يزن نعانعة
هذه المرة ليست كسابقاتها، وهذه الجولة ليست كما قبلها، فالأحداث الحالية التي ألقت بظلالها على العالم وجعلت فلسطين مرةً أخرى محورًا للأحداث ومفصلًا أساسيا فيه تختلف تمامًا عن كل ما سبق!
فمدينة القدس تعاني من حركات تهويدية ضخمة ومكثفة منذ سنوات تستهدف تغيير وجه المدينة التاريخي والثقافي والحضاري وتحاول إصباغ المدينة بصبغة دينية يهودية مدفوعة برغباتٍ يمينية يغذيها التيار الحاكم في الكيان الصهيوني ومن خلفه كل جماعات الضغط الاستيطانية المتشددة. هذه الرغبة التي حاولت لسنوات تقييد الأدوار العربية خاصة الإسلامية منها تحت إجراءات أحادية عنصرية، تفتح الباب بعد حين أمام تفريغ القدس من عمقها توازيًا مع اتجاه سياسي يسعى لتغيير المعادلة في القدس الى الأبد – كما يعتقدون-.
ولعلني بهذه الإطلالة على مدينة القدس تحديدًا أردت وضع أرضية مرجعية مهمة حول المدينة بما تشكله من ثقل في طبيعة الصراع العربي الصهيوني، التي اختارت اختارت فصائل المقاومة المحاصَرة في غزة أن تعود من نافذتها الى واجهة الأحداث وعمق التأثير لتنشئ معادلة جديدة تتلخص بالمحاصَر والمحاصِر وما بينهما من معادلة جديدة تقوم على الضرب بالضرب والرعب بالرعب.
فغزة المحاصرة منذ ما يزيد على 13 سنة استطاعت تجاوز حصارها وبنت قدراتها العسكرية بالمعول والفأس واختارت بلحظة يأس وانعدام أمل أن تقفز من نافذة التهدئة الى قلب الأحداث بالقدس وتصنع قمة الأحداث المشتعلة وتساهم بشكل واضح بفك الطوق الصهيوني اليهودي الاستيطاني عن القدس والمرابطين فيها وفي المسجد الأقصى كاستجابة لآلاف الهتافات التي صدحت بها القدس عبر مرابطيها والتي نادت بمدد المقاومة وهتفت لزعيمها محمد الضيف الذي – ربما – بنظرة لطبيعة الهتافات اختار أن يكون اسم العملية العسكرية القائمة ” سيف القدس ” ، كربط بين هتاف المقدسيين الشهير اثناء احتجاجاتهم” حط السيف قبال السيف .. إحنا رجال محمد ضيف ” وبين الاسم الذي أطلقه الضيف على العمليات العسكرية الحالية. هذا التدخل الذي اختارته المقاومة توقيتًا ووسيلة شكل مفاجأة لصناع القرار في الكيان الصهيوني الذين لم يأخذوا تصريحاته التي سبقت بدء العملية على محمل الجد، مع ما تلى ذلك من فرضٍ لشروط عدم التدخل من انسحاب للشرطة الإسرائيلية من داخل المسجد الأقصى وفك الحصار عن المرابطين داخله، سمح للمقاومة أن تتسلل وتتسلسل في تدخلها وتمهد لدخولها على خط القدس بمجموعة إجراءات لم تلتقطها قيادة الكيان الصهيوني، حتى المراقبين نظروا لهذه التصريحات المتتالية على أنها جزء من استعراض سياسي وتهديد تحاول حماس من خلاله خلط الأوراق فقط، لتبدأ المقاومة جولة جديدة هي من حددت طبيعتها وزمانها وفرضت آلية التعامل معها ورسخت سيرها وطريقها. هذا التدخل الذي جعل القدس عنونًا كبيرًا مرة أخرى وربط مسألة القدس بالمقاومة مباشرة وهو ما أربك كل متابع ومراقب قبل صناع القرار أنفسهم في الكيان الصهيوني.
المقاومة استطاعت بهذه الخطوة تشكيل جبهة جديدة أزالت الصدأ عن لمعان المواقف الراسخة والثابتة تجاه فلسطين وفي القلب منها القدس.
هذا التطوّر دفع إلى القول بأن ما سبق هذه الجولة بكل ما ستحمله من نتائج ليس كما قبلها للأسباب التالية:
- دخول المقاومة وجناها المسلح سياسيًا على خط احداث القدس والتأثير بالإجراءات هناك والالتصاق بالحالة الشعبية في القدس قدّمها كمنقذ مما تخططه السلطات الصهيونية، وكلاعب أساسي في كل ما يرتبط بالشأن المقدسي إضافة لترسيخ البعد الديني المرتبط بأهمية المسجد الأقصى والمتماشي تمامًا مع ادبيات الحركة وفكر أنصارها في الداخل والخارج وبالتالي إعادة المقاومة كمؤثر عميق بكل ما يتعلق بالقدس. فبعد ربط التدخل المقاوم بالأقصى وما يتم من إجراءات، ستلعب حركات المقاومة دورًا سياسيا متقدمًا يرتبط بوضع القدس والأماكن المقدسة وهذا ما سيدفع الى تقارب تدريجي مع الأردن تحديدًا خصوصا وأن هناك تقاطعًا مع الموقف الأردني الرسمي الذي يتم إبرازه بزخم شعبي الآن رافضٍ لأي إجراءات تغييرية تتعلق بالقدس أو المقدسات أو ديموغرافيا المدينة المقدسة.
- عودة التكتل الفلسطيني موحدًا شعبيًا، فبعد أكثر من 70 عامًا من تقطيع الجسم الفلسطيني وفصله جغرافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، ساهمت هذه الجولة بإعادة الصوت الفلسطيني في الداخل المحتل المتمسك بأرضه عربية إسلامية فلسطينية باحتجاجات هي الأكبر ربما في تاريخ الصراع التي يقوم بها فلسطينيو (الخط الأخضر أو 48 ) والتي تدل يقينًا على أن كل محاولات فصلهم عن عمقهم العربي الإسلامي باءت بالفشل بل انفجرت بالداخل الصهيوني كعنصر إضافي ضاغط من جهة، ومن جهة أخرى فعودة مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية الى الاحتجاج وتقاطع اصواتها مع أصوات المقدسيين وفلسطينيي الداخل يشكل حجرًا ثالثًا في قاعدة الوعي الجمعي الفلسطيني الذي يعود للتشكل سريعًا ضمن اطار يؤمن أن تحرير فلسطين حقّ والسعي لذلك واجب والمقاومة هي الطريق. وهذا ما حيّد أجهزة أمن السلطة بكل ما تحمله من إرثٍ تنسيقي مع الكيان الصهيوني بل جعل الجميع أمام حالة من رفع اليد التي لم ولن تستطيع أن تقف أمام هذا المد الشعبي التحريري الضاغط الذي أدرك عمقه ووحد موقفه ويريد التعبير عن ذلك صراحة وبلا وجل. وهذا كله يتشكل دون اغفال النظر عن طبيعة الحركات الاحتجاجية المتصاعدة وأماكنها بدءً من اللد وأم الفحم الى الخليل ورام الله وجنين ونابلس وفي القلب منها القدس، يحركها جميعها موقف غزة التقدميّ. وهذا باعتقادي تشكيل جديد للوعي الجمعي الفلسطيني لم يسبق أن طفى الى السطح بهذه القوة والزخم منذ زمن طويل.
- تحييد أدوار وأدوات أصحاب الخطط الابراهيمية وحلف ترامب وسياساته وعودة النقاط السياسية عمليًا الى ما قبل ترامب، فإدارة بايدن سارعت الى التأكيد على ضرورة حل الدولتين في إطار شراكة دولية، وتحاول إعادة التعامل مع مسألة القدس ضمن قضايا الحل النهائي وغيرها من التغيرات في الموقف الأمريكي والدولي بشأن عام إضافة لأدوار أكبر تحاول أن تحوزها كلٌّ من الصين وروسيا كوسيط أو مشارك بصياغة نظرة دولية مختلفة للقضية الفلسطينية. من جهة أخرى فإن فشل المراهنات على التطبيع واتفاقياته التي لم تقدم أملًا للكيان الصهيوني في الخروج من أزماته الوجودية السابقة عطفًا على ما طرأ الآن يجعل الأصوات الرسمية المطبعة في الركن المظلم من الأحداث لاستشعارها الحرج أولًا، ولارتباكها وعدم قدرتها على قراءة الأحداث بعد أن خُلِطت الأوراق جميعها وتبعثرت وذهبت كل الخطط أدراج الرياح. لذا فكل من بنى مواقفه على صفقة القرن وما تلاها من أحداث أو تماشى معها وجد نفسه اليوم خارج التطورات المتسارعة ولا يستطيع أن يعطي لنفسه صفة مراقب أو شريك، فالأدوار السياسية الحالية المرتبطة بالتطورات الجارية تقودها قطر وتركيا وتونس والأردن.
- تراجع أدوار السلطة الوطنية الفلسطينية سياسيًا وشعبيًا، فبعد الصمت الطوعي أو ربما الجبري الذي اختاره الرئيس الفلسطيني لأيام لاستجلاء الموقف أعقبه بخطاب لذر الرمد في العيون بعد أن فاته قطار اللحظة أصبح الرئيس الفلسطيني خارج المسألة تمامًا في الوقت الراهن. فالتنازلات التي قدمها عباس على مدى عقود لم تشفع له لكبح فجاجة الاستيطان والتهويد في القدس وشرذمة حلم الدولة الفلسطينية المأمول. والتدخل الذي قادته الحركات المقاومة عسكريًا جعله خارج اللحظة تمامًا ووضعه في سياق زمني آخر حاول بخطابه أن يضع نفسه بآخر عربة في قطار الأزمة علّه يجد مكانًا في خطوط الاتصال المتشابكة المفتوحة بين الأطراف التي تسعى لقيادة جهود تثمر تهدئةً عسكرية. ومن طرف آخر فمنافسه السياسي حاز اجماعًا شعبيا وحصد نتائج استفتاء وطني تُسمع نتائجه في صياحات المتظاهرين في المناطق التي تسيطر على السلطة نفسها.
- تراجع الأصوات التطبيعية وإعادة تموضع حركات المقاومة المسلحة في الوجدان سيكون له اثار ناجزة في العقل الجمعي العربي، فالصور القاسية المؤلمة لجرائم الاحتلال والهتافات العنصرية التي ترشح من الداخل الصهيوني ضد العرب عامة أجبرت وستجبر الأصوات المنادية بالتطبيع على خفض أصواتها مرحليًا ولن تعود كما كانت مستقبلًا، إضافة لذلك فإنجازات المقاومة العسكرية وقدرتها وكفاءتها العالية ستعيد للعقل الجمعي ايمانه بالسلاح بدلًا من الاستسلام ويقينه بالنصر بدل التطبيع.
- اعادة تموضع القضية الفلسطينية كقضية محورية مركزية جامعة يتنفسها العالم وتؤثر في السياسة العالمية كآخر وأهم حدث كوني يحوز هذا الاهتمام العالمي البالغ، يساعد بذلك أدوار بارزة لوسائل التواصل الاجتماعي كأدوات تساهم برسم الصورة المتجددة للقضية الفلسطينية وتعيد إبرازها. فالأدوار الإيجابية للمؤثرين في القدس إضافة لحركات الانحياز الجماعي للحق الفلسطيني من المشاهير والمؤثرين حول العالم وما يرافق ذلك من اطلالة على الواقع الفلسطيني وتعرية للسلوك الصهيوني العنصري الاجرامي سيساهم ولو بجزء، بإعادة احياء الحق الفلسطيني “الواضح” مع ما تمارسه سلطات الكيان الصهيوني من ضغط على إدارات وسائل التواصل الاجتماعي للحدّ من وصول المحتوى المبرز لجرائم الاحتلال او المتعاطف معه الى الجمهور العالمي. ومع ذلك سيطرأ تغير في سياسات وسائل التواصل الاجتماعي شيئًا فشئيًا خلال المستقبل القريب مع هذا الاندفاع الشعبي لتبني الرؤى الجمعية المنادية والمتعاطفة مع الحق العربي في فلسطين.
- عودة الحركات الاحتجاجية المتضامنة مع فلسطين الى الشارع العربي ستقود للمساهمة في ترسيخ ضرورة المقاومة كخيار استراتيجي من جهة، ومن الجهة الأخرى ستعيد الدعم الشعبي بكل أنواعه الى أهل فلسطين وهو ما خفت تدريجيًا خلال السنوات القليلة الماضية.
بكل ما سبق سيُرسم للقضية الفلسطينية شكل جديد ونسق جديد لن يكون كما قبله، وهذا ما سيؤدي لانزياحات في المواقف العربية والدولية وربما إعادة رسم التحالفات الإقليمية ضمن محيط ملتهب مركزه فلسطين وبقلبه القدس كمشعل دائم للصراع.
ختامًا وإن كنت أرى ذلك كله، غير أنني أقول إن هذه الجولة إن لم تقدم غير إعادة فلسطين الى قلب كل عربي موحَّدة على هدف وامل واحد فكفاها. هذا التقدم يشكل ربع خطوة نحو تحرير فلسطين التي لا يفصلها عن التحرير سوى خطوة واحدة فقط. فتخيل قبل أعوام أن أحدًا أخبرنا أن سماء فلسطين ستكون محررة بالكامل من الاحتلال من كان سيصدق!
منذ أكثر من يومين تحررت سماء فلسطين كاملة من الاحتلال وما بين السماء والأرض ثلاثة أرباع الخطوة ” يرونها بعيدة ونراها قريبة “.