د. أحمد موفق زيدان
في بلادنا المستبدة يُستغل المواطن حتى وهو يلفظ أنفاسه، ما دام في رمقه الأخير ما يمنحُ الحاكمَ نسغ حياة ولو لثوانٍ، أتذكر مشهد امرأة سبعينية في عمرها على أطراف دمشق، بعد أن قصف النظام بلدتها، فأُصيبت بجراح خطيرة، وقبل أن تُودع ما أُصطلح عليه حياة، هرعت مندوبة التلفزيون السوري لتقف بجانبها وتسألها عن الإرهابيين والمسلحين والتدخلات الخارجية ودورهم في مأساتها، لم تستطع المسكينة بالطبع الردّ على هذه الأسئلة، وهي التي كانت تصارع الموت، ففاضت روحها بين كاميرا الصحافية.
اليوم نرى استغلال اللاجئين، ليس على أطراف دمشق وحلب وحمص وحماة وإدلب وغيرها، بعد أن غدت أعجاز نخل خاوية، إثر تشريد أكثر من 14 مليون سوري منها، وإنما نرى استغلال اللاجئين، وبعضهم مجندون من قبل النظام ذاته للاتجار بهم في لعبة جيوسياسية على حدود أوروبا هذه المرة، لتقديم ذخيرة حية لحروب روسيا وبيلاروسيا مع أوروبا.
كشفت التقارير الاستخباراتية الغربية عن تورط النظام السوري في تجنيد شركات سياحية لـ بيلاروسيا في شحن لاجئين من دمشق، وزاد العبء عليها بعد توقف بغداد عن ذلك في أغسطس الماضي لاعتراض دول أوروبية على ذلك، حيث كان اللاجئون يسافرون بتأشيرات من سفارة بيلاروسيا إلى مينسك ومنها يتجهون لحدود بولندا لقرع أبواب أوروبا، ودخلت بيروت على الخط بحسب تقارير غربية إذ يتم تجنيد لاجئين وسفرهم على متن خطوط أجنحة الشام المملوكة لـ رامي مخلوف ابن خال رئيس النظام السوري بشار، العلاقة بين عائلة آل الأسد وبيلاروسيا قديمة، فالأخيرة هي التي رحبت وساعدت على هروب رفعت الأسد عم بشار الأسد من القضاء الفرنسي أخيراً، وكذلك تحتضن خاله حافظ مخلوف منذ سنوات، ويبدو أنها تقوم بمساعدتها في شحن لاجئين أملاً في الضغط على أوروبا التي تفرض عليها عقوبات اقتصادية، ويظن لوكاشينكو من خلال هذه اللعبة أنه يستطيع فكّ ورفع العقوبات الأوربية المفروضة على بلاده.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يسعى إلى الاستثمار في قنبلة اللاجئين عبر الضغط على أوروبا، وانتزاع تنازلات منها في مناطق أخرى، ولذا فقد صعّدت لندن أخيراً من لهجتها ضد روسيا وطالبت الاتحاد الأوروبي بمواقف أكثر صرامة، ووصل الأمر إلى تلميح وزيرة الخارجية إلى الاستعداد للحرب مع روسيا، وأن ما يجري اليوم لم نشهد خطورته لعقود، لكن وزير خارجية روسيا لافروف سعى إلى ابتزاز أوروبا بمطالبتها بدفع خمسة مليارات دولار لمينسك كما فعلت حسب قوله مع تركيا في مساعدة اللاجئين السوريين.
ويخال الروسي أن ما فعله عام 2016 مع فنلندا حين دفع باللاجئين على حدودها فأجبرها على رفع تجميد علاقات اقتصادية معه كرد على اجتياحه أوكرانيا عام 2014، لكن يبدو أن أوروبا اليوم ليست مستعدة لقبول الابتزاز، لاسيما وأن الأمر متعلق بألمانيا كدولة متضررة مباشرة من قنبلة اللاجئين ولذا فقد أرسلت مع بريطانيا قوات لهما إلى بولندا لمواجهة احتمالية تدفق اللاجئين، خصوصاً وأن التقارير الغربية تتحدث عن أن البوليس والجيش البيلاروسي يطلق غازات مسيلة للدموع لإرغام اللاجئين المتكدسين على الحدود لاجتياز الحواجز باتجاه بولندا.
قنبلة اللاجئين صاعقها في دمشق وعواصم عربية موالية لها، وما لم يتم نزع هذه الصواعق بمعالجة الجروح المتقرّحة، ستكون جروح عدوى لما بعدها، وها نحن نرى ذلك بانتقال عدواها من اللاجئين إلى حدود أوروبا، فكما وصف خبير بريطاني ذلك: (الغرب اليوم سقفٌ يتسرّب الماءُ منه، والروس يحاولون النفاذ من خلال هذه التشققات) فما نشهده اليوم غرب ليس كغرب قبل عقد أو عقدين، فالخلافات التي نشبت بين فرنسا وبريطانيا، وبين فرنسا واستراليا ثم بين فرنسا وأمريكا، ونرى تداعيات انسحاب الأخيرة من أفغانستان، وعجزها عن التعاطي مع مشاكل ضاغطة عليها، وخلافها في الصراع مع روسيا والصين، كل هذا شكل حالة شلل حقيقي للغرب وتحركاته، وفضلاً عن ذلك انقلابات عسكرية متتالية في أفريقيا، مما يعكس تراجع القيم الديمقراطية الغربية، بل وقبوله بأنظمة استبدادية تدعمها موسكو المتمددة في الساحة العربية على حساب تراجع نموذج الغرب، الذي غدا أقرب للنموذج الروسي في الحكم بعد أن تعايش مع أنظمة موالية لموسكو وربما فاقها في التحالف معها.
المصدر: الشرق