارها فصلًا عابرًا في تاريخ إيطاليا تجاوزته ميلوني كما تجاوزته البلاد. كذلك أدانت ميلوني فاشية موسوليني، وقمعه للديمقراطية ومعاداته لليهود، واعتبرت نفسها محافظة على غرار مارغريت تاتشر في بريطانيا، أو رونالد ريغان في الولايات المتحدة.
لبعض الوقت، بدت ميلوني محافظة هادئة بالفعل، لكن هذا الهدوء في طرح الأفكار لم يدم طويلًا. فمثل معظم حكومات إيطاليا، سقطت حكومة برلسكوني تلك سريعًا عام 2012، وتولت حكومة تكنوقراط المسؤولية برئاسة ماريو مونتي الذي فرض سياسة تقشفية عارضتها ميلوني. كذلك مع الوقت، لم تجد ميلوني في اليمين السائد من تتماهى معه، فقررت الانشقاق عن حزب برلسكوني الذي ضم معظم توجهات اليمين، لتؤسس حزبها الجديد “فراتيلي دي إيطاليا” أو “إخوان إيطاليا”.
كان اسم الحزب رمزيًا، يذكر بكلمات النشيد الوطني الإيطالي، وشعاره رمزي يستخدم الألوان الثلاثة للعلم الإيطالي، وعلى شكل شعلة تشبه كثيرًا الشعلة التي كانت على شعار الحركة الاجتماعية الإيطالية، وهي الشعلة الثلاثية التي ترمز إلى الشعلة الأبدية التي نراها على قبر الدكتاتور موسوليني. عادت ميلوني إلى حيث بدأت، لتستعيد اللحظة الفاشية التي سعى أستاذها فيني إلى محوها.
كان تأسيس حزب “إخوان إيطاليا” بمثابة إعلانٍ عن عودة روح الحركة الاجتماعية الإيطالية، القومية، المحافظة اجتماعيًا، المتشككة في الاتحاد الأوروبي، والمغرقة بالحنين إلى الماضي، وأنها لم تختفِ، بل تنتظر اللحظة المواتية لعودتها. وبذلك، ألقت ميلوني بالمشروع المحافظ الأكثر اعتدالًا الذي سعى إليه التحالف الوطني لصالح النسخة القديمة للحركة الاجتماعية.
ومنذ عام 2013، أعادت ميلوني بناء تيار أقصى اليمين في إيطاليا بجهد مضنٍ ليصبح قوة انتخابية فاعلة. ففي الانتخابات المبكرة التي أجريت في فبراير/شباط 2013، بعد ثلاثة أشهر من تأسيس الحزب الجديد، حصل “إخوان إيطاليا” على 2% من الأصوات، لكن ميلوني استمرت وثابرت بلا كلل لتجتذب إلى حزبها مؤيدي برلسكوني وغيره من قادة اليمين الإيطالي الذين خيبوا الآمال.
لقد شكلت ميلوني في حزبها أيديولوجية مزجت القومية الإيطالية والفخر بالوطن، مع المحافظة الاجتماعية المتجذرة في القيم الكاثوليكية، بالكثير من الحديث عن السيادة الوطنية، ما يعني مناهضة العولمة ومعارضة الاتحاد الأوروبي إذا ما كانت سياساته تفتئت على السياسة الإيطالية، كل ذلك مع تأكيدها على الهوية المسيحية اليهودية لأوروبا، في مقابل الإسلام. تجلى ذلك كله في ساحة سان جيوفاني بالعاصمة روما عام 2019 عندما صرخت ميلوني بكلمات انتشرت مثل النار في الهشيم “أنا جورجا، أنا امرأة، أنا أم، أنا مسيحية”.
كانت ميلوني تصرخ دفاعا عن الشكل الطبيعي للأسرة “ضد أولئك الذين سيطلقون علينا ألقاب أب رقم 1 وأب رقم 2، لا أب وأم”، كما قالت. ورغم أسلوبها الحاد ورسالتها المتحدية للتيار الثقافي السائد الذي جذب عليها السخرية، إلى حد أن منسقي أغاني “دي جي” استخدموا كلماتها في مقطوعات رقص ساخرة، فقد حققت انتشارًا غير متوقع، وتضخّمت شهرتها خارج المجال السياسي، ووصلت رسالتها إلى جماهير جديدة.
دكتاتورة إيطاليا أم زعيمتها المختارة؟
لطالما كانت توصف إيطاليا في التحليلات الاقتصادية أو السياسية بأنها أشبه بالمراهق الضال في القارة، فهي الدولة التي لم تستطع الاستفادة جيدًا من استثمار أموالها، وهي الدولة التي عانت كثيرا من غياب الاستقرار السياسي على نحو استثنائي.
لقد شهدت إيطاليا معدلًا استثنائيًا في تغير حكوماتها بمعدل حكومة كل 11 شهرًا منذ الحرب العالمية الثانية، إذ شهدت البلاد 68 حكومة، وهو أكثر من ضعف عدد الحكومات التي شهدتها ألمانيا وبريطانيا منذ الحرب، ومن ثم حين فازت ميلوني في الانتخابات لم يكن حتى أغلب المتفائلين بها يتوقعون أن تستمر حكومتها مستقرة لأكثر من عامين، كما هو الحال، إذ أصبحت الآن من بين الحكومات الخمس الأطول عمرًا في تاريخ الجمهورية الإيطالية، وهي التي لم تكمل 3 سنوات بعدُ في السلطة.
حين تولت ميلوني الحكم كان الشعب الإيطالي تاريخيًا يمتلك واحدا من أدنى معدلات الثقة بين شعب وأحزاب بلاده في قارة أوروبا، وكانت أغلب التوقعات تنصبّ على أن حكومتها ستلقى نفس مصير الحكومات التي تعاقبت في السنوات السابقة، ولكن يبدو أن القاعدة الشعبية الكبيرة التي اختارتها كانت ترى فيها المخلّصة التي ستخرج إيطاليا من دائرة عدم الاستقرار الأبدية.
وبعد فترة وجيزة للغاية من انتخابها وحزبها، أصدرت شركة “مورنينغ كونسلت” بيانات مؤشرها الشهير الخاص بتتبع شعبية القادة في بلادهم، وقد ظهرت ميلوني في المؤشر بوصفها أكثر قائد يتمتع بشعبية داخل بلده مقارنة ببقية الدول الأوروبية، إذ تمتعت بضعف الشعبية التي تمتع بها الرئيس الفرنسي ماكرون، والمستشار الألماني شولتس آنذاك، وأشاد 49% من الإيطاليين بها وفق المؤشر.
وبعد شهور على حكم ميلوني، تبين أنها في اتجاه تصاعدي، وأنها أبعد ما تكون عن المصير الذي انتظره لها منافسوها، إذ أشارت إحصاءات مركز “بيو” الأميركي للأبحاث في بداية صيف عام 2023 إلى أن 60% من الإيطاليين يحملون وجهة نظر جيدة حول أداء ميلوني، بل إن أداءها الذي وجد قبولًا عند قطاع من الشعب قد دفع وجهة نظر الشعب الإيطالي حول أحزاب اليمين لتصبح أكثر إيجابية مما سبق. فقبل تولي ميلوني، كانت استطلاعات الرأي توضح أن أقل من ثلث الإيطاليين يملكون آراءً جيدة حول الأحزاب اليمينية، وبعد مرور 7 أشهر على حكم ميلوني كانت تلك النسبة تقترب بسرعة من النصف.
ونفس هذا المعنى خلص إليه استطلاع رادار “إس دبليو جي” نهاية عام 2023، فقبيل وصولها إلى رئاسة الوزراء كان أغلبية الإيطاليين ينظرون إلى ميلوني باعتبارها يمينية متشددة، لكن مع نهاية 2023 تغيرت هذه الصورة بشكل جذري، ولم يعد يحتفظ بها سوى أقل من 15% من الإيطاليين، بل إن نسبة قريبة منهم وصفوها بأنها أقرب إلى يسار الوسط من اليمين.
وفي نهاية عام 2024، تلقت ميلوني فوزًا كبيرًا جديدًا عزز من استقرار حكمها في البلاد، إذ فاز حزبها “إخوان إيطاليا” في الانتخابات الأوروبية حاصلًا على 28.8% من الأصوات، بينما لم يحصل الحزب الذي ينافسها “الحزب الديمقراطي” من يسار الوسط إلا على 24.1%. وقد جعلت ميلوني من هذه الانتخابات استفتاء على حكمها، إذ دعت ناخبيها إلى كتابة اسمها على بطاقات الاقتراع، وقد عززت تلك الانتخابات من الشعور العام في إيطاليا بأن ميلوني باقية، وأن حكمها مستقر لفترة ربما تكون طويلة.
وبعيدًا عن الشعبية المباشرة وصعودها وهبوطها، هناك عامل شديد الأهمية لعب دورًا كبيرًا في استقرار حكومة ميلوني كل هذا الوقت، وجعلها تُرى بوصفها سيدة تكسر قاعدة الاستقرار الإيطالية، وهو قدرتها في أغلب الأحيان على إظهار سيادتها على اليمين الإيطالي.
فمنذ بداية حكمها لم تدخر ميلوني وقتًا كي تؤكد أنها زعيمة اليمين الوحيدة وأن حلفاءها لا يعدون كونهم حلفاء وأشقاء صغارا، وقد كان هذا واضحًا حين أظهرت “العين الحمراء” لحليفيها اليمينيين المخضرم برلسكوني الذي كان قد دفع بها إلى الصفوف السياسية الأمامية وهي لم تزل بعدُ شابة، وممثل أقصى اليمين سالفيني، حين اختلفت معهما في التعامل تحديدًا مع الحرب الروسية الأوكرانية، ولم ترضخ لموقفهما السياسي، وبنت السياسة الإيطالية الخارجية في هذا الملف وفق تصورها هي.
كذلك استطاعت ميلوني أن تقضم من شعبية الرجلين لصالح شعبيتها، وتجعل أعدادا أكبر من ذوي الهوى اليميني يقتنعون بأنها الممثل الأفضل لليمين.
باختصار، يمكن القول إن ميلوني -في أغلب الأحيان حتى الآن- استطاعت أن تخضع القوى اليمينية الأصغر منها تحت جناحها، وتوقف طموحات “أشقائها الأصغر” في المكانة عند حدها، بحيث لا يحدث تمرد داخلي في الجناح اليميني يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى الإطاحة بها. كان هذا عاملًا حاسمًا في حفاظها على استقرار حكومتها.
على جانب آخر، استطاعت ميلوني أن تهدئ من روع مخالفيها، إذ لم تقم بإجراءات يبدو معها أن البلاد تتحول جذريًا إلى طريق يميني متطرف أو دكتاتوري أو فاشي. كما تجنبت استخدام اللغة العنصرية التي يتورط قادة اليمين الآخرون في استخدامها وعلى رأسهم ماتيو سالفيني، بل وصل الأمر إلى أن جماعة فاشية خططت لاغتيال ميلوني نهاية العام 2024، وقد قبضت سلطات إنفاذ القانون على 12 فردا منهم.
ولاحقًا، أجبرت ميلوني عددا من شباب حزبها على الاستقالة بعدما ظهروا في مقاطع فيديو سرية يرددون شعارات فاشية وعنصرية، وقالت إن هذا السلوك لا يتوافق مع الخط السياسي لحزبها الذي انتهجته منذ سنوات. وبحسب صحيفة غارديان البريطانية، فإن ميلوني تحيط نفسها بمستشارين أذكياء، ومحافظين في الوقت ذاته، لكنهم أقل تطرفًا بكثير من المحيطين بالساسة الشعبويين حول العالم، مثل هؤلاء الذين يحيطون بالرئيس الأميركي دونالد ترامب.
لكن في المقابل، تمرر ميلوني قوانين ذات صبغة دكتاتورية بحذر شديد، فقد وافقت حكومتها في أبريل/نيسان الماضي على مشروع أمني جديد يشدد العقوبات على من يرتكب الاعتداءات على قوات إنفاذ القانون، ويعزز حماية رجال الأمن بشكل عام، ويسهل عملية إخلاء المباني المأهولة بشكل غير قانوني (عادة ما تكون أماكن مهجورة احتلها الفقراء والمهاجرون ليعيشوا فيها وتقام بها عروض فنية).
ويعد هذا القانون مثيرًا للجدل والاحتجاج بشدة في إيطاليا، وهو بحسب تقرير سابق لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” يمثل تهديدًا حقيقيًا لحقوق الناشطين والمهاجرين، إذ يفرض عقوبات السجن على المتظاهرين الذين يعرقلون المرور، والذين يشاركون في مظاهرات غير مرخصة، كما يجرّم المقاومة السلبية للأوامر والقواعد في السجون ومراكز احتجاز واستقبال المهاجرين.
عملت ميلوني بتأنٍ أيضًا على قمع حرية الصحافة، إذ تختفي بعض الأخبار من وسائل الإعلام السائدة ويستقيل صحفيون في إيطاليا فجأة، ويحتج الاتحاد الوطني للصحافة الإيطالية على ما يراه تراجعًا في حرية الصحافة داخل البلاد. وقد منع المسؤولون التابعون لميلوني في هيئة الإذاعة الإيطالية “راي” عرض مونولوغ مناهض للفاشية كان يذكر حزب ميلوني بأنه جماعة “ما بعد فاشية”، أعدته الصحفية سيرينا بورتوني، التي تعرضت لإجراءات تأديبية وأُلغي برنامجها.
وفي تقرير نشرته “فورين بوليسي” بعنوان “لماذا تحب ميلوني أنطونيو غرامشي؟”، ذكرت المجلة الأميركية أن ميلوني تعلمت من المفكر الماركسي غرامشي، الذي يقع في الضفة المقابلة تمامًا لأفكارها، أهمية مسألة الهيمنة الثقافية والسيطرة على القمم التي تشكل ثقافة المجتمع. ونظرًا لأنها لا تمتلك إمبراطورية إعلامية ضخمة، فقد استعاضت عن ذلك بالتحكم التام في أجهزة الدولة الإعلامية التي باتت تنتقي فقط الأخبار التي تصبّ في مصلحتها وتتجاهل أي خبر ضدها.
وجدير بالذكر أن إيطاليا تراجعت 5 مراكز خلال عام واحد من عهد ميلوني في مؤشر حرية الصحافة العالمي، ودخلت بحسب المؤشر في نفس منطقة المجر المشهورة بمناخها المعادي لحرية الصحافة، كما أن الاتحاد الأوروبي للصحفيين أدان التراجع الإيطالي في حرية الإعلام.
وبحسب أستاذة السياسة الإيطالية بجامعة كولومبيا الأميركية، نادية أوربيناتي، فإن إيطاليا تشهد “تحولًا دكتاتوريًا خلف الابتسامة الأنثوية الرقيقة” لميلوني، فحزبها ينفذ -بحسبها- سياسة هيمنة شاملة على الدولة، خاصة فروع العدالة والأمن في أجهزة الدولة، وقد احتل الحزب المواقع الرئيسية في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، كما تُجرى تعديلات على القوانين بهدف عرقلة وتجريم عمل الصحفيين الاستقصائيين، فضلًا عن محاولات تغيير الدستور ليصبح انتخاب رئيس الوزراء بشكل مباشر.
الاقتصاد سر الصعود وسر الهبوط
خرجت إيطاليا من عام 2024 بأرقام جيدة للغاية تخص أداءها الاقتصادي، وهو الأمر الذي تفاخرت به ميلوني، فالأرقام تؤكد أن الاقتصاد الإيطالي شهد نموا يساوي 5 أضعاف نمو الاقتصاد الألماني، وضعف نمو الاقتصاد الفرنسي، منذ عام 2019 إلى عام 2024، بحسب يورغ كرامر، كبير الاقتصاديين في بنك كومرز “البنك التجاري العالمي بفرانكفورت الألمانية”.
وفي العامين اللذين حكمت فيهما ميلوني، حقق الاقتصاد الإيطالي نموًا فاق معدلات النمو الحالية في منطقة اليورو كلها، كما توسعت البلاد في تصدير المنتجات التصنيعية الهامة، سواء المنتجات التكنولوجية أو السيارات، وانخفضت البطالة وزادت الاستثمارات الخارجية في إيطاليا على نحو ملحوظ.
لقد اتبعت ميلوني منذ توليها السلطة سياسة اقتصادية وسطية حذرة في الإنفاق، والتزمت بالميزانيات الصارمة، وقد جلب لها هذا الثناء من التيار السائد من الاقتصاديين في أوروبا، حتى هؤلاء الذين يعارضونها من حيث المبدأ، فلم يجدوا أن حكومتها اتبعت أي سياسات اقتصادية يمينية راديكالية، أو خطوات متهورة غير محسوبة، فبعد فترة قليلة من حكمها قال زعيم يسار الوسط الإيطالي السابق إنريكو ليتا إن سياسة ميلوني الاقتصادية كانت مفاجأة وأفضل كثيرًا مما توقعه معارضوها.
المصدر: الجزيرة نت