البابور الموقع العربي

تحالف الاستبداد والفساد يفتك بمصر والعالم العربي

397

د. نادر فرجاني

جدير بالتذكر بداية، الحجم الهائل للفساد المال الذي يطال عشرات المليارات ويتسبب في قتل الآلاف من البشر في حوادث الفساد والإهمال المحمي، أو المتستر عليه، رسميا. وقد ساهم في استشراء الفساد، على عكس ادعاءات الحكم التسلطي، توافر موارد مالية ضخمة للسلطات الحاكمة لا تخضع لمراقبة أو محاسبة صارمة كما تقضى أنظمة الحكم المؤسسي الصالح.

ونقترح تبنى مفهوم شامل للفساد، يتجاوز على وجه الخصوص المفهوم المحدود المتبنى من منظمة الشفافية الدولية، والمقتصر على الفساد في معاملات الأعمال. ويتعدى التعريف المقترح حتى التعريف الأوسع السائد الذي يعرف الفساد على أنه ” اتخاذ القرارات في الشأن العام، فيما يتصل بتخصيص الموارد الاقتصادية وتوزيع العائد الاقتصادي، وفق اعتبارات المصلحة الخاصة، وليس وفق الصالح العام، أو بالتضاد معه”.

ونقترح هنا تعريف الفساد بأنه “الاكتساب غير المشروع أو من دون وجه حق – لعنصري القوة في المجتمع السلطة السياسية والثروة”.

وعلى هذا، فإن مرض الفساد يمكن أن يصيب القوة في المجتمع: السلطة السياسية والثروة». وعلى هذا، فإن مرض الفساد يمكن أن يصيب من حيث المبدأ، جميع قطاعات المجتمع، بدرجة أو بأخرى، كما تشهد على ذلك أحوال مصر حاليا. وقد تبنى الكتاب الحال دون اتفاق مسبق، هذا المفهوم الواسع للفساد. على صعيد الدولة، قد ينخر الفساد في الجهاز التنفيذي (بما في ذلك أجهزة الأمن والخدمات وحتى مؤسسات الرقابة والمحاسبة والمحليات)، ويمكن أن يطال المؤسسة التشريعية، والعامة الكبرى أن يصل الفساد مؤسسة القضاء.

ويمثل القطاع الخاص الهادف للربح المحضن الأساسي للفساد، خاصة في ظل ضعف أدوات الضبط المجتمعي الحافز الربح واستشراء ذهنية الربح السريع، وانتفاء الحكم الصالح في أدوات الضبط المجتمعي الحافز الربح واستشراء ذهنية ح السريع، وانتفاء الحكم الصالح في القطاع الخاص المنفلت كما هو الحال في مصر، ويشمل التهرب من الضرائب. وفي هذا، تفسير لتركيز منظمة الشفافية الدولية» على الفساد في معاملات الأعمال مع الدولة أو مع مشروعات القطاع الخاص الأخرى.

وفى ظل فساد البنية المؤسسية للبلدان التي ترزح تحت أنظمة حكم فاسدة ومستبدة، والسمتان لصيقتان، قد يطال الفساد مؤسسات المجتمع المدني (بالمعنى الواسع المتضمن المنظمات المجتمعين المدني والسياسي). وهنا يبدو التناقض واضحًا بين الدور الطليعي المنشود لمنظمات المجتمع المدني، إن صلحت، في قيادة الإصلاح السياسي ومسيرة التنمية الإنسانية، وواقع المجتمع المدني فى البلدان العربية في الوقت الراهن؛ مما يدعو كثرة من المحللين للتساؤل عن إمكان الاعتماد على المجتمع المدني الحالي لقيادة الإصلاح في الوطن العربي.

ولا يسلم القطاع العائلي من الفساد شاملا التهرب من الضرائب، وما يسمى أحيانًا “الفساد الصغير” الذي يقوم على توسل العصبية والوساطة والرشوة لقضاء المصالح. ولعل القارئ لا يختلف في أن الفساد، وفق هذا التعريف، قد ضرب في أرجاء المجتمع المصري.

وعند التصدي لمناهضة الفساد في مجموعة من البلدان التي يجمعها سياق ثقافي واحد مثل البلدان العربية، يثور التساؤل عن موقع الفساد في الثقافة السائدة، بعبارة أخرى يثار السؤال: هل تتيح للثقافة العربية الإسلامية مناحا مؤاتيا لاستشراء الفساد؟

والإجابة هي: أن الثقافة العربية الإسلامية، في ينابيعها الأنقى، تذم الفساد بشدة وتدينه أشد الإدانة. انظر مثلا في أحكام القرآن الكريم. “وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدُ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ [البقرة: 205].

إلا أن تلك الإدانة القاطعة للفساد في الينابيع الأنقى للثقافة العربية الإسلامية لا تنفى أن بعض البنى الاجتماعية الاقتصادية والسياسية العربية التي تتغذى على العصبية والولاءات الاجتماعية الأدنى من المواطنة، في غيبة مؤسسات المجتمع المدني الحديثة وضيق المجال العام بسبب التضييق على الحريات وخلل الحكم، تشكل بيئة خصبة لانتشار الفساد.

ويبقى الجذر الأصيل لاستشراء الفساد في البلدان العربية، وهو تزاوج وجهي القوة “السلطة السياسية والثروة” في نظم الحكم الاستبدادية الراهنة.

مغبة الفساد

في المنظور الاقتصادي البحت، يشكل الفساد هدرا للموارد التي تتسم بالندرة، خاصة في البلدان النامية. وفى المنظور التنموي الأوسع، يعطل الفساد فرص التراكم الاستثماري المنتج في الأصول البشرية والمادية، ويقوى من قيم وسلوك الربح السريع من خلال توظيف الريع على الحظوة من وجهي القوة (السلطة والثروة)، بدلا من العمل المنتج المحقق للصالح العام.

ويساعد انتشار الفساد على زيادة حدة الاستقطاب الاجتماعي من خلال تدهور عدالة توزيع الدخل والثروة؛ مما يقلل من الكفاءة المجتمعية ويعطل فرص التنمية. وعلى وجه الخصوص، يوطد استشراء الفساد من أسس سوء الحكم من خلال قيام تزاوج خبيث بين السلطة السياسية والثروة، بحيث تصبح غاية نسق الحكم ضمان مصالح القلة المهيمنة على مقاليد السلطة والثروة وليس الصالح العام، الأمر الذي ينعكس في تهميش الغالبية أو إقصائها، ما ينطوي على حرمانها من الحرية بالمعنى الشامل (القضاء على جميع أشكال الانتقاص من الكرامة البشرية. وبناء على كل ذلك، يعوق الفساد فرص التنمية، ويقلل على وجه الخصوص من إمكان تمتع عامة الناس بالحرية والعدالة.

جدل الفساد.. الفساد – الحكم

وعلى النقيض، يقضى الحكم المؤسسي الصالح (دولة المؤسسات، الفصل بين السلطات والتوازن بينها تمثيل عامة الناس الشفافية والإفصاح والمساءلة، سيادة القانون واستقلال القضاء على فرص الفساد، ويفتح من ثم أبواب التنمية الإنسانية.

وفى مصر على وجه الخصوص؛ حيث تتعايش حالة استثنائية من العجز التنموي والإخفاق الوطني، قومياً وإنسانيا، يتضافر سوء الحكم مع استشراء الفساد في مناحي الحياة كافة حتى قاربت كل مدونات السلوك الرشيد أن تخلى السبيل تماما لتنويعات مريعة على لحن الفساد المزعج.

ولعل أشد نواحي الفساد ضراوة هو تسلل الفساد إلى «المؤسسات» التي يفترض أن تكون في مقدمة الحرب عليه مثل القضاء والمجالس النيابية.

في مثل هذا المناخ الكئيب، تصبح متلازمة إقامة الحكم المؤسسي الصالح والقضاء على الفساد بمثابة المدخل الأرحب لنهضة عربية راقية إنسانيا.

فكما أشرنا فيما سبق، يضع مجتمع الحرية والحكم المؤسسي الصالح الأسس المتينة للقضاء على فرص الفساد ولمحاصرته في أضيق الحدود حين ينشأ يضمن هذه النتيجة الحميدة الحكم المؤسسي الصالح والمبادئ التي تحكم نشاط مكوناته.

غير أن العلاقة بين الفساد والحكم تعمل في الاتجاه العكسي أيضًا؛ حيث يحرف استشراء الفساد عملية اتخاذ القرار في المجتمع عن غاية خدمة الصالح العام، وتوجيهها لخدمة مصالح القلة المتنفذة، وهي عادة الأشد ضلوعا في الفساد. ومن ثم فإن النجاح في مقاومة الفساد يغل يد الضالعين فيه عن المساهمة في إفساد الحكم.

مع ملاحظة أنه في ظل أنظمة الحكم الاستبدادية المنتجة بطبائع الأمور للفساد، يكاد يستحيل القضاء المبرم على الفساد. والمغزى الرئيسي لهذا التشخيص هو أن مكافحة الفساد بحاجة لأن تسير جنبا إلى جنب مع النضال من أجل مجتمع الحرية والحكم الصالح. لكن مصر تمر بمأزق على صعيد الحرية والحكم، فحواه الأساس فشل أنظمة الحكم الراهنة عن الوفاء بطموحات الشعب العربي المشروعة في الحرية والعزة والكرامة. ويكتمل استحكام المأزق من حيث إن أنظمة الحكم القائمة لا تعد بإصلاح عميق من داخلها والقصد بالإصلاح

العميق هنا هو تعديل توزيع القوة السلطة الثروة في البلدان العربية، بحيث تستعيد عامة الناس نصيبها العادل منها، وإعادة تأسيس أسلوب ممارسة القوة في نسق مؤسسي للحكم الصالح. بل يمكن القول بأن أنظمة الحكم الراهنة تجد مصلحتها، ولا غرابة، في تعطيل مثل هذا الصنف من الإصلاح العميق، وإن أبدت أحيانًا عدم ممانعة في القيام ببعض إصلاحات التجميل هيكل نسق الحكم المختل القائم خاصة استجابة لضغوط خارجية.

وينتهي هذا المأزق باستفحال أزمة التنمية في البلدان العربية مع انسداد أفق العمل السلمي الفعال لحلها لمصلحة عامة الناس. ويتجلى هذا الانسداد بأجلى صوره في استبداد السلطة التنفيذية بالدولة التي قد تختزل في الفرد رأس السلطة، مع التضييق على الحرية، خاصة ثلاثية الحريات المفتاح للرأي والتعبير والتنظيم في المجتمعين المدني والسياسي، والعمل على تطويع واستلاب ما ينشأ من منظماتها لخدمة الحكم القائم. وليس بمستغرب، والحال كذلك أن يبقى المجتمع المدني بالمعنى الواسع، مغلولًا، ومن ثم ضعيفًا وهامشياً.

دور المجتمع المدني

غير أن تأمل بدائل مستقبل مصر بدءًا من اللحظة التاريخية الراهنة، ينتهي إلى الدور المحوري الذي يمكن أن يلعبه مجتمع مدني قوى وحيوي، في إنجاز التحول التاريخي نحو مجتمع الحرية والحكم الصالح، باعتباره طليعة مجتمعية تتقدم هذا النضال المجتمعي الشاق. وعلى وجه الخصوص، فإن مثل هذا المجتمع المدني مطلوب لمكافحة الفساد على الطريق إلى مجتمع الحرية والحكم الصالح.. وفي مجتمع الحرية والحكم الصالح، يتكامل هذا المجتمع المدني مع الآليات المؤسسية الأخرى للحكم الصالح في القضاء البات على الفساد.

إعاقة العدالة في حكم الفساد والاستبداد

في مجتمع الحرية والحكم المؤسسي الصالح الذي نتمناه جميعا، يخضع المتهمون بالفساد المحاكمات عادلة وفق قانون يحمى الحرية ويصون حقوق الإنسان، بما في ذلك المتهمون بالإجرام في حق الناس والمجتمع.

ولكن تحالف الاستبداد والفساد القائم يعوق الانتقال المجتمع الحرية والحكم الصالح لإطالة أمد إحكام قبضة الشلل المتنفذة على مقاليد القوة السلطة والثروة) في المجتمع واستفادتهم منها، هذا سبب، والسبب الثاني لاستماتتهم في الإبقاء على الوضع الراهن هو تأكدهم من أن قدوم مجتمع الحرية والحكم الصالح سيستتبع لا محالة تقديمهم للمحاكمة لقاء ما اقترفت أيديهم في عهد الاستبداد والفساد. ولعل أبرز أشكال تعويق مكافحة الفساد على وجه التحديد هو تصميم أنظمة حكم الفساد والاستبداد على الحد من استقلال القضاء، خاصة فيما يتصل بمنصب المدعى العام أو النائب العمومي.

فالقضاء حصن الحق والحرية في مجتمع الحكم الصالح الذى تمثل سيادة القانون المنصف والحامي للحرية، على الجميع على حد سواء، في ظل قضاء مستقل قطعا، أحد أهم أركانه.

ولذلك تسعى أنظمة الحكم السيئ القائمة في البلدان العربية لتضمين النصوص القانونية مقومات استمرار الفساد والاستبداد وللانتقاص من استقلال القضاء حتى لا ينهض بوظيفة حماية الحرية وصيانة الحقوق، وفى منظور مكافحة الفساد، يكتسب استقلال وظيفة الادعاء العام أهمية حرجة. فالنائب العام الذي يخضع للتعيين، أو لأى شكل من الثواب والعقاب من قبل السلطة التنفيذية أو رأس الدولة يمتنع عليه تحريك الدعوى العمومية في قضايا الفساد، خاصة صنفه المحمي رسميا أو الضالع فيه كبار المتنفذين بل تدل الخبرة على أن مثل النائب العام هذا قد يسهم في حماية ذلك الصنف من الفساد بالتهاون في تحريك الدعوى أساسا، ومن خلال حفظ التحقيق إن أقيمت الدعوى العمومية، وحتى بتيسير هروب المتهمتين من العدالة في قضايا الفساد الكبرى.

ومن المهم، في تقديري، أن تقام محاكمات شعبية لرموز الفساد الكبرى، وما أكثرها، بواسطة منظمات المجتمع المدني وفى وسائل الإعلام، حتى يحين وقت المحاكمات الأصل لجرائم الفساد تحت سلطان قضاء مستقل قطعا. وفوق المساهمة في مكافحة الفساد، ستسهم هذه المحاكمات الشعبية إضافة في تسريع الانتقال إلى مجتمع الحرية والحكم المؤسسي الصالح.

هذه النص هو تقديم الدكتور نادر الفرجاني لكتاب ” اقتصاديات الفساد في مصر”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار