الولايات المتحدة الأمريكية وتسييس الثقافة
د. عاصم الدسوقي
في أعقاب ضرب الأسطول الأمريكي في بيرل هاربور باليابان ١٩٤١ بعد حوالي عامين من اندلاع الحرب العالمية الثانية، شعرت الحكومة الأمريكية بالخطر الذي يحدق بمصالحها الأساسية فبادرت بإنشاء مكتب الخدمات الاستراتيجية الذي يضم عناصر ذات مهارات تدريبية عالية تم اختيارها من أبناء الأرستقراطية التي تمثل الصفوة الحاكمة، ومهمتها اكتشاف الخطر قبل وقوعه والتخلص من مصدره بوسيلة أو بأخرى حسب مقتضى الحال وفي إطار براجماتية الغاية تبرر الوسيلة، وكان كل عضو من أعضاء هذا المكتب يحمل حقيبة صغيرة بها بندقية قصيرة وعدد من القنابل اليدوية وبعض العملات الذهبية وحبة دواء قاتلة لتنفيذ عمليات قذرة، وبعد انتهاء الحرب ألغي «ترومان» هذا المكتب (سبتمبر 1945) قائلا إنه لا يريد في وقت السلم شيئا يشبه الجستابو الألماني.
ولكن سرعان ما تغيرت نظرة «ترومان» لمثل هذه الأفكار والأعمال، ذلك أن هزيمة الفاشية لم تكن تعني نهاية الصراع العالمي، بل كانت تعني تخلص المعسكرين العالميين (الشرقي الشيوعي والغربي الرأسمالي) من نقيض ثالث كان يمثل خطرا حقيقيا على كل منهما ألا وهو الفاشية- النازية.
وهكذا والعالم مشغول بمداواة جرحى الحرب وجمع أشلاء القتلى والمرور من تحت أقواس النصر والوقوف حدادا على الشهداء، كانت الحكومتان السوفيتية والأمريكية تعيدان النظر في ترتيب أوراق الصراع والبحث في كيفية الهيمنة على العالم عن طريق زيادة مساحة الأنظمة التابعة أو المؤيدة أو المتعاطفة.
وأسرع الاتحاد السوفيتي بضم دول شرق أوروبا التي حررها من الاحتلال النازي إلى جانبه، وشرع في تدعيم الأحزاب الشيوعية في العالم لمجابهة الإمبريالية العالمية. أما الولايات المتحدة فقد عملت على استعادة الحالة الطبيعية بينها وبين أوروبا بأسرع ما يمكن فخففت وجودها العسكري هناك، وعقدت معاهدات صلح مع ألمانيا (إيطاليا ورومانيا وبلغاريا والمجر)، وشرعت في احتواء الدول التي تحالفت مع كل أوربا، وبدأت تخطط لاستعادة شرق أوروبا من دائرة النفوذ السوفيتي، ومن هنا كان مبدأ ترومان في مارس ١٩٤٧ ومشـروع مـارشـال الذي يتلخص في تعليم تسقط في يد الأحزاب الشيوعية (كانت اليونان وتركيا أول من حصل على المساعدة مساعدات اقتصادية لأوروبا العربية وخاصة للدول المهددة بأزمة اقتصادية حتى و الأمريكية)، وهنا أعرب الاتحاد السوفيتي عن استيائه من هذا التوجه الأمريكي ووصفه «باستعمار الدولار»، وأعلن في خريف ١٩٤٧ عن تأسيس «الكوميتفورم» وهي منظمة للمبادئ الشيوعية حلت محل الكومينتيرن.
ثم خطت الحكومة الأمريكية خطوة أكبر عندما أعلن «ترومان» برنامج النقي الرابعة (٢٠ يناير ١٩٤٩) لتأييد السلام العالمي وفق محاور أربعة التأييد المطلة للأمم المتحدة، وكسب الشعوب بالعمل على الإصلاح الاقتصادي، وتقوية الأمم التي تعادي الكتلة الشيوعية، وتقديم المعونات لتحسين أحوال مختلف بلاد العالم، وكل هذا في حماية حلف الأطلنطي، ومن يتأمل هذه المحاور الأربعة يجد أن صياغتها جان لتضمن للحكومة الأمريكية تنفيذ خططها تحت مبادئ عامة يصعب الاختلاف بشأنها تبدو وكأنها إنسانية لصالح البشرية جمعاء فضلا عن أن هذه المبادئ ما تزال تحكم التوجهات الأمريكية إزاء كل الأزمات العالمية، فهي تعمل على تحويل اقتصاديات مختلف الدول إلى الاقتصاد الحر تحت شعار الإصلاح الاقتصادي، وتستخدم الأمم المتحدة لتدوير الزوايا الحادة التي تبرز في السياسات الدولية حتى لا يتهدد توازن القوي الذي صنعته، وتعمل على تأديب الذين يخـرجـون عن سيطرتها بوسيلة أو بأخرى، وفي مقابل هذه التوجهات الأمريكية كون الاتحاد السوفيتي حلف وارسو وأقام منظمة الكوميكون (سـوق اقـتـصادية اشتراكية). وهذا الجدل المتبادل بين المعسكرين هو ما كان يعرف بالحرب الباردة التي يؤرخ لبدايتها بعام ١٩٤٧ حين أخذ كل من المعسكرين يطارد بعضهما بعضا في العالم الثالث حيث الانقلابات والحروب الإقليمية، وفي أروقة الأمم المتحدة حيث يعمل كل منهما على تعطيل مشروعات الآخر باستخدام حق الفيتو.
على أن الحكومة الأمريكية أدركت مبكرا أن مشروع مارشال والنقطة الرابعة لا يكفيان وحدهما لإزالة الشيوعية من طريق الرأسمالية، إذ لم يكن مضمونا أن الدول التي تتلقى مـسـاعـدات اقـتـصـاديـة أمـريـكيـة يمكن أن تتخلى تلقائيا عن الاشتراكية، ومن هنا اتجهت السياسة الأمريكية إلى تصويب ضرباتها على جبهة الثقافة العريضة بما تشمله من أفكار وفنون وآداب وعلوم وكل ما يتعلق بالكلمة المقروءة والمسموعة والمرئية في محاولة متواصلة لتغيير أذهان الشعوب على كراهية الشيوعي بتقديم النموذج الرأسمالي الأمريكي ثقافيا بأبعاده في الحرية الفردية، والعمل على استزراعه في مختلف البيئات، وبمعنى آخر يد تقدم الخبز ويد تقدم ثقافة دولة الخبز فيحدث التحول التدريجي من الثقافة الشيوعية إلى الثقافة الرأسمالية
وفي يوليـة ١٩٤٧ أنشـأت الحكومـة الأمـريـكيـة جـهـاز المخابرات المعروف اصطلاحا بالـ C.I.A ليتولى الجانب الثقافي في الحرب الباردة، وقد تكون الجهاز في الأساس من بعض أعضاء «مكتب الخدمات الاستراتيجية « الذي قام «ترومان» بحله كما سبقت الإشارة في سبتمبر 1945 وأبرزهم آلان دالاس الذي كان قد كون في نيويورك- بعد تصفية المكتب- مركزا للخدمات الخاصة ومعه كیرمیت روزفلت وهما من أبرز أسماء جهاز المخابرات وكان أول أعمال هذا الجهاز تكوين واجهة ثقافية يعمل من خلالها «لتحصين
العالم ضد وباء الشيوعية وتمهيد الطريق أمام مصالح السياسة الأمريكية في الخارج» فكان «الكونسورتيوم» الذي يضم مـجـمـوعـة من الراديكاليين ممن تحطم إيمانهم بالشيوعية وأصابهم الاحباط بسبب سياسات «ستالین» القمعية. وتتلخص الخطة في أن يقوم هؤلاء أنفسهم بنقد الشيوعية من خلال مختلف الوسائط كتابة مقال أو إلقاء محاضرة عامة أو كتابة رواية أدبية أو عمل مسرحي، على أن يدور خطابهم حول ما الذي جعلهم يعتنقون الشيوعية؟ وما الذي جعلهم يتوبون عنها؟. والمعنى من وراء ذلك: أن تتم مـحـاربة الشيوعية بواسطة شيوعيين انشقوا على الشيوعية حتى يكون خطابهم أكثر إقناعا من خطاب عناصر رأسمالية عادية سوف يفهم حديثهم على أنه دعاية مضادة للشيوعية.
وعندما افتتح السوفييت بيتا للثقافة في برلين لبناء ثقافة شيوعية هناك أسرع الأمريكيون بافتتاح المراكز الثقافية في مختلف بلاد العالم لتقديم الثقافة الأمريكية من خلال عروض السينما وحفلات الموسيقى والمعارض الفنية والمحاضرات العامة وإرسال فرق موسيقية من زنوج أمريكا لتغيير المفهوم الشائع عن العنصرية الأمريكية. وأعطيت لجهاز المخابرات صلاحيات هائلة ومطلقة ليفعل ما يشاء من أجل حماية الصورة image الأمريكية التي ترسمها وسائل الدعاية والإعلام في خيال الآخرين ثم تقرر (في 19 ديسمبر ١٩٤٧) أن يستخدم الجهاز الأنشطة النفسية السرية لدعم السياسة الأمريكية بما في ذلك التخريب والتدمير بالانقلاب والاغتيالات ومساعدة حركات المقاومة السرية والمعارضة السياسية في الدول المعادية للولايات المتحدة بشكل متقن لا تظهر معه أي مسئولية للحكومة الأمريكية، ثم حصل الجهاز (١٩٤٩) على حق إنفاق الأموال اللازمة لتمويل نشاطه دون تقديم بيانات عن أوجه الصرف حتى لا يترك مستند يدل على دور للحكومة
وقد عمل جهاز المخابرات على تجنيد عناصر له في مختلف الأجهزة الأمريكية السيادية منها والعامة ابتداء من البنتاجون وانتهاء بالشركات الخاصة ومرورا بالكونجرس ومجلس الشيوخ والدبلوماسيين والمحامين ومراكز البحوث بالجامع وخارجها واتحادات الطلاب والخطوط الجوية ومحطات الإذاعة والتليفزيون والصحف
وكانت باكورة الأعمال الثقافية المنظمة للجهاز كشف الشيوعيين الأمريكي أولا وتعريتهم أمام مجتمعهم. وجاءت الفرصة عندما قرر الكومينفورم السوفييتي (٢٥ مارس ١٩٤٩) تنظيم مؤتمر في فندق والدورف أستوريا بنيويورك بجهود الشيوعيين الأمريكيين بغية التلاعب بالرأى العام الأمريكي في عقر داره، والتقطت المخابرات الأمريكية الفرصة وتغلغلت في المؤتمر ولعبت به بمشاركة الشيوعيين «التائبين» ومن ثم رصدت بسهولة الشيوعيين الأمريكيين وأكثرهم شهرة أنذاك الممثل شارلي شابلن ومارلون براندو.
وفي المقابل أعدت المخابرات الأمريكية قوافل من الموسيقيين في جولة حول العالم لتقديم الذوق الأمريكي، وإعادة عرض التراث الموسيقى العالمي بوجهة نظر أمريكية، فمثلا أوبرا ريجوليتو يعاد إعدادها بصياغة معادية للفاشية على المسرح الألماني، ويمنع عرض مسرحية «يوليوس قيصر» لأنها تمجد الديكتاتورية، وكذا مسرحية تولستوى «الجثة الحية» لأنها نقد اجتماعي يخدم أهدافا غير رأسمالية، ويتكون أوركسترا برلين الفلهارموني ليكون حصنا واقيا ضد «الشمولية» السوفيتية بما يقدمه من معزوفات خارج القوالب الموسيقية الشائعة وفي ذلك معاني الحرية والتحرر إلى غير ذلك من الوسائل والواجهات للتخلص من كل أثر للنازية.
وفي مايو 1949 شكلت المخابرات اللجنة القـومـيـة من أجل أوربا الحـرة لاستخدام المهارات المتنوعة لليهود الشرقيين في المنفى من أجل تطوير برامج تتصدى بنشاط للسيطرة السوفيتية، وكان من أعضائها شخصيات بارزة في مجلات متنوعة منها على سبيل المثال المخرج السينمائی سیسیل دی میل وداريل زانوك، والممثل رونالد ريجان (الرئيس الأمريكي فيما بعد) والعسكري أيزنهاور (الرئيس الأمريكي فيما بعد).
ولإحكام الحصار على الشيوعية والشيوعيين في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها وفي العالم قامت المخابرات الأمريكية في 1950 بتأسيس منظمة ثقافية جديدة باسم «منظمة الحرية الثقافية تحولت في عام 1967 إلى «الاتحاد الدولي للحرية الثقافية»، وقامت هذه المنظمة بانشاء فروع لها في خمس وثلاثين دولة تم اختيارها بعناية أصدرت أكثر من عشرين مجلة ذات تأثير كبير، وقامت بتنظيم المعارض الفنية والحفلات الموسيقية بهدف تكسير الوعي بالشيوعية عند المثقفين لكي يتواصل الجميع مع الأسلوب الأمريكي في الحياة
ومن خلال منظمة الحرية الثقافية، هذه تعددت أنشطة جهاز المخابرات الأمريكية إذ نجح في إقامة مختلف الواجهات الفكرية والإعلامية والفنية والتجارية لخدمة أغراض مواجهة الشيوعية والعمل على اجتثاث جذورها وفرض النموذج الأمريكي في الحياة، ومن ذلك تكوين قسم المنظمات الدولية داخل المنظمة بهدف توحيد المثقفين السوقيت ضد ما كان يقدم في بلادهم من كتابة وفن وموسيقى موجهة، وتشجيعهم على حرية التعبير فينمو بذلك التيار المعادي للدولة الشيوعية من داخلها .
وفي هذا الإطار صدرت في ١٩٥٢ مجلات کومنتری، ونيـوليـدر، وپارتیزان ريفيو، وفي ١٩٥٣ صدرت مجلة العلم والحرية ومجلة إنكاونتر استكتب فيها أسماء لامعة ومشهورة مثل المؤرخ أرنولد توينبي والفيلسوف برتراند راسل وهربرت سپنسر وكلها مجلات ضد الشيوعية، وخارج أمريكا كانت المخابرات وراء إصدار عدة مجلات ثقافية ترمي جميعها بأسلوب غير مباشر لتشويه الشيوعية وشهد عام 1955 إصدار مجلات : سوفیت سیرقي يرأسها وولتر لاكير، وتيمپو برزنت بإيطاليا، وكوادرات في أستراليا وكويست Quest في الهند وجيو Jiyu في اليابان وهكذا . وتم الاستعانة بمؤسسة فورد لتنفيذ مشروعات مشتركة بواسطة الجامعيين وكذا مؤسسة روكفلر التي كان هنري كيسنجر أحد خبرائها
ولقد بلغت سيطرة المخابرات الأمريكية على مجمل الحياة الثقافية درجة مخيفة عندما نجح السيناتور مكارثي في تكوين لجنة داخل الكونجرس خـاصـة بالنشاط المعادي لأمريكا تمكنت من تمرير مشروع قانون بالرقابة على الثقافة (10 يولية ١٩٥٣) مما أوجد جوا مشابها لأجواء الثورة الفرنسية حين كان الفرنسيون يؤخذون بالشبهات إلى المقصلة، ولكن في حالة الولايات المتحدة فإن المشتبه في شيوعيته بأي درجة من الدرجات ينتهى أمره بتدمير حياته ومستقبله وربما تدفعه للانتحار عندما تضيق أمامه سبل الرزق. وعلى سبيل المثال كان الروائي الشهير إرنست هيمنجوای يخضع لمتابعة إدارة التحقيقات الأمريكية F.B.I لدرجة أنه أصيب بالاكتئاب وعندما ذهب لعيادة نفسية في مينوسوتا قبيل انتحاره طلب أن يسجل نفسه تحت اسم آخر لكن الطبيب اتصل بإدارة التحقيقات ليأخذ تصريحا بذلك (راجع هنا كتاب: أصول اليسار الأمريكي لمؤلفه تيودور دريبر ومن ترجمتنا).
الإيمان في مواجهة الشيوعية، أن تضيف لقسم الولاء لأمريكا عبارة «أمة واحدة تحت راية الرب، في إطار نوشت كما نجحت لجنة النشاط المعادي لأمريكا بالكونجرس (14 يونية 1954) ای وكانت منظمة الحرية الثقافية وراء عدم فوز شاعر شيلي الشهير نيرون بجائزة نوبل لعام 1964 ولم يفز بها إلا في عام 1971 حين كان سفيرا في فرنسا لحكومة سلفادور الليندي «الموالية» للديموقراطية، ومع هذا قتلته المخابرات الأمريكي
بعد فوزه بعامين وفي منتصف الستينيات من القرن العشرين والحرب الباردة في عنفوانها كان نادي القلم الدولي PEN 76 فرعا في 55 دولة وبذلت المخابرات الأمريكية كل ما مستطيع من جهد لتحويله إلى منبر لخدمة المصالح الأمريكية، وأكثر من هذا فلي تحف الفن الحديث في نيويورك خضع للمخابرات حيث كان يعرض أعمالا متحررة ن القواعد الفنية المتعارف عليها باعتبار أن التحرر من القوالب والوقوف إلى جان تعبير التجريدي يعد رمزا للديموقراطية.
إن ما فعلته المخابرات الأمريكية في عالم الفن والأدب لإعادة بناء البنية قافية في العالم بما يؤدي إلى كراهية الشيوعية والسعي وراء النموذج الأمريكي د سرعة الثقافة في التأثير على الوعى وعلى الوجدان من خلال الرواية الأدبية راما في السينما والتليفزيون والمعارض الفنية والحفلات الموسيقية، بحيث يتم جيا التخلي عن نمط قديم واكتساب نمط آخر خاصة إذا كان هذا الآخر يركز الحريات المطلقة دون ضوابط مقابل القيود القائمة في الشرق الشيوعي، وهكذا ا سقط حكم الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية وكذا في الاتحاد السوفيتي د هذا السقوط مقاومة من الجماهير التي كانت تتشرب على مدى أكثر من عاما وبالتدريج ثقافة معادية للشيوعية تداعب غرائز التملك والتفرد والتفوق ية فأثبت هذا في النهاية أن تغيير نمط في السلوك والفكر أقوى تأثيرا من تغيير انتاج الذي تعول عليه الماركسية.
والحق أن التغير في الثقافة هو ما يراهن عليه النظام العالمي الجديد المعروف الية globalism، الذي أعلنه الرئيس الأمريكي «بوش» الأب أثناء حرب الخليج 1991 وأداته الرئيسية منظمة التجارة العالمية W.T.O التي أنشئت في بناير لا تقتصر مهمتها على مبدأ حرية التجارة كما كانت مهمة اتفاقية الجات من ما أضيف لبرنامجها مبدأ الحرية الثقافية أي حرية الإنسان في أي مكان في يريده وما يرغبه من ألوان الثقافة دون حظر رقابي من حكومته، والهدف تحويل العالم كله إلى النموذج الأمريكي دون إحساس بالدونية، وهذا ما جعل الحكومة الفرنسية تتحفظ على هذا الجانب في منظمة التجارة العالمية حفاظا على ثقافتها من التحلل والذوبان في النمط الأمريكي.
وأذكر في هذا الخصوص أن «بونابرت» ذلك المستشرق الفرنسي ورجل الحرب كان منتبها لأهمية الثقافة في تغيير السلوك، إذ نراه بعد أن يغادر مصر في العام التالي للحملة يرسل إلى خليفته «كليبير يطلب منه انتقاء حوالي خمسمائة من الصفوة الاجتماعية في مصر وإرسالهم إلى باريس للبقاء فترة يتعرفون خلالها على الحياة الثقافية في فرنسا يعودون بعدها محملين بهذه الثقافة ويعملون على نشرها فكرا وسلوكا فيتم الاستيعاب والتوحد وتزول مشاعر الغربة والاغتراب.
إن كتاب «الحرب الباردة الثقافية» عن دور المخابرات الأمريكية في عالم الفنون والآداب لمؤلفته «فرانسیس ستونر سوندرز» جدير بالقراءة، لأنه يكشف ستر مواقف وتحولات في عالم الثقافة كان مثقف الستينيات الملتزم في مصر يرقبها فاغرا فاه دون أن يدرى أسبابها، وحسنا فعل المجلس الأعلى للثقافة بترجمته التي جاءت سلسة يسيرة على يد طلعت الشايب.
تقديم كتاب “الحرب الباردة الثقافية” – المؤلفة: فرانسیس ستونر سوندرز
