ألغى الرئيس السوري بشار الأسد بموجب مرسوم أصدره الإثنين منصب مفتي الجمهورية، من دون أن تتضح أسباب القرار وخلفياته، معززاً في الوقت ذاته صلاحيات مجلس فقهي ضمن وزارة الأوقاف.
ويرى نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي أن ما فعله الأسد حدث وفق خطة ممنهجة منذ عام 2011 تهدف لإحداث تغيير ديموغرافي بهدف إجبار السنة على الهجرة وتدمير مدنهم ومناطقهم واحلال سكان من طوائف بل ومن بلاد أخرى محلهم:
وأصدر الأسد مرسوماً تشريعياً رقم 28، نص على إلغاء المادة رقم 35 من القانون الناظم لعمل وزارة الأوقاف والتي يُسمى بموجبها المفتي العام للجمهورية. كما عزز المرسوم الجديد صلاحيات المجلس العلمي الفقهي في وزارة الأوقاف، الذي يترأسه الوزير وكان المفتي عضواً فيه. ويتكون المجلس من رجال دين من مختلف الطوائف اضافة الى ممثلين للديانة المسيحية.
وكلف المرسوم المجلس بمهام كان المفتي منوطاً بها وهي “تحديد مواعيد بدايات ونهايات الأشهر القمرية والتماس الأهلة وإثباتها وإعلان ما يترتب على ذلك من أحكام فقهية متصلة بالعبادات والشعائر الدينية الإسلامية”، كما “إصدار الفتاوى .. ووضع الأسس والمعايير والآليات اللازمة لتنظيمها وضبطها”.
ولم تتضح أسباب إلغاء منصب مفتي الجمهورية الذي كان أحمد بدر الدين حسون يشغله منذ العام 2004، وهو يُعرف بمواقفه المؤيدة للرئيس السوري.
وهذه ليست المرة الأولى التي يجري فيها الأسد تعديلاً في تنظيم عمل الأوقاف الإسلامية، إذ أنه أصدر في العام 2018 قانوناً منح بموجبه صلاحيات واسعة لوزير الأوقاف، وحدد فيه ولاية مفتي الجمهورية بثلاث سنوات قابلة للتمديد، على أن تتم تسميته بموجب مرسوم بناء على اقتراح الوزير، فيما كان رئيس الجمهورية سابقاً هو من يعين المفتي من دون تحديد مدة ولايته.
وأثار القانون جدلاً إثر صدوره ورأى البعض أنه بمنحه صلاحيات واسعة لوزارة الأوقاف فإنه يكرس سلطة المؤسسات الدينية، واعتبر البعض أنه يعزز قبضة السلطات على المؤسسة الدينية في سوريا بشكل كامل.
وجاء قرار إلغاء منصب مفتي الجمهورية بعد أيام من رد قاس أصدره المجلس العلمي الفقهي على تفسير المفتي حسون لإحدى الآيات القرآنية، واعتبر المجلس التفسير “تحريفاً” وشدد على “عدم الانجرار وراء التفسيرات الشخصية الغريبة”. ورأى البعض في ذلك دليلاً على تعزيز سلطة وزارة الأوقاف ودورها.
ماذا يعني إلغاء منصب المفتي؟
تحدث موقع “الحرة” مع أربعة باحثين في الشؤون الدينية، قدموا عدة قراءات عن الهدف من إلغاء منصب المفتي في البلاد، وما الذي يمثله ذلك في الوقت الحالي.
وتقول الباحثة في الشؤون الدينية، ليلى الرفاعي إن إلغاء منصب المفتي في سوريا “يُعد خطوة جديدة في إعادة هيكلة المجال الديني في سوريا”.
وتعتبرها أيضا “خطوة يسعى وزير الأوقاف عبد الستار السيد إليها منذ توليه منصبه في عام 2008، ثم جاءت الثورة كفرصة لن تتكرر في سبيل هذا التغيير، خصوصا مع تفريغ المجال من طيف واسع من الفاعلين الدينيين بالتهجير أو الاعتقال”.
وتضيف الباحثة في تصريحات لموقع “الحرة” أن منصب المفتي عرفته سوريا تاريخيا بأنه “حكر على رجال دين سنة، وهذا فيه ما فيه من تمثيل ديني لأكثرية سورية”.
وفي المقابل فإن “المجلس العلمي الفقهي ابتُدع حديثا على يد السيّد نفسه عام 2008″، بحسب الرفاعي، مشيرة إلى أنه يضم رجال دين من كافة المذاهب الإسلامية، إضافة إلى ممثلين من طوائف مسيحية، وكان الغرض من إنشائه تلافي الانقسام المذهبي والطائفي التي في المجتمع.
وبناء على ما سبق ترى الباحثة السورية أن “رمزية المفتي السني قد أُلغيت بإلغاء منصبه، وأوكلت الفتوى للفيف من رجال دين ذوي مشارب ومذاهب وأديان مختلفة”.
واعتبرت أن “الفتاوى الصادرة عن المجلس لن تراعي السنة بوصفهم أكثرية، إنما ستتخذ، مستندة على فقه الواقع الذي يجد الحلول المناسبة لمشكلات الناس على الصعد المختلفة، وترسيخا لفقه المواطنة والحوار ونشره في المجتمع عبر الوسائل المتنوعة”.
وتتابع الرفاعي: “مما يعني بطبيعة الحال أن الهوية الدينية السنية الأكثرية تساوت مع هويات أخرى من حيث الرمزية والهيمنة الدينية”.
من جانبه، لا يعتبر الدكتور محمد حبش، مؤسس ومستشار مركز “الدراسات الإسلامية” أن القرارات الجديدة “توجه نحو الحرية”.
ويوضح في تصريحات لموقع “الحرة”: “إلغاء منصب المفتي لم يتم من أجل تعزيز الحريات، بل جاء على حساب مجلس فقهي وعلمي. هذا المجلس سيكون حكوميا بالكامل وقد يمارس سلطات تغوّل وسيطرة على الفكر الحر والاجتهاد”.
ويضيف حبش، الذي شغل منصب عضو مجلس الشعب سابقا: “ربما قد نسمع بقرارات حرم وإبعاد وقرارات تكفير في المرحلة المقبلة، لذلك أعتقد أن الخطوة في الحقيقة تأتي بإطار نزاعات شخصية، وضمن استمرار التطاحن الإداري الذي لا يوجد له حل”.
واعتبر حبش أن “الإجراء (مرسوم الأسد) لم يأت في إطار دراسة موضوعية وأبحاث محكمة وعملية حوكمة، بل اتخذ في ضوء نزاعات وصراعات وتنافس طاحن يعرفه الجميع. هو صراع مراكز قوى”.
المفتي يغيب كشخص
وحاول موقع “الحرة” التواصل مع المكتب الإعلامي للمفتي العام لسوريا، أحمد بدر الدين حسون، إلا أنه لم يتلق أي رد حتى اللحظة، وذلك للحصول على رد يتعلق بخلفيات المرسوم الرئاسي.
وقال عضو “المجلس العلمي الفقهي” الشيخ محمد شريف الصواف لإذاعة “شام إف إم”، التي تبث من العاصمة السورية دمشق، إن “المرسوم الجديد ينص على أن تصبح صلاحيات الإفتاء كاملة للمجلس العلمي الفقهي، وتوسيع صلاحياته مع إدخال أمور أخرى لم تكن سابقا ضمن اختصاصه مثل قضية الإشراف على المواقيت الدينية وغيرها”.
وأضاف الصواف الثلاثاء: “ستغيب صفة المفتي كشخص، وسيصبح المجلس العلمي الفقهي هو المفتي. لن يكون هناك أي فروع للمجلس، بل سيضم ممثلين من المذاهب الفقهية كافة ومن جميع المدن”.
من جهته يعتبر المتحدث باسم “المجلس الإسلامي السوري”، مطيع البطين أن المرسوم الذي أصدره بشار الأسد “تغيير للهوية السورية”.
ويضيف لموقع “الحرة”: “هو استكمال لعمل قام به النظام السوري والإيرانيون، ويستكمل الآن بجانب آخر من خلال القوة الناعمة”.
ويرى البطين أن “إلغاء منصب المفتي يعني الشيء الكثير، أي إلغاء مسألة رمزية كانت تعبر عن التدين لأغلب السوريين، وتعبر عن مكانة الدين في المجتمع السوري”.
ورغم أن المفتي يعيّن من قبل الأسد، وأنه تحوّل إلى “أداة من أدوات النظام السوري، لكن المسألة أبعد من ذلك”، بحسب المتحدث باسم المجلس الذي يتخذ من مدينة إسطنبول مقرا له.
في المقابل، لا يرى الدكتور محمد حبش أن إلغاء المفتي من شأنه أن “يغيّب الهوية الدينية”، موضحا أن “رمزية المفتي خلال السنوات العشر لم تكن تقدم أي شيء إيجابي لصالح الهوية الدينية للسوريين، بل كانت أداة بيد السلطة ومارستها بشكل مخزٍ وأصبحت تحرج الموالين والمعارضين وكل من ينتمي إلى سوريا”.
ويضيف حبش: “لا يرتبط الأمر بهوية الوطن السوري. هذا الوطن له تاريخ والجميع يحترم قيم الإسلام، ولا يتوقف الأمر على منصب”.
لكن الباحث بالشؤون الدينية يبدي تخوفا من أن “يغيب المنصب الشرفي للعمل الديني لصالح مجلس كهنوتي يملك صلاحيات الحرم والإبعاد والتكفير وغير ذلك. نكون بذلك قد تراجعنا بالفعل لعقود كثيرة إلى الوراء”.
ويتابع: “بقاء وجود المفتي على جميع علّات ما كان عليه المنصب قد يكون أقل سوءا من وجود جهاز حكومي ديني كهنوتي يمارس سلطات قهرية ضد الحرية وفي خدمة الاستبداد”.
ما دلالات التوقيت؟
وهذه ليست المرة الأولى التي يجري فيها الأسد تعديلا في تنظيم عمل الأوقاف الإسلامية، إذ أنه أصدر في العام 2018 قانونا منح بموجبه صلاحيات واسعة لوزير الأوقاف.
وحدد في المرسوم ولاية مفتي الجمهورية بثلاث سنوات قابلة للتمديد، على أن تتم تسميته بموجب مرسوم بناء على اقتراح الوزير، فيما كان رئيس الجمهورية سابقا هو من يعين المفتي من دون تحديد مدة ولايته.
وأثار القانون جدلا عند صدوره، ورأى البعض أنه بمنحه صلاحيات واسعة لوزارة الأوقاف فإنه يكرس سلطة المؤسسات الدينية، واعتبر البعض أنه يعزز قبضة السلطات على المؤسسة الدينية في سوريا بشكل كامل.
ويرى الكاتب المتخصص بقضايا التيارات والمدارس الإسلامية، محمد خير موسى، أن “عزل المفتي الذي يمثل المذهب السني يعني أنه لم يعد مرجعية شرعية للدولة السورية، وبالتالي السنّة لم يعودوا في نظر النظام أكثرية، بل تحولوا إلى طائفة من الطوائف للإفتاء”.
ويقول الباحث في تصريحات لموقع “الحرة”: “الإشكالات التي حصلت مؤخرا والمتعلقة بتفسيرات حسون لسورة التين هي مجرد استثمار لما يريده النظام”.
واعتبر أن المفتي السابق أحمد حسون كان قد همّش بالفعل منذ أكثر من 3 سنوات، ولم يعد له أي وجود على الخارطة الدينية، في العامين الماضيين.
ويضيف خير موسى: “نرى عملية تأليب مجتمعي وتسليط الضوء على هذه الإشكالية، من أجل أن يتقبل المجتمع المجلس الفقهي العلمي. الأمر مرتّب وبعيد عن الإشكالات الأخيرة”.
في حين يستبعد الناطق باسم “المجلس الإسلامي السوري”، مطيع البطين أن يكون إلغاء المفتي أمرا مؤقتا، ومرتبطا بالإشكاليات الأخيرة.
ويقول: “المجلس العلمي الفقهي تم تشكيله منذ سنوات وكان واضحا أنه مهيئ لهذا الأمر. تفسير حسون سبب مناسب لإبعاده، وتم استغلال الأمر لإلغاء منصب المفتي”.
“مؤشرات تؤسس”
وفي غضون ذلك تشير الباحثة في الشؤون الدينية، ليلى الرفاعي، إلى خلفيات كانت قد شهدتها السنوات الماضية، وتؤسس لما يحصل اليوم.
وتقول الرفاعي: “ثمة جذور للصراع بين حسون، ذي الشبكات الاجتماعية الحلبية، وعبد الستار السيد الذي تتولى عائلته بشكل تاريخي منصب الافتاء في طرطوس -والد السيد، والسيد، وابنه حاليا”.
وبدأ هذا الصراع قبل أكثر من عقد، أي منذ تولي السيد لمنصب وزارة الأوقاف، وسعي كل منهما إلى التقرب أكثر من النظام السوري.
وبحسب الباحثة السورية: “هذا الصراع مرتبط أيضا بتهميش رامي مخلوف (الذي يملك ابن حسون حصة في شركة مملوكة لبلال النعال المقرب منه)، وبالصراع الروسي الإيراني الذي يمثل السيد به جناح موسكو، مقابل قرب حسون من طهران”.
“لكن السيد كان متقدّما دائما على حسون، وقادرا على سحب صلاحياته تدريجيا، وكان ثمة مؤشرات على الوصول لهذه النقطة”، وفق الرفاعي.
ومن المؤشرات التي ظهرت على الساحة الإعلامية مؤخرا تسريب مكالمة الحسون في تفاوضه على فدية الإفراج عن ابنه نهاية عام 2018، ومن ثم اختفاءه شبه الكامل عن الإعلام (بما في ذلك وكالة الأنباء الرسمية سانا)، طيلة النصف الأول من عام 2020.
كما غاب عن عدة فعاليات رسمية كبرى، مثل زيارة العلماء لقبر حافظ الأسد في الذكرى العشرين لوفاته، بجانب تصدر “المجلس العلمي الفقهي” للمشهد الديني أثناء جائحة كورونا، مع غياب الحسون شبه الكامل.
المصدر: الحرة+يورونيوز+التلفزيون الالماني