البابور الموقع العربي

“قوت اليوم” أقصى طموحات المواطن اللبناني.. و”طوابير الذل” تجتاج كل الطوائف

416

“من أجل ضريبة 6 دولارات على الواتس آب، حصلت ثورة، اليوم الدولار صار 10 أضعاف ما كان عليه صرفه عام 2019 ولا أحد يتحرك”، يقول سائق سيارة الأجرة وهو في طريقه من منطقة الحمراء في بيروت متوجهاً إلى تقاطع الطيونة.

الجملة هذه تتكرر تقريباً مع كل المتذمرين من الواقع الذي وصل إليه لبنان اليوم، والمتذمرين كُثر، حتى من هم مستفيدون من المنظومة الحاكمة ومن اغتنى من ورائهم منذ عام 1990 حتى الأزمة الحالية، يتذمرون أيضاً لأن الميزات التي حصلوا عليها بالنظام القائم لم تعد ذات قيمة إطلاقاً.

اللافت أن كُل الشعب اللبناني، تقريباً، يعاني من الأزمة ويتحدث عن النظام والفساد والزعيم، إلا أن اللافت أكثر أن لا مظاهر احتجاج إطلاقاً، ولا مطالب يرفعونها لكي يخففوا من وطأة الأزمة عليهم. 

“طوابير الذل” تتوزع في كل أرجاء البلاد وعلى الرغم من ذلك، لا مطالب ولا احتجاج ولا حتى محاولات، وجُل ما يشهده لبنان رسائل موزعة بين السلطة كما حصل اليوم الخميس، حين قُطعت بعض الطرقات كرسالة من رئيسي الحكومة ومجلس النواب إلى رئيس الجمهورية ميشال عون على ما يقول مراقبون رأوا في ما حصل تلويحاً بالضغط كي يستثمرونها في عملية تشكيل الحكومة.

الواقع على الأرض  

طابور الناس التي تنتظر عند محطات الوقود، يظهر أين يبدأ، ولكن من الصعب معرفة أين ينتهي. هناك من ينزل ليلاً ويركن سيارته أمام محطة الوقود في انتظار أن تفتح أبوابها صباحاً كي يملأ خزان وقوده بما تيسر، حسب كل محطة وكيف تقرر توزيع مخزونها، والانتظار مؤخراً قد يطول، فالمحطات بمعظمها صارت تتأخر كي تفتح أبوابها، وبالتالي النوم في انتظار الفجر قد يمتد إلى الساعة الثامنة والتاسعة صباحاً.

 يقول أبو عمر وهو سائق سيارة أجرة ينتقل من منطقة طريق الجديدة إلى الشفروليه “لأن صاحب المحطة هنا آدمي ويسمح لنا بأن نملأ خزان الوقود”: “تفتح المحطة أبوابها، أصحو من النوم أملأ السيارة وأنطلق إلى العمل ولا أخفي أنني أشعر بسعادة حين أنتهي من هذا الدوام الذي صار بشكل يومي لأن عملي كُلّه يعتمد على البنزين”.

يُضيف: “قد تضحك عليّ أو قد تشعر بالغرابة، ولكن نعم وصلنا إلى مكان أصبحنا في نفرح بمجرد حصولنا على كمية من الوقود، ولو انتظرنا ولا انذلينا من أجلها. أنا لا أفرح لأنني حققت شيئاً عظيماً، أنا أفرح لأنني أعلم أنني اليوم سأعود إلى أولادي ومعي خبز وأكل ومستلزمات هم يحتاجونها”.

لماذا لا تعترض، لماذا لا تتظاهر؟ يُجيب: “ولماذا؟ ما الذي سيتغير أساساً، البلد انتهى ولا شيء سيعود كما كان، أنا اليوم مُجبر على التأقلم لأنني لا أملك أي خيار آخر، لقد كبرت، أمّا أنتم الشباب أيضاً لا تتظاهرون ولا تعترضون، ولكن الفارق بيننا وبينكم أنكم لديكم حرية الخيار، وحرية الخيار هنا أقصد الهجرة، الرحيل عن هذا البلد غير المأسوف عليه”.

الذُل في أبهى حلله 

في الجانب الآخر، صف من الدراجات يتجاوز الخمسين دراجة مكدسة مع أصحابها تحت الشمس في انتظار دورهم. توتر كبير وحديث عن النظام وأهله. الجميع يتحدث اللغة نفسها “ذلّونا، جوعونا”. منهم من يشتم ومنهم من يسكت ومنهم يبتسم محاولاً التخفيف عن نفسه بالهرب إلى التهكم، والسخرية هي إحدى أكثر الأساليب التي اعتمدها اللبنانيون لمواجهة المصائب التي تحل بهم.

أيضاً، ينتظر هؤلاء طويلاً قبل أن يصل دورهم، وحين يُحققون الغاية، يذهبون ليتابعوا يومهم بشكل طبيعي، يتبخر الغضب فجأة وكأن شيئاً لم يكن. هو الواقع نفسه في الصيدليات التي صارت فارغة جزئياً، كون معظم الأدوية التي يستعملها اللبنانيون بشكل كبير، فُقدت من السوق.

Vehicles queue-up for fuel at a petrol station in Lebanon's capital Beirut on June 11, 2021 amidst severe fuel shortages. - The…
هناك من ينزل ليلاً ويركن سيارته أمام محطة الوقود في انتظار أن تفتح أبوابها صباحاً

وبالرغم من ذلك، بالإمكان مشاهدة صف الانتظار أمام الصيدليات. تقول سماح وهي والدة لطفلين ووالدها لديه مرض مزمن أيضاً: “كُل يوم لدي ما يُقارب الثلاث إلى أربع ساعات وأنا أجول على الصيدليات عساي أحظى بحليب أطفال، بدواء لوالدي الذي يعاني من مرض السكري، وبانادول لأولادي، وعبثاِ أحاول، علماً أنني أكرر هذا الأمر بشكل شبه يومي”.

حين وصل دور سماح كي تدخل الصيدلية، سرعان ما تعرف عليها الموظف في الداخل، وقبل أن تتحدث، عاجلها “لم يأت الدواء، لا زال مقطوعاً”، تعود سماح أدراجها وهي تجر الخيبة اليومية وراءها، ومثل سماح كُثر، أما الموظف فيقول: “نشعر بالخجل مما سنقوله لزبائننا وتحديداً أولئك الذين يبحثون عن دواء للأطفال أو لكبار السن. نشعر بالعجز ولا نفعل شيئاً تجاه هذا الشعور”.

الإعاشة أولاً 

الأمر نفسه في التعاونيات وفي الأفران وأمام المستشفيات. الأمر نفسه يتكرر أينما كان. شعور بالعجز، غضب يرتفع لوقت قليل، ثم يعود ليرتاح لساعات. غضب مكبوت أو مُروّض. في سيارة الأجرة، كان يقول السائق إن “الجميع (أي الزعماء) يجب حرقهم. عليهم أن يموتوا، لقد قتلونا ألف مرة”.

في الطريق إلى الطيونة، يرن هاتف السائق، إنها ابنته، يقول بعد أن تحدث معها وتحوّل من حالة الغضب التي توحي بأنه مُستعد للقتل، إلى حالة من السلام والضحك غير المفهوم: “تقول ابنتي إن مسؤول الحي اتصل بها وقال لها أن تمر على مكتب الحزب لتستلم مساعدات عن شهرين، ووعدها أيضاً بأنه سيؤمن لها وظيفة براتب مقبول في إحدى الشركات وصاحبها ينتمي للحزب نفسه”.

وتعمد الأحزاب كافة منذ بدء الأزمة إلى توزيع حصص غذائية ومستلزمات طبية في مناطق انتشارها، ويشعر كثير من الناس أنهم مرتبطون عضوياً بمن يُقدم لهم المعونة، إذ يجيب السائق نفسه على سؤال “الآن كُنت تشتمهم، ماذا تغيّر؟”، يقول: “أشتم من غضبي، ولكن حين أهدأ أعلم تماماً أنني لا أستطيع الصمود في هذه الأزمة من دون الحزب الذي يحكم منطقتي، علينا أن نكون واقعيين”، يقولها ووجهه عبارة عن لا شيء، انعدمت التعابير فجأة وكأنه تقمص وجه رجل آخر تماماً.

وشهد لبنان ابتداء من 17 أكتوبر من العام 2019 حركات احتجاج كثيفة استمرت عدة أشهر وأدت إلى استقالة حكومة سعد الحريري والتي كانت تضم غالبية الأحزاب، وأتى رئيس الحكومة المستقيلة اليوم حسان دياب من دون أن يتغير أي شيء إن على صعيد الأداء الرسمي أو على صعيد الأزمة الاقتصادية التي تستمر في التمدد أكثر.

Demonstrators block a road during a protest in Beirut
شهد لبنان ابتداء من 17 أكتوبر من العام 2019 حركات احتجاج كثيفة

وتراجعت الاحتجاجات من حينها وكان لافتاً أنه بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس الماضي لم يحصل أي رد فعل شعبي يوازي الانفجار الذي قُدر على أنه رابع أكبر انفجار في التاريخ وأدى إلى مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة الآلاف فضلاً عن تضرر آلاف المنازل وتهجير أهلها.

أين الحراك؟  

أين ذهب الحراك وما الذي جعل الناس تتراجع بهذا الشكل؟ 

يُفند الباحث والناشط في حراك 17 أكتوبر ماهر أبو شقرا في حديث لموقع “الحرة” ما وصل إليه اللبنانيون اليوم بـ 3 مفاصل أساسية:

الأول، هناك ناس بعد الأيام الأولى وصولاً إلى تكليف حسان دياب، عادت إلى قواعدها سريعاً وهنا نحن لا نتحدث عن المحازبين الذين نزلوا الأيام الأولى، بل عن ناس عاديين، مناصرين في أقصى الأحوال، كانوا يشكلون الجسم الأساسي من الانتفاضة، عادوا من حيث أتوا، عادوا لنمطهم القديم أي أنهم مستفيدون من الأحزاب ومن النظام الزبائني الذي أنشأته وبالتالي وجدوا أنه لا مصلحة لهم بالابتعاد عن هذا الأمر كونه في مكان ما يُسهّل لهم حياتهم.

المحدد الثاني، هم الجزء الذين هم تماماً ضد المنظومة الحاكمة ولا ينتمون لها بأي شكل من الأشكال، هؤلاء يعتبرون اليوم أن النزول إلى الشارع لم يعد ينفع، يقولون إن لم نسحبهم (الزعماء) من بيوتهم فلا داع للنزول طالما لا شيء سيتغير، خاصة أنهم يعتبرون أن موازين القوى ليست لصالحهم وهنا أتحدث أيضاً عن موازين القوى الخارجية وبالتالي يفضلون أن يبقوا في بيوتهم الآن.

المحدد الثالث بحسب أبو شقرا، التنظيمات، أي المجموعات التي كانت في 17 أكتوبر والتي أيضاً تأسست في تلك الفترة، والتي كانت تدعي الناس للنزول إلى الشارع، هي اليوم ترى أنه ليس هناك مشروع موحد تدعي الناس لتكون معها على أساسه وبالتالي توقفت عن الدعوة لأنها تعلم أنها لن تجد تجاوباً من الناس وهذا حصل كثيراً في محطات عدة.

تذهب البروفيسور في الأنتربولوجيا رولا تلحوق في وصفها للواقع، أبعد من المتوقع، تقول: “كلنا نعلم أن من سكر الطرقات وأشعل المدينة في 17 أكتوبر هو حزب الله بغض النظر لاحقاً ما الذي حصل وكيف تطورت وأفلتت من يده. اليوم ليس لدى الناس العادية القدرة على تسكير الطرقات، وليس لديهم الزخم اللازم للتحرك لأنهم أُلهيوا بالبحث عن قوت يومهم”.

تُضيف في حديث لموقع “الحرة”: “الناس انتظرت الانتخابات الأميركية والضوء الأخضر بعدها لتشكيل حكومة، ليتبين اليوم أن لبنان ليس موجوداً على خريطة دول العالم، حتى الرئيس الفرنسي أتى إلى لبنان لأن له مصلحة بالنفط، وبالتالي الناس رأت أن الاتفاق مع إيران صار قريباً وحتى منجزاً إذا أمكن القول وبالتالي اكتشفوا أن فرصهم بالتغيير تلاشت ولن يحصلوا على شيء ولذلك صار همهم الأساسي هو البحث عن لقمة العيش ليس أكثر”.

برأيها، “الناس تعيش حالة من الانهيار التام أمام ما يحصل اليوم إن كان على صعيد تشكيل الحكومة وهرب الجميع من تحمل تبعات رفع الدعم وحزب الله منشغل في انتظار المتغير الإقليمي الذي سيسمح له بأن يأتي بمن يحلو له رئيساً للحكومة، وأكثر من كل ذلك، الناس شاهدت العاصمة تنفجر بكل معنى الكلمة والعالم وقف متفرجاً من دون أن يحرك ساكناً، ونحن نعلم ألا أحد سيُحرك ساكناً وبالتالي اللعبة صارت واضحة أمام اللبنانيين الذين همهم صار في مكان آخر تماماً”.

وتركزت احتجاجات 17 أكتوبر على المصارف ورفعت شعارات مناوئة للسياسات المصرفية المتعبة ولحاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي تولى إصدار تعاميم مصرفية فاقمت من الأزمة من دون أن يُقدم حلول فاعلة إذ تأخر قانون “الكابيتال كونترول” أكثر من سنة ونصف ويقول المحللون الاقتصاديون إن “إقراره اليوم لن يُقدم أي فائدة بعد أن تم تهريب كل الأموال”.

ومؤخراً، منذ حوالي الأسبوع تقريباً، أصدر سلامة تعميماً جديداً يقضي بإعطاء المودعين جزءاً بسيطاً من أموالهم مقسطاً على دفعات لمدة سنة، وتقول تلحوق: “البنك المركزي يريد إسكات الناس لمدة سنة لأن المصارف لن ترضى بأن تدفع من الأموال التي جنتها على مدى سنين، وبالتالي سلامة يُبيض صفحته اليوم من أجل الرئاسة أو الاستمرارية”.

تضيف: “هذا للمودعين، فيما الناس الفقيرة لجأت للأحزاب لأن لا حل أمامها وهي اليوم تنتظر مساعداتهم، فيما الطبقة الوسطى لا زالت ساكتة ومكتفية بما لديها من مخزون ومن أموال تأتيها من الخارج أو لا تزال تجنيها هنا”.

ما الحل؟ تُجيب: “لا أرى غير ثورة تُطيح ببعض من هم في السلطة ويتعظ الباقي فيرحل، غير ذلك لن يكون هناك من تغيير وهذا الواقع اليوم وبالرغم من خطورته إلا أنه حقيقة، وغير ذلك كلها مضيعة للوقت أعتقد أن اللبنانيين صاروا واعين بأنهم لن يشاركوا فيها”.

ووصل سعر صرف الدولار اليوم في السوق السوداء إلى 15 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد فيما السعر الرسمي لا يزال عند 1515 ليرة للدولار، فيما تراجع التغذية الكهربائية إلى أكثر من 80 بالمئة نتيجة نقص الفيول، كذلك خدمة الإنترنت، وغيرها من خدمات، ويستطيع أي كان ملاحظة غياب عمال الصيانة من شوارع بيروت والمثال الأبرز على ذلك أن إشارات السير التي تخرج عن العمل فإنها لا تعود إلى ما كانت عليه بسبب عدم القدرة على إصلاحها.

يقول أبو شقرا: “الناس فقدت الحلم، حتى حلم الانتقال من الحضيض إلى مكان أفضل صار صعباً. الناس من دون حلم لن تتحرك، والحلم مستحيل الآن”.

الحرة- أيمن شروف – بيروت

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار