البابور الموقع العربي

نظام الأسد ينتزع حناجر الأطفال

971

الجريمة.. طفلّ مُسلَّح بصوت أعزل
كيف زعزع الأطفال نظام الأسد بحناجرهم

يوسف الشواخ

كانت الشرارة الأولى بعد معرفتي بالوحشية التي قتل فيها حمزة الخطيب, في هذه الدولة البوليسية بامتياز كسوريا, ونحن أبناء شعبها نعلم أن للحيطان آذانا صاغية تسمع وتسجل كل ما يُنطق به.

يوسف الشواخ


ذات صباح جلست قرب صديقي في حافلة عمومية وقد خطّت إحدى الأيادي المجهولة كلمة “ارحل” على خلفية أحد المقاعد, تمعنت في الكلمة مدهوشا, وكفعلي فعَلَ صديقي، ثم كُسر حاجز الصمت عند قوله: ” أي وأنا كمان متلو”. أحسست بارتياح عند معرفتي لموقفه, فهذا يعني معارضته للنظام وللرئيس ولما يحدث في سوريا مثلي تماما.
بعد فترة وجيزة من ذلك اليوم بدأنا الصياح في داخل المدرسة بهتافات سلمية تندد برحيل الطاغية، وبهتافات أخرى تعلن التضامن مع أهالي مدينة درعا.
حتى الآن أذكر كيف كان يردد الجميع وبصوت واحد (يا درعا حنا معاكِ للموت) وكان ذلك يحدث تحديدا بعد انتهاء الفسح وما أن تُنطق أولى الكلمات حتى تجد باقي الطلبة قد أكملوا عبارات الهتافات الحماسية التي حفظوها عن ظهر قلب وباللحن الصحيح وكأن الجميع اتفقوا على ذلك, لقد بدا لي حينها أنها تعويذة جماعية.
كنا فرحين بسماع العبارات في مدينة عرفت بأنها هادئة نسبيا, وكانت الفرحة تتعاظم عند سماعنا للنساء يزغردن من شرفاتهن المطلة على مبنى المدرسة. كنا جميعا على يقين بأن هذا القمع خاطئ وكارثي, ومع ذلك واجهناه بحناجرنا, ببحة أصواتنا. في الحقيقة نحن فقط قد رفعنا أصواتنا التي كانت مكتومة, وأطلقنا العنان لحبالنا الصوتية لتنفجر في مواجهة الجلاد.
وبعد ذلك بدأنا بتكرار هذه التظاهرات الطلابية يوماً بعد يوم، وأخدنا نخط بعض العبارات المعارضة لهذا النظام على جدران المدرسة.
في أحد الأيام غزتْ قوات الأمن والشبيحة مدرستنا غزواً مريبا, كانت مجرد مدرسة إعدادية لا أكثر, لكنها تحولت لهدف لتلك القطعان المتوحشة.
كنا نعلم بأنه وفور وصولهم سيتم اعتقالنا عاجلا أم آجلا . بالنسبة لهم نحن نشكل خطرا على النظام و على الحكم وعلى بشار الأسد شخصيا.
همس صديقي بأذني: سننام اليوم (ببيت خالتنا), بيت الخالة معروف لدى جميع السوريين بأنه السجن والزنزانة والمعتقل في هذه البلاد التي يحكمها الجلادين, وحولوها إلى سجن كبير
طُرق باب الصف, وتسارعت دقات قلبنا ولولا الضلوع لقفز القلب من مكانه وفرّ هارباً.
صُرّح بالأسماء المطلوبة للإدارة، وطبعا كان اسمي من بينهم. وعند خروجنا ردد أستاذ اللغة العربية: ” لا أعلم سبب هذه التمردات الهمجية, فهذه الدولة توفر لكم تعليما مجانيا والكثير من الخدمات, حقا إنكم لجاحدون”.
وصلنا غرفة الإدارة وكان الضابط جالساً على كرسي المدير فاردا كتفيه، همّ بطرح أسئلته عن دوافع الهتافات ومَن مِن عائلاتنا وأهالينا يفعل ذلك، ومن الذي طلب منا ترديد هذه العبارات.
ختمَ جملة أسئلته بإلقاء محاضرة عن فضائل الدولة علينا، ثم توجّه بسؤاله لي ولم أنطق حرفا, كنت خائفاً عاجزاً عن النطق وفي الوقت ذاته كنت أحسُ بقرف كبير ناحيته.
أعاد استجوابه بصوت ينمّ عن انعدام في إنسانيته: “ماذا كنت تردد؟ “.
لم أُجِبْ. أعاده مراراً, فلما أحسّ بعدم جدوى هذه الطريقة تلوّنت نبرته, وتعهّد بعدم ضربي وتركي أعود مع رفاقي سالمين, فقلتُ له عن العبارات وعند وصولي لعبارة: واحد واحد واحد الشعب السوري واحد. صفعني.
ثم قال لي بلهجته الساحلية الخشنة (هي كيسي)؟! أي أنها جيدة؟!
نادى عناصر الأمن لوضعنا في السيارة ونقلنا لفرغ الأمن “بيت خالتنا”. وعند وصولنا بدأت جلجلة كبيرة بالحدوث وهي محض “فقرة ترحيبية بنا” لم نكن نعلم من أين أو كيف نُضرب. مضت ربع ساعة تقريبا على هذا الحال ثم اقتادونا للداخل.
الأمر اللافت للنظر أننا مجرد طلبة عُزّل ليس بحوزتنا سلاح أو عتاد لنهدد عرش الطاغية أو أمن البلاد, وكانت كل هذه العناصر الأمنية فقط لوضعنا بداخل الفرع نحن الطلبة المقيدون !
قاموا بصفنا على شكل رتل بمواجهة مع الحائط , أمرونا بالوقوف على قدم واحدة وبرفع الأيدي.
دخل أحد الضباط وسأل أحدهم: ماذا يفعل هؤلاء هنا ؟! فأجابه: إنهم مندسين يشاركون بالمظاهرات ضد الدولة. وعند سماعه ذلك أخذ بضربنا بشكل عشوائي و كأنه ذئب جائع وسط قطيع من الأغنام.
بقينا ما يزيد عن الثلاث ساعات على هذه الوضعية. كان صديقي(ع) يقف بقربي وهو فتى جميل الهيئة لطيف المعشر وقد أرهقه هذا الوقوف فمال برأسه على الحائط ولسوء حظه أن شعر رأسه كان طويلا, وما أن أسند رأسه حتى انقضّ عليه أحد العناصر غارزا أصابعه في رأسه, وضرب رأسه بالحائط. ضربه عشرات المرات, ورغم أن دمائه كانت قد صبغت الحائط بالأحمر إلا أن العنصر لم يتوقف عن تكرار هذا الفعل.

عند الانتهاء من وجبة الضرب والإذلال التي تركت آثارها عميقا في أرواحنا, قاموا بإيقافنا خارجا, وكان موقع وقوفي بالقرب من باب شبه مفتوح, تجرأت على النظر من خلاله, فوجدت عنصراً أمنياً يسجل شيئا ما على الورق, من لهجته عرفت أنه من محافظة حمص, نظر نحوي وقال: “لك شبك ليه خيفان؟ أخي أصغر منك وليكه بحمص عم يطلع مظاهرات” طمأنتني هذه الكلمات وسط رائحة الموت.

بعد ساعات جاء والدي، وبحكم وقوفي بالممر كنت قادرا على رؤيته, فما كان مني إلا محاولة الجنوح نحوه كمحاولة عبثية لتحصيل الأمان، إلا أن عنصر الأمن أمسكني بقوة وأخذ بضربي.
صرخت: ” والدي! ” فأجابني “سيأتي إليك”.
وقفت مكاني وبعد فترة من الوقت حسبتها دهورا, قَدِم عنصر آخر لأخذي إلى والدي وبرفقته الرجل “الواسطة” الذي سيخرجني من هذا الجحيم.
اجتمعنا جميعا في غرفة مسؤول الفرع، ألقى عليّ ذات المحاضرة عن إنجازات الدولة في سبيل حياتنا الزاهية وجحودنا الملحوظ في حقها، وختمَ حديثه متوعدا عدم رؤيتي النور مرة أخرى في حال العلم بقيامي بمثل هذه الأفعال المناهضة للحكومة مجددا, ولم يكتفي بذلك بل أضاف تهديداً باعتقال والدي أيضا.
وعلى الرغم من معرفتي بكمية التنكيل التي ستطبّق علينا في حال إيداعنا الزنزانة إلا أن هذه الكلمات فشلت في بث المزيد من مشاعر الخوف والرعب في قلبي, وامتزجت مشاعري بفرحة عارمة بكوني قد زلزلت شيئاً من استقرارهم الأمني (المُفترض) بمجرد أن قمت فعل صغير كهذا! الهتاف بصوت عال ضد الجلاد.
كان درساً قاسياً ومخيفاً لطفل مثلي من جانب, وكان درسا في تعلم الجرأة والتحدث والإصرار أيضاً من جانب آخر.
ومن لا يعلم قصة الثورة في سوريا, فإن النظام قام باعتقال وتعذيب وقلع أظافر أطفال وتلاميذ مدرسة في درعا جنوب البلاد لأنهم خطوا عبارات مناهضة لبشار الأسد. وما تجربتي المتواضعة إلا تجربة عابرة قياسا بما مروا به في المعتقلات, لقد فجرت قصة أولئك الأطفال براكين الغضب لدى السوريين, ومع مرور السنوات وما ذقناه من ويلات وعذابات, إلا أننا لا نزداد إلا إصرار على إسقاط هذا النظام.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار