البابور الموقع العربي

تقاسيم فلسطينية.. قصص قصيرة للدكتورة سناء الشعلان عن المقاومة الفلسطينية (1)

1٬102

بحر أسود

   د. سناء الشعلان

مرّات قليلة هي المرّات التي سُمح لعائلتها فيها بأن تصل إلى شاطئ غزّة، وأن تقضي وقتاً سعيداً في مداعبة مياهه الزرّقاء الصّافيّة، أمّها أخبرتها إنّه صافٍ مثل قلوب الشّهداء.

  عندما استيقظت هذا الصّباح وجدتْ بيتها يكاد يغرق في مياه قذرة منتنة الرّائحة قد اجتاحتْ شوارع حيّها وزقاقه، إنّها مياه الصّرف الصّحيّ التي أطلقها الصّهاينة عليهم من جديد كي يعذّبوهم أكثر فأكثر؛ ابنتها الصّغيرة تسألها بفضول، وقد أدهشها اللّون الأسود القاتم الذي ابتلع الشّوارع، ثم ابتلع أرضيّة بيتها: “بحرنا لونه أزرق، فهل هذا البحر الأسود للصّهاينة؟” أجابتها الأمّ بقرف من الرّائحة الكريهة التي تزكم أنفها: “نعم، إنّه بحرهم”.

الصّبي المحظوظ

 ربتَ رجلٌ أشقر نحيف ككلب سلوقيّ جائع على كتفي ذلك الصّبي الذي رأى بأمّ عينيه ذبح أفراد أسرته الفلسطينيّة على أيدي الجنود الأبالسة الصّهاينة، ثم داعب شعره الخاروفيّ الأجعد بحنان مصنوع مزخرف، وقال لصحفيّ يسجّل كلامه في ورقه دفتر جلديّ صغير: “بوصفي رئيس طواقم الإغاثة للنّازحين الفلسطينيين أستطيع القول إنّ هذا الصّبي محظوظ جدّاً؛ إذ نجا من الموت في حين ذُبح أهله في طرفة عين”.

   حاول الصّحفي أن يسجّل على عجل كلام الرّجل الأشقر النّحيف، لكنّ قلمه عصاه، فما استطاع أبداً أن يكتب كلمة (محظوظ)، وكتب بدلاً عنها كلمة (منكوب)، وأبى القلم بعدها أن يكتب أيّ كلمة أخرى؛ إذ دخل في محراب الخجل من عار الإنسانيّة الصّامتة!

القيامة

   ينُفخ في الصّور نفخة ثانية، فيبُعث البشر أجمعون كرهاً وطوعاً، البشر في محشر عظيم، الجميع يحملون أعمالهم فوق أعناقهم إلّا الفلسطينيين؛ فإنّهم يحملون فلسطين على رؤوسهم، يقفون بها أمام الرّب ليتشفّعوا بها لهم وللأهلين ولكلّ مَنْ ضحّى لأجلها.

الوليد

   هذا الوليد جاء في يوم رحيل والده عن الحياة، وُلد على المعبر الذي يفصلهم عن أقرب مشفى، نزل من بطن أمّه على إسفلت الشّارع العموميّ بعد أن جرّه الطّلق خارج رحمها على كرهٍ منها، وهي تنتظر أن يُسمح لها بأن تصل إلى المشفى.

 الجنود الصّهاينة أخرجوها وزوجها من السّيارة الأجرة التي يستقلانها للوصول إلى المستشفى، وأجبروهما على أن يركعا أرضاً لإذلالهما، هي تكوّمتْ بعجز على الأرض تكابد صعقات طلقٍ تمزّق لحمها، وزوجها رفض أن يركع أمامهم بذل، فأردوه قتيلاً بطلقات ناريّة خطفتْ شعلة الحياة من صدره.

  عاد الأب والابن الوليد إلى بيت الأمّ الجدّة محمولين على الأكتاف؛ الأمّ الجدّة غسّلتْ ابنها الشّهيد، وحمّلته في نعشه ليُصار به إلى قبره الجنّة، لم تحزن عليه، ولم توّدعه بدمعة، بل ودّعته بابتسامة تليق بأمّ شهيد صبورة، وانكفأتْ بصمتٍ تحمّم حفيدها الوليد، وتطعمه، وتصلح شأنه، وتنتظره ليكبر كي يأخذ بثأر ابيه الشّهيد الذي قتله الصّهاينة في يوم مولده.

أقدام

      قدماها أُستشهدتا في المعركة كما أُستشهد أهلها جميعاً، كانوا متحلّقين على طاولة خشبيّة قصيرة ينتظرون أذان المغرب كي يفطروا عندما التهمتهم قذيفة صهيونيّة.

    جاء العيد وهي وحيدة في المشفى، زارها أصدقاؤها في المدرسة برفقة بعض معلّماتهم، جميعهم كانوا يلبسون أحذية جلديّة متشابهة قدّمها متبرّع ما من خارج فلسطين في شحنة كبيرة أرسلها هبة من مصنعه الخاصّ للأحذية.

   حذاؤها كان إلى جانب رأسها، هو حصّتها من هدية العيد، لم تعد عندها قدمان لتلبس هديّتها.

 شعر أصدقاؤها بالذّنب، وهم يختالون أمامها بأحذيتهم الجديدة، وهي كسيرة الخاطر دون قدمين.

 في اليوم الثّاني من العيد جاؤوا جميعاً لزيارتها حُفاة الأقدام دون أحذية جديدة تختال بفخر في عيدها الحزين.  

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار