البابور الموقع العربي

أَلا إنَّه لا يَبني البِلادَ إلَّا أَهْلُها

355

اجتاحت العواصفُ والسيول مخيّمات أكثر من مليون نازح سوري على الحدود السورية-التركية منذ أيام فاقتلعت عشرات الخيام ودمَّرت المئات منها وأغرقت معظمها في الماء والوحل، وتركَت الآوين إليها من أطفال ونساء وشيوخ ومَن لا حول لهم ولا قوة من الرجال، نهبَ البرد والجوع والخوف، غارقين في مستنقعات الطّين ويعانون من أشد أنواع البؤس والإهمال والاستهانة بإنسانيتهم. 

سنة بعد سنة تتكرَّر هذه المأساة خلال موسم الشتاء في مخيمات النازحين واللاجئين في هذه المناطق وفي سواها، داخل سوريا وخارجها، حيثما وجدت وتوجد مخيمات ويوجد نازحون ولاجئون.. ورغم الشكوى والمناشدات ونداءات الاستغاثة.. لا أحد ممَّن بيدهم وضع حدٍّ لهذه المعاناة أو التخفيف من وطأتها، هزَّته وتهزّه مأساة أولئك البشر وتجعله يهتم بهم ويواصل الجهد وصولاً إلى حلول ناجعة تنهي ما هم فيه منذ سنوات.
 
لا يصل لأولئك المتروكين في العراء صيفاً وشتاءً مِن المساعدات والإعانات ما يكفي لسد الحد الأدنى من حاجات الإنسان الضرورية، ولا يلقَون وهم في تلك الظروف الصعبة مَن يخفّف مصابهم أو ينقذهم مما هم فيه.. أطفالهم بلا ملابس وبلا مدارس وبلا أدنى عناية، ينتشر الكثيرون منهم في مكبات النفايات يبحثون في القمامة عَمَّا يصلُح للتَّدوير من مواد لكي يبيعوها لمن يشتري، وتكون حصيلة الناجحين منهم والقادرين على الكسب “رُبْعَ دولار” في اليومٍ من طلوع شمسه إلى مغيبها، يقضون ساعاته في سعي منهك بين الأوبئة والقاذورات، حالتهم مزرية تفوق التّصوّر وهم في ذروة الاستهانة بهم وبطفولتهم وعذاباتهم وركضهم وراء لقمة العيش التي عليهم أن يؤمنوها لهم ولمن يعيلونهم من أمهات عاجزات أو إخوة صغار أو أيتامٍ مثلهم.. 

وبعد مَشقة النهار يعود أولئك المنكوبون إلى الخيام ليواجهوا قسوة الطبيعة وسوء العيش وانعدام الأمن والراحة وقلة النوم في الليل، ثم يتجدد لهاثُهم خلف الرغيف نهاراً بعد نهار.. وتدور العجلة وتتكرَّر المأساة يوماً بعد يوم..؟! 

إننا لا نتعرض هنا لمعاناة أطفال سوريين آخرين في مخيمات اللجوء خارج البلاد يتعرضون إضافة إلى ما يتعرض له أمثالهم في مخيمات النزوح خارجها من إهانات وإذلال واستغلال من يتاجرون بهم وإساءات وانتهاكات غير مقبولة بأي شكل من الأشكال، بل نشير إلى ما يهدد الصحة الخاصة والعامة للأطفال هنا وهناك من أمراض جسدية ونفسية، وإلى ما يصدِّره ذلك الوضع للمجتمع من أوبئة ومشكلات وأجيال من المرضى والأميين والجاهلين والضائعين القابلين لأي نوع من أنواع العنف والانحراف والسقوط.. 

هؤلاء الأطفال وأمهاتهم وآباؤهم وذووهم لا يجدون ما يسد رمقهم، ويتعرضون لذل وقسوة لا تُحتمل، ويعيشون في بيئة قاتلة ويعمل الذين يعملون منهم أعمالاً شاقة.. ولهذا كلِّه مردوده السيئ للغاية على الأطفال صحياً ونفسياً واجتماعياً، وعلى ذويهم وعلى المجتمع وسمعة البلاد.. ورغم ذلك لا يوضع لهذه الأوضاع المزرية والممارسات المهينة والنتائج الكارثية حدٌّ، ولا يصلون عندما تُثار قضاياهم وأوضاعهم إلى ما يؤدي إلى وقف المأساة ويحفظ حقوق الأطفال وكرامة الإنسان.

صحيح أن السوريين العائدين، نازحين ولاجئين، لن يجدوا البنية التحتية ولا الخدمات ولا المساعدات ولا الإمكانيات التي يحتاجون إليها لإعادة الإسكان والبناء، لكنهم سيكونون في أوضاع أفضل بكثير من الأوضاع التي هم فيها الآن في المخيمات وأماكن النزوح واللجوء، وسيفعلون شيئاً إيجابياً حتماً يبقى لهم ولوطنهم،

لا تنفتح أمام هؤلاء، صغاراً وكباراً، أبواب عمل ولا يُشرِق في عيونهم أمل بعودة إلى ديارهم التي نزحوا أو هُجِّروا منها بسبب الحرب والإرهاب والاحتلال والرُّعب والظروف الصعبة التي عاشتها وتعيشها سوريا المستَهدَفة منذ عشر سنوات.. ومهما يكن احتمالهم واحتمال الجهات التي تساعدهم فإنهم لن يرتاحوا ولن يريحوا ما داموا في هذا الوضع.. وخير ما يخفف من مآسيهم ومن تبعات وضعهم هذا عليهم وعلى المجتمع ويفتح أمامهم آفاقاً ولو محدودة.. أن يعودوا إلى مدنهم وقراهم وبيوتهم ومزارعهم التي شُرِّدوا منها فيلوذون بما يمكن اللّواذ به من بقايا الأركان والجدران التي كانت بيوتاً، ويبنون ما يمكن بناؤه ويصلحون ما يمكن إصلاحه مما طاله الخراب، ويزرعون حقولهم ويعيشون انتماءهم لوطنهم وأرضهم.. 

صحيح أن السوريين العائدين، نازحين ولاجئين، لن يجدوا البنية التحتية ولا الخدمات ولا المساعدات ولا الإمكانيات التي يحتاجون إليها لإعادة الإسكان والبناء، لكنهم سيكونون في أوضاع أفضل بكثير من الأوضاع التي هم فيها الآن في المخيمات وأماكن النزوح واللجوء، وسيفعلون شيئاً إيجابياً حتماً يبقى لهم ولوطنهم،.. فإذا كنا لأسباب وأسباب لا نستطيع حمايتهم ولا تقديم ما يقيهم ويقينا المصائب والإساءات في مخيمات الداخل والخارج فلنحقق لهم العودة الآمنة وليواجهوا ما يواجهه المواطن السوري في بيئته وبيته من أزمات وصعوبات، فالمعاناة داخل الوطن تبقى أستر وأفضل من المعاناة والامتهان خارجه.. وستؤدي تلك العودة التي لا بد منها عاجلاً أم آجلاً، إلى استثمار جهد ملايين السوريين في إعمار وطنهم “بيوتهم وقراهم ومزارعهم وبلداتهم ومدنهم التي لن يبنيها أحد سواهم” فلا يبني البلاد إلَّا أهلُها.. 

فما الذي يمنع من وضع هذه الأمور، ومنها عودة النازحين واللاجئين السوريين، في قائمة الأولويات وضمن المُلِح من المعالجات، لتصبح بعد التدبير قيد التنفيذ؟! فإن لم يكن ذلك عملاً بأحكام الدستور، وإحقاقاً لحق المواطن في العودة إلى وطنه والعيش فيه بأمن وكرامة فلأسباب إنسانية، فهم بشر قبل كل شيء؟! 

وتبقى كرامة الوطن متداخلة عضوياً مع كرامة المواطن. وستنقلهم تلك العودة من الأعسر إلى الأيسر، وتجعلهم يواجهون ما لا بد من مواجهته من واقع ومسؤوليات هم وكل المواطنين السوريين الذين عاشوا ويعيشون أزمات وظروفاً قاسية وواقعاً أكثر من صعب.. سيواجهون/ سنواجه جميعاً الواقع المؤلم وما لحق ببلدنا من دمار وخراب، وما جرّه ذلك على معظم أبناء شعبنا من ويلات، وأعادنا عشرات السنين إلى الوراء، وكلّف سوريا مئات مليارات الدولارات، وأفقر البلاد والعباد، وبعث الفتنة ونشر الشِّقاق والأحقاد والفساد، وحمَّل الأجيال القادمة أعباء سترزح تحت ثقلها لعقود من الزمن.. فلا بُدَّ مما ليس منه بُدُّ. 

إنَّ صورة الوطن الأعز “سوريا”، وصورة مواطنيه وما يتعرض له الإنسان السوري في أماكن النزوح واللجوء، أمور تقتضي مِنَّا أن نواجهها من دون أدنى تأخير، وأن نواجهها بمسؤولية وطنية وسياسية واجتماعية وأخلاقية وإنسانية



إن ذلك سيقدم للجميع من دون استثناء دروساً وعظات وفرصاً للتصالح والتسامح والتصافي والتعاون وسيشعر كلَّ فرد أنه في وطنه وأن عليه مسؤولية كاملة حياله، فلا خذلان ولا تخاذل ولا تلاوم بل عمل وبناء وأمل في سوريا البلد المنكوب المحاصر المُستَهدَف المنهوب، البلد الذي يستنزفه المحتلون والإرهابيون والفِتْنَويون والمتآمرون والمُتدخِّلون في شؤونه والطامعون بما تبقى من خيراته.. البلد الذي يضاعف شقاء الناس ومصائبهم فيه ما يلْحِقه بهم وبه بعض أبناء جلدتهم وبعض مواطنيهم من قصيري النظر والظالمين والفاسدين والمفسدين وتجار المبادئ والحروب، تجار رغيف الخبز والكِساء، الماء والدواء، الغاز والمحروقات والكهرباء، تجار التهريب والأمن والوباء، و.. و.. كل أولئك الذين تخلوا عن انتمائهم وإنسانيتهم وانتهكوا القوانين والحقوق وكل القيم والمقومات والتقاليد والأعراف والعادات الحَسنة التي كانتها سورية “الشعب الطيب والوطن العزيز”.. 

إنَّ صورة الوطن الأعز “سوريا”، وصورة مواطنيه وما يتعرض له الإنسان السوري في أماكن النزوح واللجوء، أمور تقتضي مِنَّا أن نواجهها من دون أدنى تأخير، وأن نواجهها بمسؤولية وطنية وسياسية واجتماعية وأخلاقية وإنسانية.. ومن المهم أن نقطع الطريق على مَن يُتاجَرون بهذا الوضع، وأن ندرك بواقعية وموضوعية وشجاعة وشهامة بأنهم مِنَّا ونحن منهم فهم سوريون أولاً وأخيراً والوطن للجميع، وأن نضع ذلك وغيره من القضايا والأوضاع والعلاقات في موضعه المناسب إذ لا بد من أن يقبل كلٌ منا الآخر وألَّا نبقى أسرى الكراهية والحقد، وأن نجد حلولاً لأزمة استَفْحَلَت وأَدمتْنا وأهلَكَتنا، وهي أزمة يعمل أعداؤنا والطامعون بنا وبوطننا على أن تستمرَّ وتستمرَّ وتستمر حتى تستنفدَ كلَّ قدراتنا وتُفتِّتنا وتحاصرنا بالتخلف والجهل والعداوة، وتنهي دورنا الوطني والقومي والإنساني..

إنَّ علينا أن نواجه جميعاً الواقع ذاتَه والظروف ذاتها وأن نقوم بالمهام الصعبة والاستحقاقات التي لن يقوم بها أحد غير أبناء البلد ومن أهمها: “بناء الذات ورأب الصدوع الاجتماعية والعلاقات الأخوية، وصون السيادة والاستقلال ووحدة الأرض والشعب، وصنع السياسات الواعية الجامعة المانعة الرادعة، وفهم المواطَنة الحَقَّة وتطبيق العدل والمساواة، واحترام الدستور والقوانين والحقوق والحريات، والتمسك بالقيم والأخلاق والمبادئ والحَسَن من التقاليد والعادات، وإعادة إعمار الوطن والنهوض به والدفاع عنه وتحرير أرضه والمقدسات، والقيام بالمهبة الأصعب “إعادة بناء الإنسان أولاً، إذ لا يُحرر ولا يبني ولا يعيد الإعمار ولا يعدل ولا ينصف، ولا ينهض بالمجتمع والبلاد علمياً ومعرفياً، ولا يرتقي بمستوى التفكير والسلوك والتدبير والعقل والضمير سوى الإنسان”.. 

فهل نحن مبادرون إلى ما فيه إنقاذ وطننا وإنساننا وحياتنا وحياة أجيالنا وخير أمتنا ورفعتها؟ 

أَسألُ اللهَ تعالى أن يهديَنا جميعاً لما فيه الخير، إنه على كل شيء قدير.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار