مؤيد اسكيف
دقت صحيفة التايمز ناقوس خطر ندرة المياه في سوريا، وقد عنونت بأن حروب المياه هي المأساة السورية القادمة. وبالرغم من أن ناقوس الخطر هذا تم قرعه من قبل صحف أخرى ومنذ سنوات، بل منذ عقود خلت، وطالما حذرت منه مراكز دراسات وأبحاث محلية وعربية وعالمية، إلا أن الاستمرار في دقه ضرورة ملحة، وهو واجب أخلاقي وإنساني، بل وديني أيضا على اعتبار أن “القارعون” يسعون لإحياء النفس، كما يسعون ليحيوها جميعا”.
لا تنحصر كارثة الجفاف بمناطق شمال شرق سوريا وشرقها بحسب ماجاء في تقرير التايمز، بل إن الشمال الغربي لسوريا والمعروف بوفرة أمطاره – كون أن تلك المنطقة من مناطق الاستقرار الأولى مطريا- بدأ يعاني بالفعل من ندرة الأمطار، هبوط معدلاتها السنوية، جفاف بعض الينابيع التاريخية .،جفاف السدود كسد الدويسات، وهبوط حاد بمستوى المياه الجوفية.
وما جفاف نهر الخابور في الشمال الشرقي إلا بداية لمأساة جديدة قادمة لجفاف نهر العاصي”شمال غرب”، وبالفعل فإن مياه النهر بدأت تشح، تدني في مستوى الجريان، تحول في بعض المناطق إلى مستنقعات، وتدني غير مسبوق في مستوى تدفق الينابيع التي ينبع منها في لبنان، ولولا مياه نبع عين الزرقاء التي تصب فيه شمال جسر الشغور لجف النهر تماما، ومع ذلك فإن مياه هذا النبع الذي كان أكثر غزارة في الماضي تبعا للمشاهدة العينية، صار أقل غزارة، وهو مهدد بأن تتدنى غزارته إلى حدود مخيفة قد يجف النبع معها في المستقبل القريب.
لا تشذ سوريا فيما تتعرض له من تغير مناخي حاد والندرة في هطول الأمطار وغيرها من أعراض التصحر، عما يحصل في محيطها في المنطقة والعالم، ففي تركيا وفي نهاية صيف هذا العام أعلن عن جفاف شلال “أوجارسو” في أنطاليا لأول مرة في تاريخه، وفي اسكندرون عاد شلال لمجراه بعد انقطاع.
وفي الأردن تشي صور السدود الفارغة من محتواها المائي بالكارثة القادمة والتي ستكون صورها واستطالاتها أكبر مما يتخيله الجميع.
أما في الجزائر، فتراهن السلطات المتخصصة على أمطار هذا الموسم المأمول هطولها كي تمتلأ السدود التي نالت منها أعراض الجفاف، وفي المغرب، يكافح نهر ملوية للوصول إلى مصبه، لكن مياه البحر غزت مجراه وحولته لمستنقع ملحي بطول خمسة عشر كيلو متر بعد أن عجز عن بلوغ هدفه التاريخي للوصول إلى المحيط للمرة الأولى.
لم تلق الأنظمة العربية بالا لكل النداءات التي حذرت من خطر هذه الكارثة، بل تمادت في إهمالها للأمن البيئي، والزراعي، والغذائي، رغم أن معالم الكارثة قد أعلنت عن نفسها منذ عقود. و يمكن القول أن بعض الأنظمة كحال النظام السوري، أمعنت في تدمير البيئة وكل ما من شأنه حمايتها. أتاح الفساد في سوريا فرصة تقييد جرائم حرائق الغابات والتعدي على الأملاك الحراجية بقصد استثمارها زراعيا ضد مجهول، واتبعت سياسات استخدام جائر للمياه الجوفية، التعدي على أحواض الينابيع بالآبار الكثيرة، عدم القيام بحملات تشجير على المستوى الوطني، عدم نشر الوعي البيئي وغير ذلك من إهمال يبدو أنه مقصود للمسألة البيئية، هذا قبل الحرب، فما بالنا بما حصل من تدمير منهجي تعرض له الغطاء الأخضر في سوريا خلال سنوات الحرب؟! .
يمكن للناظر إلى خرائط جوجل أن يقارن بسهولة من خلال التسلسل الزمني للصور كيف تم التعدي على اللون الأخضر في مختلف المناطق، كما يمكن للذاكرة التي مازالت تحتفظ بمناظر الغابات و الأحراج أن تقول الكثير عما حل بتلك الأماكن التي صارت جرداء، لتتسق صورة هذا الواقع الذي نعيش مع شعار الأسد في تخييرنا بينه أو بين أن يحرق البلد، وذلك بعد سنوات من تحويل نهر بردى عصب دمشق وغوطتها إلى مستنقع للمياه الآسنة التي غطت برائحتها أجواء مدينة دمشق وصارت تلك الرائحة أحد علامات المدينة البارزة. وهذا ما حل بتوأم بردى نهر قويق الذي يخترق مدينة حلب، لاقي هذا النهر ذات المصير.
نعم علينا توزيع المسؤوليات، ولكل الأطراف، فمجتمعاتنا المحلية أيضا مسؤولة عما آل إليه الحال، تم التعامل مع البيئة بعدوانية، قُطعت وحُرقت الغابات، تم اقتلاع جذورها، تحولت تلال وجبال إلى كتل صخرية صماء لن تتمكن قطرات المطر من الثبات على قممها وسفوحها لرفد المياه الجوفية، لاشيء يصدها، وستجرف معها ما تبقى من تراب على شكل سيول جارفة إلى السهول المجاورة، لقد تغيرت طبوغرافية السفوح و التلال ومعالمها، والعامل البشري كان طرفا في عمليات استصلاح زراعي بشكل بدائي وغير مدروس رافق ذلك قطعا جائرا للأشجار، وهذه وصفة لتكمل الطبيعة العمياء عملها في ظل هذه التغيرات المناخية الحادة.
تم استهلاك المياه الجوفية، وحفرت الآبار بكثافة في حوض الينابيع التي ترفد الأنهار وتم تجريد الأجيال القادمة من احتياجاتها المائية بعد هذا الاستنزاف القاسي.
من الصعب التحدث في مقال عن الكارثة ومظاهرها وتجلياتها ولكن يمكن القول بأن شعوبنا مطالبة بالعمل بشكل جماعي، والعمل على وضع استراتيجيات للضغط على حكوماتها و”سلطاتها المحلية في الحالة السورية ” باتباع سياسات بيئية إسعافية وتتبعها سياسات استدامة عاجلة، للتخفيف السريع من مخاطر الكارثة أولا، وللتمكن من مواجهتها بنجاعة ثانيا، و أي سياسات وخطط تستثني نشر الوعي البيئي، والمسؤولية البيئية وتحفيز المجتمعات المحلية على القيام بمسؤولياتها لن يكتب لها النجاح..
إن الكارثة تحل علينا الآن، وهذه مساهمة متواضعة في قرع ناقوس الخطر فهل من يدق معنا هذا الناقوس؟ و هل من يستجب لهذا النداء قبل أن تعلن حروب المياه عن نفسها في القريب العاجل، ولا نجد لا نحن ولا أحفادنا قطرة ماء؟!
صفحة الكاتب على تويتر: @moayadskaif
