د. رامي أبو شهاب
في قصيدة للشاعر الإنكليزي الأمريكي ت. س. إليوت اختزال شعري لمآلات الخراب، وصوره التي وسمت العالم بعد الحرب العالمية الأولى، وهنا نذكر أن هذه القصيدة التي جاءت بعنوان «الأرض اليباب» The Wasteland – ونشرت عام 1922 – أثارت الكثير من أطياف الدلالات بمرجعيات متعددة، ولكنها اختزلت أيضاً الكثير من الأسئلة التي تنطوي على رؤية عميقة لواقع الإنسان على المستويين: الفردي والجمعي.
لا تبدو لنا القصيدة سوى سؤال فلسفي صارخ يتعلق برؤية العالم الذي يعد نتاج مرحلة الحداثة، والثورة الصناعية، وقيمها، فبدت القصيدة رثاء كونياً للغرب، وللإنسان عينه، فالقصيدة ارتبطت ارتباطاً واضحاً بالذات، وتشوهها، وهنا يُستدعى في هذا السياق معضلتنا الحضارية في أوطان باتت تضيق على الإنسان، وهنا تبدو الإشارة فلسفية… فهل نحن من نضيق بها؟ أم هي التي باتت تضيق بنا، غير أن المنطق يرى أن نبرئ الجغرافية من اللوم، غير أن معظمنا يلقي اللوم عليها لأنها احتوتنا.
ربما هي مفارقة تبدو أقرب إلى عبثية غير مقصودة، ولكنها تبدو على أقل تقدير جزءاً من مسودة خطاب الأوطان، فحين يبدأ إليوت قصيدته يبدأ بالحدث عن شهر إبريل/نيسان، عن ذلك الربيع الذي يبدو في تكويناته جزءاً من غواية الزمن، فالربيع في القصيدة من أقسى الشهور، لأنه يخرج الليلك من الأرض الموات، ويمزج الذكرى بالرغبة، كما يحرك خامل الجذور.. هكذا تبدو الانطلاقة من الحياة نحو الموت والأفول، أليس من العبثية أن يكون الربيع العربي معبراً للموت والدمار والخراب؟ وأن يكون الأمل المنتظر جزءاً من دورة الموت الحتمية للحياة، ما يحاكي محكيّة الأسطورة، وتتابع الفصول، وصولاً إلى نهاية ما، ولكن يبدو السؤال الأكثر أهمية ألم يطل بنا الانتظار أكثر مما نتوقع لربيع حقيقي؟
قبل أيام قرأت خبرين قد يبدوان للكثيرين عابرين، غير أنهما جاءا باعثين على الإحساس بهول المعضلة، أو لعلهما قد حملاً قدراً غير مسبوق من تأمل يتصل بفيض من جنون لا متوقع نعلق فيه، كيف يمكن أن نتجاوز هذا المأزق في أن نجعل الأوطان أمكنة قابلة للحياة… ينص الخبر الأول، وهو تقرير صادر عن إحدى المنظمات العالمية يقول إن 85% من النزاعات في العالم تقع في منطقة الشرق الأوسط، أو في المنطقة العربية، في حين أن الخبر الثاني يقول إن الحرب في سوريا، كلفت أكثر من 400 مليار دولار، وفي مقولة أخرى 700 مليار دولار، ولنا أن نتأمل موقفنا إزاء هذين الخبرين، في البحث عن عوامل هذا الاضطراب الذي يزيد عن المتوقع لأي أمة من الأمم، فكيف يمكن أن نفسر هذا البذخ في القتل، في حين نمارس التقتير الهائل على التنمية.
لا أعتقد أن ثمة موقفاً يعبر عن ذلك سوى ذلك العمى بأنواعه: القيمي والمنطقي، ما يقودنا إلى البحث عن أفضل الطرق للخلاص من هذا المصير، مع جملة من الأسئلة التي تتعلق بالكيفية. فهل ثمة عوائق تحول دون ذلك في عقول ما فتئت تستجلب الموت والدمار!
لا أعتقد أن ثمة موقفاً يعبر عن ذلك سوى ذلك العمى بأنواعه: القيمي والمنطقي، ما يقودنا إلى البحث عن أفضل الطرق للخلاص من هذا المصير، مع جملة من الأسئلة التي تتعلق بالكيفية. فهل ثمة عوائق تحول دون ذلك في عقول ما فتئت تستجلب الموت والدمار! كما يمكن أن نضيف إلى ما سبق جملة الحروب والنزاعات التي تقع في الوطن العربي، الذي يبدو قائماً في كوكب منعزل عن العالم، ولاسيما من حيث تلاشي قيم التنمية والعدالة، وسائر مقولات الديمقراطية، ما يعني أن الإنسان العربي يبدو هامشياً في تمكين القيمة الحقيقية للوجود الإنساني؛ ربما لأنه ما زال يمارس محاولة العيش، أو محاولة البحث عن قيمة وجوده، حيث تفنى شعوب بأكملها لأجل نظام هنا، أو أيديولوجية هناك، في حين أن السجون ما فتئت تنافس المعاهد التعليمية والمستشفيات في التكاثر، كما أن عدد الدول الفاشلة يزداد يوماً بعد يوم، حيث أمست الكيانات العربية جزءاً من ذاكرة الخيبة الكونية.
لقد بدت محاولات تفسير انهيار المشاريع التنويرية أو النهضوية، بوصفها إشكالية تتعلق بعدم التهيئة الحضارية لقيم الديمقراطية، وهناك من يرى أن هذه المرحلة من تكرار الفشل حتمية أو ضرورية، على الرغم من كل ما شابها من تداعيات بدت على قدر كبير من الكآبة، غير أن هذه المرحلة ستقود يوماً إلى المعنى المنشود منها. ولطالما تساءلت حول مقدار ما نتبجح به عن حب الأوطان.. فهل نمارس نفاقاً حضارياً، أم هي آمال زائفة؟ أو لعلها تعدّ نوعا من الفصام؟ فأينما نقع في هذه الأوطان لن نجد من يشعر بأن الوطن يعني له الكثير، فثمة باعث دائم للبحث عن وطن بديل، فلا جرم أن كبار المسؤولين لديهم مواطنة أخرى احتياطية تتصل بالغرب، مع بعض الاستثناءات القليلة، فثمة في الكواليس من يمارسون خلق الزيف، فالأوطان ليست سوى نموذج ينهض على فعل الاستئثار، ليمسي تكوينا هشاً يتعلق بواقع مجموعة قليلة، والباقي يضيع في محاولة العيش، وهنا أستذكر جزءاً من قصيدة «إليوت» تعكس مدى الخواء والبشاعة التي أفرزتها سياقات بدت تتصل بالغرب في سياق حقبة الحرب العالمية الأولى؛ مما اضطر إليوت للتعبير عن واقع الفراغ العميق، كما الإفلاس الحضاري أو الأخلاقي الذي يسكن الغرب، ولكن يبقى السؤال عن قدرة الأدب في التعبير عن حالة السياق العربي المعاصر، كي يكون انعكاساً لواقعنا، ولاسيما حين تتكاثر الجثث، ويختنق البشر في المخيمات، والعشوائيات، وبين شقوق المدن، فيتكاثر الفقر والجوع، والقهر، والأحلام اليابسة التي احترقت، في حين أن تكويننا على مواقع التواصل الاجتماعي لا يخلو من ظاهرية أو حالة زائفة أو فصامية، ما يشي بإفلاس حضاري.
يصف إليوت في قصيدته فتاة تنشر ملابسها الداخلية خارج النافذة، هي «تيرسياس» التي تعرضت لعقاب فتحولت من رجل إلى أنثى، وفرض عليها أن تسير في العالم السفلي، أو بين الأموات، كما تعني الرائي الأعمى، فأي عمى يفوق ما نحن فيه، ولاسيما ونحن نمارس هذا التجاهل، أو الجهل، كما في رواية ميلان كونديرا. هكذا تبدو المتواليات كافة نحو المزيد من الفراغ والخواء الذي يماثل ما عبر عنه إليوت في قصيدة له حيث يقول: «أين هي الحياة التي أضعناها في العيش؟». غير أن العيش بات مطلباً يفوق التوقع، فالموت يمتد في كل مكان، ولا شيء سوى أن نتجنب هذا المصير عبر السعي لارتحالات لا منتهية، ثمة الكثير من الوحشة في عالمنا، ولا أفق يبدو سوى الانتظار، الذي يقتل بهجة العيش، في حين أن الجماهير غفيرة تسير إلى حتفها سواء بالموت في الحروب أو في دول اللجوء، أو قهراً، وخيبة.. ولا شيء يختزل هذه الصورة سوى مشهدية ترد في قصيدة الأرض اليباب كي ننشد مع إليوت كم ينبغي للموت أن يتكاثر في أوطاننا… ألم يكتف منا؟ أم ما زال هنالك المزيد في مدن الوهم:
مدينة الوهم
تحت الضباب الأسمر من فجر شتائي
انساب جمهور على جسر لندن، غفير
ما كنت أحسب أن الموت قد طوى مثل هذا الجمع
حسرات، قصيرة متقطعة، كانوا ينفثون
وكل امرئ قد ثبت ناظريه أمام قدميه
«الأرض اليباب» ترجمة عبد الواحد لؤلؤة.
كاتب أردني فلسطيني
القدس العربي