البابور الموقع العربي

 تذويب الطبقة الحاكمة

458

تتميز بأنها مختلفة ليس فقط سياسياً وإنما أيضاً اجتماعياً:  تذويب «الطبقة الحاكمة»

د. مدى الفاتح

الطبقة الحاكمة، المصطلح الذي اشتهر بعد نشر الإيطالي غايتانو موسكا (1858-1941)لكتابه الشهير الذي حمل هذا العنوان، يمكن أن نعرفها بأنها هي المجموعة الاجتماعية التي تجعل من نفسها محور الدولة وتسعى للانفراد بقيادتها وتحديد خياراتها.

هذه المجموعة تكون، في الغالب، متحكمة في المال أيضاً وهذا هو السبب وراء محاولاتها للتحكم في سياسات الدولة بما يجعلها تصب في مصلحتها.
مع تداخل هذا المصطلح مع كل من مصطلحي «البرجوازية» الماركسي و»الأوليغارشية» الأفلاطوني الأرسطي، إلا أنه تبقى هناك بعض الاختلافات الدلالية، فالبرجوازية تستخدم في إطار المقابلة مع البروليتاريا وهي الطبقة الاجتماعية المسحوقة في إطار التقسيم الطبقي الذي قد لا يكون دقيقاً دائماً، أما الأوليغارشية فهي تشير لارتباطات رجالات المال والأعمال بالسياسة، بما يجعلهم يكوّنون «الدولة العميقة» أو عصب النظام، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية التي تتميز بالجمع الفريد بين دولة المؤسسات و»سيطرة العائلات». أفلاطون كان يعتبر أن النظام الديمقراطي هو نقيض النظام الأوليغارشي، ومنذ عهده البعيد تتسع المناقشات حول البنية السياسية للدولة التي لا يسمح فيها بالتقدم إلا لأصحاب المال أو الجاه. مصطلح الطبقة الحاكمة هو الأكثر تعبيراً حين نتحدث عن شريحة اجتماعية، ليست بالضرورة الأغنى، لكنها تتحكم بشكل مطلق في خيارات الدولة السياسية.
هذه الطبقة، رغم سيطرتها على المناخ السياسي، إلا أنها أقلية من الناحية العددية وهي تجمع بين كونها أقلية وبين الغرور الذي يجعلها تعطي نفسها أهمية أكبر من حجمها بشكل يجعلها لا ترى غيرها، فكل من يخالف خياراتها هو مخطئ بنظرها يستحق الحرب والتشويه. يولد هذا الغرور غير المستحق بالضرورة رغبة لدى الغالبية مكتومة الصوت في التحرر من هذه السيطرة.
حسب ملاحظة موسكا فإن الطبقة الحاكمة تتميز بكونها طبقة منظمة. هذا التنظيم هو أساسي بالنسبة لها للحفاظ على مكتسبات الحكم. بالمقابل تكون الجماهير غير الراضية، على كثرتها، مشتتة، ما يسهل التحكم بها وتوجيهها.
وفق ديناميات المجتمع التي وضعها موسكا، فإنه لا محالة من أن تولد ضمن حشود المحكومين المستسلمين لحكم الطبقة الحاكمة كأمر واقع مجموعة أخرى منظمة. تكون هذه المجموعة مناهضة لوضع الطبقة الحاكمة القائم وبخلاف الجماهير المشتتة يكون أولئك، على قلة أعدادهم، الأخطر على النظام السياسي بسبب تنظيمهم. يبادل النظام هذه القوى الناشئة العداء ويحاول بكل السبل تشويه صورتها وإضعافها والتضييق عليها بمحاولة إبعادها عن الأغلبية الرافضة عبر وسائل القمع المختلفة كالحرمان من العمل السياسي أو السجن أو دفع قياداتها للخروج من البلاد أو بمحاولة الوقيعة بين أطراف هذه القلة الواعية بحيث يتفرق جهدها.
يمكن لكل هذا أن يفسّر لنا الحالة السودانية التي نزعم أن القيادة السياسية فيه سعت منذ إسقاط البشير لتشكيل طبقة حاكمة جديدة تتميز بأنها مختلفة ليس فقط سياسياً، وإنما أيضاً اجتماعياً، عما كانت تعتبرها سمات للطبقة الحاكمة السابقة.
لأن من مميزات الطبقة الحاكمة أن تكون مركزة وقليلة العدد، فإنه كان لا مفر من تفكيك التحالف الثوري الأول الذي كان يتحدث باسم المدنيين في مقابل العسكريين والذي أطلق عليه مسمى «قوى الحرية والتغيير» فذلك التحالف، وإن لم يشمل كافة القوى الثورية والمكونات السودانية، إلا أنه كان يضم طيفاً واسعاً ومتبايناً من الجماعات والأحزاب.
التفكيك بدأ بالدرجة الأولى بمحاولة أحزاب لا تتجاوز أصابع اليد الاستئثار بمراكز صنع القرار في الدولة والتحكم بأهم الموارد المالية المتمثلة في اللجنة المنوط بها الاستيلاء على الأموال والمشروعات الخاصة بعناصر النظام السابق. بالإضافة إلى هذا حاولت هذه المجموعة الصغيرة أن تخلق قطيعة مع ميراث الحقبة السابقة عبر استبدال ما سمتها «الايديولوجيا الإسلامية» بمشروع علماني متصالح مع القيم الغربية، خاصة فيما يتعلق بموضوعات المرأة والجنس عبر التغيير المتسرع للمناهج وتعديل قوانين الأسرة مع محاربة ما اعتبرتها مظاهر للإسلام السياسي والتطرف، كحجاب مذيعات التلفاز ومدارس تحفيظ القرآن «الخلاوي» وغيرها، بل وصل أحد رموزها التربوية، عمر القراي، درجة الاستهزاء العلني بالقرآن الكريم نفسه واعتبار أنه لا يصلح لأن يدرّس للأطفال.
بالتأكيد فإنه كانت هناك شريحة اجتماعية سعيدة بهذه التوجهات وقد استطاعت هذه الأقلية الشاذة السيطرة لوقت طويل على وسائل الإعلام بالشكل الشمولي الذي لا يمنح المعترضين فرصة الظهور، كما استطاعت خلق صدى كبير عبر التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي وعبر تكوين شبكات داعمة من الشباب الذين تم إغراؤهم بنظام جديد يسمح لهم بتجاوز كل الحدود التي كانت تعيقهم سابقاً سواء فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية أو تناول الكحول أو غيرها مما يدخل في إطار اللافتة الخادعة للحرية والمدنية.
كل هذا أنتج مجموعة غاضبة على هذه الطبقة الحاكمة حتى من بين المتحمسين لقوى الحرية والتغيير، فالمجموعات المحافظة رأت أن هذه الطبقة الجديدة تقوم بتنفيذ مشروع لم تستشر فيه أحداً وأنها تسعى لتنفيذ برامج أحزاب يسارية ليس لها أي ثقل جماهيري في الشارع. أوضح أولئك المحافظون، الذين تمثلهم قوى وتيارات كثيرة بعضها كان شريكًا أصيلاً في التغيير، أن الاختلاف مع «المؤتمر الوطني» المحلول لا يعني العداء الأحمق مع ثوابت الدين الإسلامي.
بالمقابل لم تكن الطبقة الحاكمة تسمع سوى صوتها، فما تراه وتختاره هو الأفضل للشعب على طريقة «أنا الدولة» وإن احتاجت للتأييد فيكفي خروج عشرات من مناصريها لتزعم أن سياساتها تجد رواجًا جماهيرياً. على سبيل المثال، حينما أرادت مجموعة من النساء اللواتي يغلب عليهن التوجه الليبرالي مقابلة وزير العدل وتسلميه مذكرة تطالب بتجاوز الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بقضايا المرأة تم استقبالهم كممثلين للنساء والبدء في تنفيذ طلباتهن، لكن حينما جاءت تظاهرة أخرى لنساء يطالبن بإبقاء التحاكم إلى الشريعة فإن أحدًا لم يهتم بهن، بل جرى تشويههن والسخرية من مظهرهن ووصفهن بالفلول.
لم يكن الغضب من نصيب التيارات المحافظة فقط، فقد ظهرت على الساحة أيضاً مجموعات استفزتها فكرة الانفراد بالحكم، كما استفزها أيضاً أن تشعر بالإقصاء وأن لا تجد المكان الذي يليق بها في الخريطة الانتقالية. يجب أن نتذكر هنا أن تلك «السلطة المدنية» لم تكن بحاجة للانتخاب أو التصويت من أجل اتخاذ أي قرار، فيكفي أن يتم التوافق بين أعضائها لاختيار أي وزير أو مسؤول وهو ما جعل السلطة تكتسب، بالإضافة إلى الأعداء العقديين، عداء قيادات قبائلية وتقليدية، ممن أحسوا أنهم لم تتم استشارتهم في قضايا أساسية تتعلق بمناطقهم كاختيار ممثليهم أو اختيار طرق حل مشكلاتهم وتنفيذ تطلعاتهم.
الطريف أن موسكا تحدث حول حرص «الطبقة الحاكمة» في إطار مخططها لإحتواء المعارضين، على تغييب البرلمان وهو ما حدث في السودان الذي كان تكوين «المجلس التشريعي» من الفروض الغائبة في حقبته «الثورية» جنباً إلى جنب مع فروض أخرى كالتحضير للانتخابات أو إنشاء محكمة دستورية. اليوم ينظر المؤيدون لقرارات قائد الجيش المتعلقة بحل الحكومة بإيجابية على أساس أنها خطوة مهمة لإذابة سلطة الطبقة الحاكمة وكسر احتكارها للمجال العام عبر طرح حكومة كفاءات عابرة للإيديولوجيا وممثلة لجميع الأقاليم، وعبر الحديث الجاد عن مدى مناسب لإقامة الانتخابات التي سوف تنهي الجدل العقيم حول الشرعية والشعبية.

القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار