البابور الموقع العربي

عَسكرة المشاعر في الجيوش الحديثة

570

عَسكرة المشاعر في الجيوش الحديثة: معنى أن تكون جندياً (1)

مجدي عطية

مُفتَتَح تنفيذي

“الجندي لا يولد جنديّاَ، وإنما يصبح كذلك”، (مقولة عسكرية).

“لم أدخل الجيش لكي أصبح أنا نفسي، وإنما كي أصبح شخصٌ آخر”، (الرقيب يوهان دوادي).

“لماذا يشتاق قدامى الجنود للحرب؟ لأنه مقارنة بذلك النوع من العزلة، تبدو الحرب سهلةً نفسياً، هذا ما يجب علينا فهمه، وإصلاحه بطريقة ما في مجتمعنا”، (سيباستيان جانغر: 2014).

“القتال، هو أولاً اقتحام عالم قلّما كانت مساحته أكبر من بضعة مئات الأمتار، وفي لحظات لا تزيد في الغالب عن بضع ساعات. هذا المحيط الجديد هو عملياً اختراق لعالم ادراكاتنا المعتادة، هو مكان ما بين الحقيقة والوهم، تجد نفسك فيه مجبرا وبكل حواسك على تشرّب كل مشاعر حياتك في دقائق معدودة”، (ميشيل غويا: 2014).

“أن تصبحَ محارباً، يعني أن تحمل نفسك طوعاً للغوص في أعماق العنف، يعني أن تقبل ما يبثه ذلك فيك من الخوف من أن تتحطّم أو أن تتشوّة روحك كما جسدك. يعني أن تقبل سلخك عن نفسك كي تنجو وتتقدّم في عالم يَعدُك بالسحق في كل ثانية. الذي يبقى ويقاوم هذا كلهّ في أرض المعركة، هو إذن شخصٌ آخرٌ في آخِر النفق”،(غويا مجدداً).

كيف يصبح الأفراد جنوداً؟

هذا هو السؤال الرئيسي الذي سنحاول في هذا الملفّ البحثيّ أن نجيب عليه، وهو بالأساس مادة تمّ العمل عليها لاجتياز إحدى مساقات الدراسات العليا (الإدراك والعواطف) مع الآنثروبولوجي البلجيكي في جامعة نيس آرنولد هالوي، في حين، تمّ نقلها إلى العربيّة تحت إشراف الأستاذ الباحث في دائرة سليمان الحلبي خالد عودة الله. ولذلك، ما سنعرضه ليست نصوصا متفرقّة تم تجميعها بقدر ما هي مادّة بحثيّة واحدة تمّ تجزئتها على أربعة فصول ليسهل على القارئ والمهتمّ التعامل معها.

في الفصل الأول، سنتناول قضيّة المشاعر، تطورّها، فلسفتها، ومن ثمّ مكانتها ودورها في الحياة اليوميّة وإدارة الواقع الاجتماعي. وقد آثرنا التفصيل في هذا الموضوع قليلاً، نظراً لضعف الدارسات العربية في هذا المجال.

في الفصل الثاني، سنحدّد موقع هذه الدراسة ضمن المشروع الذي يحتويها من خلال محاولة الإجابة على سؤالين رئيسيين: هل يخاف الجنود، وممّ يخاف الجنود؟ أما المقصود بالمشروع الذي تندرج هذه الدراسة في إطاره، فالحديث عن أطروحة الماجستير التي نحن بصدد الاشتغال عليها، والتي تتطرق لدوافع جنود المشاة في الجيش الفرنسيّ في انضمامهم إلى الجيش، وصيرورات الإعلان عنهم كجنود.

وقد خصصنا الفصل الثالث قبل الأخير للتعريف بالخوف، وهو الحالة الدراسية التي اعتمد هذا البحث ملاحظتها والتركيز عليها لفهم آليات صناعة الجنود في الجيوش الحديثة، وهذا هو ما سنتطرق إليه بالتفصيل في الفصل الأخير الذي يحمل عنوان: خمس آليات ممكنة في عسكرة المشاعر.

(2)

في العام 1872، ختم شارلز داروين كتابه “التعبير عن العواطف عند الانسان والحيوانات” بالتأكيد على أنّ نشوء هذه العواطف في التاريخ التطوري للإنسان وبسببه كان بالضرورة لتحقيق رفاهيّة، أو لنقل مصلحة ما لهذا النوع.

لم يقصد داروين بهذه الرفاهيّة للنوع الانساني (welfare of mankind) أن تأخذ فقط شكل المتعة، فهي ليست حاجة ثانوية، وإنما يصحّ القول لو أردنا إعادة صياغة كلامه، أنه في لحظة ما في هذا التاريخ التطوري العام، برزت العواطف كأداة تكيفية لضمان تحقّق العملية التطورية، أو بكلمة واحدة، البقاء[1]، وما أن أثبتت العواطف جدارتها في هذه المهمة حتى تحولت إلى ذاكرة ثانية في الجسد تضمن استمرار سير العملية التطورية، فكل شعور إذن هو ذاكرة، كما يقول صديق داروين وعالم الأحياء البريطاني توماس هنري هاكسلي، هو بقاء الماضي في الحاضرة وتجمعه فيه[2].

نسبة لداروين، تطور العواطف لدى الرئيسيات لعب دوراً تدريجياً على مستويين اثنين، نجده في كتاب “نشأة الانسان والانتقاء الجنسي” يتحدّث بداية عن عدّة تعبيرات عاطفيّة لدى الانسان والحيوان تشير مرة إلى القلق، الخوف، الغضب، الخ… وتعبيرات أخرى تشير إلى الحبّ، والتعاطف، وغيرها، ونفهم من ذلك أنّ هذه التعبيرات العاطفية من المستوى الأول، لعبت بالفعل دوراً حقيقياً وإن كان بشكل غير مباشر أحياناً في البقاء [3].

أما المستوى الثاني من هذه التعبيرات، وهي الأقلّ صراحةً في الكشف عن نفسها، يتحدث فيه داروين عن صنف آخر من العواطف التي يقرّ بأهميتها وفي نفس الوقت صعوبة ملاحظتها لدى الانسان والحيوان، وهي ما أطلق عليها تعبير “العواطف الرمزيّة” المسؤولة لاحقاً عن تشكيل أولى أساسيات القدرات العقلية العليا لدى النوع الانساني[4]، وهنا بالتحديد، تشبّثت “الداروينية الاجتماعية” و “الآنثروبولوجيا المعرفية” بقوة ،لشرعنة حديثها عن ظهور القدرات الأولى لدى الإنسان للوصول إلى الرمزيّ، كاللغة، القصديّة، التعاون، الاجتماع، الدين، وغيرها.

بعد هذا الاكتشاف الأصيل لشارلز داروين، والذي تمثّل عملياً في لفت انتباه الأنظار العلمية إلى حقيقة ودور العواطف في الحياة الانسانية، كانت الخطوة الأولى اللاحقة لعالم النفس الأمريكي ويليام جيمس الذي نشر عام 1884 أول مقالة علمية متخصصة حملت كعنوان لها سؤال “ما العاطفة؟”، وكان تعريفه لها على النحو الآتي: “هي حالة ذهنيّة يؤخذ بها الفرد وتظهر علاماتها على الجسد“[5].

ولا داعي هنا الخوض في النقاش الكبير الذي خلقه هذا التعريف، والذي تمثّل عملياً في صراع بين تيارين، تيار تبنّى سابقية ادراك الحالة على عرضها، وهو تيار جيمس بطبيعة الحال، وتيار آخر يمكن اختصاره في معنى الآية القرآنية “لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا”، أي أنه قدّم تجلّي الشعور بالفرار على إدراك ماهيته كرعب، وهو في نفس الوقت صراع بين فطريّة العواطف واكتسابها نحن في غنى عنه الآن[6].

على أيّة حال، بالرغم من أوليّة وضعف التعريف الذي قدمه جيمس، إلا أنه فتح بنصه ذاك باباً واسعا لدراسة العواطف في العلوم الانسانية، البيولوجيا، علم النفس، الخ. وما يهمنا منها، هي تلك الدراسات التي اهتمت بدراسة العواطف وتعبيراتها كظاهرة مرتبطة بالتفكير والسلوك الانساني.

أنا أشعر، أنا موجود!

لم تكن العلوم وحدها هي من اهتم بطرح سؤال العواطف، ومعنى هذا بالضرورة، أن أهمية المشاعر لم تقف في تاريخ الحديث عنها عند حدود “البقاء” كحاجة طبيعيّة ملحّة. فقد اهتمّت الفلسفة منذ بروزها بمعالجة هذه القضية، ولعلّ الآنطولوجيا وهي أحد فروع الفلسفة الذي حمل على عاتقه سؤال الوجود (ما معنى أن توجد؟) هي المجال الذي لمع فيه نجم المشاعر كثيراً، ويمكن لأي قارئ في الفلسفة ملاحظة  تردد قضية القلق عند أعلام هذه الفلسفة مثلاً

أما ما يهمنا نحن في هذا المجال الواسع، هو ما تقدّم به المتصوّف والفيلسوف الايرانيّ محمد حسين الطبطبائي. لقد حلّ الطبطائي بفطنته إشكالاً عجزت عنه كافة أعلام الفلسفة الآنطولوجية في تاريخها، وهو بيان كيف يظفر الانسان بمفهوم الوجود.

ففي حين ذهب العقليّون وزعيمهم ديكارت إلى القول بفطريّة هذا المفهوم، وكذلك كانط الذي اعتبره أحد المفاهيم الرياضيّة المصنفة في زمرة المفاهيم الفطرية لديه، وقول الحسيّين وزعيمهم جون لوك بأن “ليس هناك تصوّر في العقل لم يكن قبل في الحواس” وهكذا الامر لمفهوم الوجود، قال الطبطائيّ بسقم هاتين النظرتين، العقليين “حيث فرضوا للعقل خصوصية ذاتية في إبداع بعض المفاهيم، دون تدخّل أي قوّة أخرى”، والحسّيين “حيث حصروا فعالية العقل في تجريد وتعميم وتجزئة وتركيب الصور الحسيّة”.

ويقول: “نقرر أن العقل الإنساني يمارس لوناً آخراً من النشاط نطلق عليه مصطلح الانتزاع، وقد وسم في هذه المقالة بـ “الاعتبار”. وهذا الانتزاع أو الاعتبار هو الذي خلق للذهن البشري البديهيات الأولى التصورية في المنطق، وأغلب المفاهيم العامة في الفلسفة. وتدعى هذه المفاهيم الانتزاعية مفاهيم عامة، لأنها أعمّ وأشمل التصورات التي تعرض الذهن البشري ولا يمكن العثور على تصورات أعمّ منها، نظير: تصوّر الوجود والعدم والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان وغيرها.

وتحصل هذه المفاهيم العامة للذهن، وفق الترتيب الذي سنعرضه بعد المفاهيم الخاصّة، وعلى وجه الخصوص المحسوسات، وفي هذا الضوء تحتل المرتبة الثانية (معقولات ثانية)، لكنها (بديهية أولية) من الزاوية المنطقية، أي أنها تحتل المرتبة الثانية فلسفياً ونفسياً، وتحتل المرتبة الأولى من الزاوية المنطقيّة”[7].

بشكل خاصّ، يذكّر الطبطبائي “أن النفس في بدء تكوينها وحدوثها لا تعرف شيئاً بالعلم الحصولي، وليس لديها أي تصوّر عن أيّ شيء في الذهن حتى عن ذاتها وحالاتها النفسية. بل هي من الأساس تفتقد للذهن ابتداءً، ولكنه بعد أن يحصل على الصور الذهنية بالتدريج ويحصل على تصورات عن الأشياء وعن ذاته وحالاته النفسيّة، يتشكل لديه الذهن.

لكن النفس التي لا تعرف في بدء تكوّنها وحدوثها أي شيء بالعلم الحصولي وتفتقر الى الذهن، تعرف بالعلم الحضوري، منذ البدء، ذاتها وقواها النفسية. لأن ملاك العلم الحصولي هو الفعالية التصويرية لقوة الخيال، أما ملاك العلم الحضوري هو تجرد وجود الشيء عن المادة وخصائصها.

فالطفل لا يعرف شيئاً حتى عن ذاته وحالاته الذاتية، لكنه يجد واقع ذاته وواقع جوعه ولذته وألمه وإرادته”. ويعتقد الطبطائيّ أن العقليين والحسيين وكثير من المفكرين لم يتعمّقوا حقاً في فهم العلم الحضوري، وأنهم أخطأوا التفريق بين الصور الذهنية بحد ذاتها وبين التصورات المرتبطة بالنفس والأمور النفسية، ويرى بأن علم كلّ شخص بذاته ينقسم إلى نوعين أو لنقل، مرحلتين: الأولى، معطيات ابتدائية لكل واحد منا منذ تكوّنه وحدوثه، “فالذات ليست خفية على صاحبها وكذلك الحالات النفسية للذات ليست خفية على الذات، ويحصل الفرد على هذه الأشياء بدون توسط الصورة الذهنية”.

أما الثانية، فهي “التصورات التي تحدث بالتدريج لدى الفرد، فالقوة المدركة بعد أن تقوى على تصور الأشياء الخارجية والتقاط الصور عن عالم الخارج تعطف بنفسها على عالم الداخل، فتهيء أيضاً صوراً عن النفس والحالات النفسية، فتعلمها وتتصورها بالعلم الحصولي. من هنا، لا ينبغي الخلط بين تصوّر “الأنا” واللذّة والألم والإرادة، التي هي علم ومعلوم حضوري”[8].

هذه هي الإضافة الأبرز للطبطبائي، وهي كما سنرى ليست بذلك التعقيد الذي تخيله غيره. لكن، قبل ذلك، علينا أن نشير إلى أنّ مفهوم الوجود هو بمثابة حجر أساس في بناء المعرفة (l’ordre de la connaissance)[9]، أي أن كل ما نقوم به عملياً من تفكير أو ممارسة هو مبني على قبول ضمني أو صريح بمفهوم الوجود شريكاً أساسياً في ذلك. تجاهل هذه الحقيقة المبرّر أو غير المبرّر دفع فيلسوف الكينونة الألماني مارتن هايدغر للقول بأن التاريخ الحقيقي للوجود توقف عند هذه اللحظة بالذات[10][11].

ما تقدّم به الطبطبائيّ، هو القول بأن الذهن الانساني يبدأ تجربته المعرفية على صورة مشاعر أو وجدانيات وانفعالات،  ومن خلال هذه المشاعر يظفر بمفهوم الوجود، وجوده، لكن كيف؟

لنقل بأن العقل الانساني الذي قصده المؤلف هو عقل طفل حديث الولادة وضعته أمه في غرفة فيها تلفاز وانشغلت عنه بقراءة هذا النصّ في غرفة أخرى، ثم فجأةً، عُرِض على التلفاز أغنية بصوت موسيقي عالي جداً ومزعج كما أغلب أغاني العصر الحديث، سيخاف الطفل على الأغلب، وعلى الأغلب أيضاً، سيذهب خوفه عندما تنتبه أمه لصراخه فتأتي مسرعة لاحتضانه، وبطبيعة الحال، فالحياة اليومية أغنى وأكرم منا بأمثلتها وقدرتها أيضاً على تكرار هذه الأمثلة.

من هذه الحالات الوجدانية- النفسيّة، أنا خائفٌ، أنا لست خائفاً، يقوم الطفل “بلا وعي منه”، بالمقارنة والتفريق بين وجوده هو ووجود الموجودات الأخرى كاللعبة، الشجرة، التلفاز، إلخ. بحيث يلقي وراء ظهره ما هو ثانوي على الوجود : خائفٌ، لست خائفاً، ويبقي على مفهوم الوجود ذاته : أنا، أنا لست[12][13][14]. فالطفل كما يقول الطبطبائيّ حرفياً “يلتذّ ويفرح ويريد ويتألم، ولا تخفى عنه هذه الإرادة وهذا الألم، كما لا تخفى ذاته على ذاته، أي أنّ الطفل بذاته يشاهد ذاته وإرادته ولذّته وألمه شهوداً حضورياً، لكنّه بحكم ضعف جهازه الذهني وتتجمع لديه لديه صور الأشياء الخارجيّة عن طريق الحواسّ، فيُغني ذهنه ويقوى، حينئذ يرجع وُيهئ صورة عن “الأنا” وصوراً عن حالاته النفسيّة”[15].

لا ينوي هذا النص أن يكون نصاً فلسفياً، ولا نريد به أن يشكّل جزءاً من نقاش حول الحدود بين الفلسفة والعلوم، لكن ما دمنا في هذه المنطقة بالتحديد، نودّ الإشارة إلى أن الإضافة الطبطبائية التي عرضت للتوّ قادرة على أن تجد ظلّها في المستوى الثاني من المشاعر عند داروين، المسؤولة كما رأينا عن تشكيل أولى القدرات العقلية العليا للانسان، وهي بكل الأحوال المشاعر الأقل تعرضاً لها، نظرياً وامبريقياً. ومع التأكيد أيضاً بأن هذا هو رأينا الخاصّ في هذه الحدود، أما بالنسبة لأطراف النقاش الأولى، فالفرق شاسع بين عالم الأحياء الذي أراد لهذه الحالات النفسيّة أن تثبت بيولوجياً القدرات العقليّة العليا عند النوع الإنساني، وبين الفيلسوف المتصوّف الذي أراد منها أن تثبت حضورياً مسائل الالهام والوحي والمكاشفة.

المشاعر في الحياة اليوميّة (سوسيولوجيا المشاعر)

في الحقيقة، هناك مساحة أخرى من النقاش قفزنا عنها في هذا النصّ، وهو نقاش التفريق بين المشاعر-العواطف والأحاسيس-الحواسّ، أو الانفعالات (الجسدية) والوجدانيات (النفسيّة)، ولا يهمّ بنظرنا طالما هي حالة تصيب الجسد و”النفس”، قبل أم بعد، معاً أم بشكل منفرد، هذا لن يفيدنا كثيراً هنا، ولا يفيد بشكل عام بقدر تأثيرات هذه الحالة السلوكيّة والثقافيّة وغيرها.

بهذا التعفف المنهجي، نكون قد وفّرنا على أنفسنا عناء الدخول في أول موضوعات “سوسيولوجيا المشاعر” وانتقلنا مباشرة إلى لبّ هذا الحقل الدراسي الجديد نسبياً، أي، الدور الأساسي للمشاعر في “الحياة اليومية” (الواقع الاجتماعي) على المستويين الاجتماعيين الميكرو والماكرو، أي بين أفراد الجماعة الواحدة وبين الجماعات باختلافها.

بدأ علماء الاجتماع الاهتمام بدراسة المشاعر في بدايات القرن المنصرم، وقد ساهم آباء هذا الحقل في ملاحظات علميّة متينة حول بعض الحالات العاطفية قبل أن يتم تجاهل هذا الموضوع طويلاً في علم الاجتماع. يذكر لنا جوناثان تيرنر في نصّ “سوسيولوجيا المشاعر: مقولات نظريّة أساسية” بعض الأمثلة: حديث كارل ماركس عن الاغتراب والحرمان العاطفي البروليتاري ينطوي بالتأكيد على اهتمام ماركسي بموضوع المشاعر.

يشتمل عرض ماكس فيبر (1967) لأنماط الفعل على بعد عاطفيّ (affectual). تحليل جورج سيميل (1950) لفكرة “الصراع” يشدد على الإثارة العاطفية كجزء من عملية التعبئة للصراع. بحوث إيميل دوركهايم في أصول الأديان البدائية (1912) وضعت العواطف في مركز نظريته في الطوطم والتكافل الاجتماعي. ثم آراء الايطالي فلرفريدو باريتو عن المشاعر والاشتقاقات ودورها في حركة المجتمعات، وصولاً إلى خلاصات تشالز هورتون كولي عن “الفخر والعار” كتقييم ذاتي للنفس من خلال النظر في الآخرين كمرآة[16][17].

في النصف الثاني من السبعينات، عادت المشاعر وظهرت مرة أخرى في علم الاجتماع، لكن هذه المرّة بشكل رسمي وتحت مسمّى “سوسيولوجيا المشاعر”، وقد كان ذلك على يد مجموعة جديدة من علماء الاجتماع نذكر منهم: غوردون: 1981، هوشستيلد: 1979، كيمبر: 1978، 1987، سميث-لوفن: 1989.

تدور سوسيولوجيا المشاعر حول مقولتين أساسيتين على الأقل، الأولى سوسيولوجية بحتة تقول بأن العواطف، أو بالأحرى الارتباطات العاطفية للأفراد تتحكم بشكل كبير في سلوكهم أفراداً ومجتمعات[18]، وهذا واضح جداً بالنسبة لنا، فالخوف من شخصٍ ما يدفعنا إلى سلوك معين تجاهه، إما إلى الحذر منه، أو قتله، إلخ. وكذلك المجتمعات عندما تشعر بالتهديد على كيانها، إما أن تخوض الحرب وإما أن تلتزم استراتيجية دفاعية تحميها من هجوم الآخر المحتمل، إلخ. وهنا مثال ربما ليس الأفضل، لكنه يرينا حجم وجديّة دور المشاعر في تحديد مصير أرواح الملايين من البشر: في “براديغما جديدة لفهم عالم اليوم” لعالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين، يصف المؤلف الجوّ العام في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 بالقول:

“لقد غابت القضايا الاقتصادية عن واجهة المسرح السياسي، وبدا غزو التقنيات الجديدة أقل اثارة كما احتلت اللغة الحربية – والتي هي جيوسياسية أكثر منها وطنية – الساحة الشعبية بالكامل. وإذا كانت أمريكا المجروحة قد تساءلت في قرارة نفسها، بلسان نورمان ميلر يومذاك: لماذا لا يحبوننا؟ فإن فحص الضمير هذا سرعان ما تلاشى أمام الضرورة الملحّة: إلقاء القبض على أسامة بن لادن. وما لبثت أن حلّت الإدانة بصدام حسين مع أنه لم يكن يقيم علاقات خاصة مع القاعدة[19]، وعلى جناح السرعة، باشر كل من الرئيس بوش وطوني بلير السعي إلى اثبات ضرورة التدخل العسكري أمام مجلس أمن الأمم المتحدة الذي كان يعارض الحرب”.

ويضيف بعدها، “لقد كاد الرئيس ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، خلال الأسابيع التي سبقت الهجوم العسكري على العراق، أن يحتلا المسرح السياسي الأميركي بالكامل. أما الحزب الديمقراطي فلم يتدخل، ولم تعد كبرى المحطات التلفزيونية، في ما عدا براعتها التقنية، أكثر من ملاحق لمقر القيادة العام. وحدها الـ “بي بي سي” العالمية كانت تبث الأخبار.

أما في مجال الصحافة المكتوبة، فقد كانت “النيويورك تايمز” وحدها، الصحيفة الوطنية حقاً، التي بدأت باستقلالية معينة، وبعد صمت طويل، بمناقشة بيانات الحكومة ومقاصدها. باختصار، هذا البلد الذي كان الرأي العام فيه يملك وسائل اعلام عديدة ومتنوّعة، غرق كلّه في الصمت. لقد لبثنا أشهراً عديدة لا نسمع إلا صوت الرئيس بوش وصوت وزير الدفاع. بلى، كنا نسمع أيضاً صوت الله الذي غالباً ما كان يصغي إليه الرئيس ويتوسل إليه مجلس الوزراء”[20]. ونعلم جيداً ما حلّ بالعراق واليمن وأفغانستان بعد ذلك.

هناك نقطتان أساسيتان ينبغي الانتباه إليهما في هذا المثال، الأولى كيف ساهم الخوف الناجم من شعور الأمريكيين باقتراب التهديد القاتل في تهيئة الجو الأمريكي العام للحرب، هذا الصمت الشعبي بعد أحداث الحادي عشر من أيلول وقبيل التدخّل العسكري في العراق لا يمكن قراءته إلا كموافقة مباشرة على قرار الدخول في الحرب، وهذا فيما يتعلّق بتأثير المشاعر على السلوك الإنساني.

أما النقطة الثانية فتتعلق بمرونة المشاعر نفسها ومدى امكانية التحكّم بها واستغلالها لصالح أهداف سياسية واقتصادية، الخ. وهو ما يمكن استنباطه في هذا المثال من تركيز الخطاب السياسي الأمريكي على شيطنة العراق ومحاولة إظهار جورج بوش كمخلص لمحور الخير في العالم من محور الشرّ فيه. يمكن أيضاً ملاحظة هذه الحالة في أمثلة أخرى كمراجعة أداء الإعلام الإسرائيلي قبيل وأثناء وبعد حرب تموز 2006.

المقولة الأساسية الثانية التي تدور حولها سوسيولوجيا المشاعر، هي خضوع المشاعر والتعبير عنها للظرف الاجتماعي الخاص التي وجدت فيه، وهي عملياً مقولة آنثروسوسيولوجية طوّرها عالم الآنثروبولوجيا الفرنسيّ مارسيل موس في دراسته “التعبير القسري عن المشاعر” التي نشرت عام 1920 في مجلة علم النفس.

يمكن فهم إضافة موس كمحاولة منه لتجاوز النقاش الدائر حول فطريّة المشاعر أو اكتسابها بالتجربة من خلال اخراجها من هذا الحيّز والتفكير بها ثقافياً (بالرجوع إلى التعريف الآنثروبولجي للثقافة[21])، حيث خلص موس إلى أنّ “العواطف لا تنتمي إلى سيكولوجيا فردية ولا إلى فيزيولوجيا غير مبالية، إذ بمجرد ما تظهر المشاعر من خلال الجسد، وتبرز من خلال السلوكات تصبح انبثاقات اجتماعية تفرض نفسها بمحتواها وبشكلها على أعضاء مجموعة تنتمي إلى وضعية معنوية معينة.

وهنا يؤكد مارسيل موس ضدّاً على الأحكام المسبقة والمتناقضة التي تريد أن تحوّل الانفعال إلى معطى داخلي أو طبيعي على البعد الاجتماعي والثقافي في تحديد طبيعة المشاعر في سلوكات الفاعل، ولهذا فإذن ذرف الدموع مثلاً، ليس مرتبطاً فقط بالتعبير عن الألم، بل بإمكانه أن يكون مرتبطاً بوقت محدد لطقس من طقوس التحيّة”[22].

وفي بحوثه على المجتمعات الأصلية في استراليا، وجد موس أنه في الاحتفالات التأبينية الخاصة، لا يعبّر الحاضرون فقط عن “مشاعر شخصية مناسباتية لذاتهم، بل من أجل الآخرين، لأن هذا الأمر مفروض عليهم. إننا نعبر عن ذواتنا من أجل لفت انتباه الآخرين، فالتعبير عن المشاعر هنا رمزيّة محضة”، وقد دفعت هذه الخلاصات بمقتبسها دافيد لو بروتون بالقول في كتابه “سوسيولوجيا الجسد”:

“وهكذا، فإن المشاعر التي نحسّ بها والطريقة التي تظهر بها، والكيفية التي نعبّر عنها جسديّا، كلها أشياء متجذرة في المعايير والعادات الضمنية للجماعة. إنها ليست تلقائية، بل خاضعة لشعائر منظمة ومعبرة تجاه الآخرين، فهي تظهر على الجسد وعلى الوجه وفي الحركات الوضعية والبدنية… إلخ، ولهذا فإن الحب، الألم، الإهانة، الفرح والغضب… إلخ، ليست وقائع في حد ذاتها، ولا تتغير تلقائياً من مجموعة اجتماعية إلى أخرى، بل شرط بروزها ورمزيتها تجاه الآخرين تقتضي وجود وساطة ذات معنى”[23].

ويبدو أنّ الشعور بالألم أفضل مثال وجده لو بروتون للتأكيد على أن “كلّ شيء مرتبط بالنسيج الاجتماعي والثقافي الذي ينخرط فيه الفاعل بنظرته إلى العالم ومعتقداته الدينية، أي بالطريقة التي يتصرف بها ويتموقع داخل جماعة انتمائه”.

وبالرجوع إلى تعريف ريني لوريش بأن الألم “ليس مجرد حالة بسيطة لانسياب عصبي عادي بحدّة معينة في عصب ما، بل هو نتاج الصراع القائم بين منبه ما وبين الفرد بأكلمه”، يعتقد لو بروتون بأن “الانسان هو من يصنع ألمه من خلال كيانه”، وأن هذا التعريف للألم “يسمح بتثمين الجانب الشخصي في إدراك حدّة الألم الذي يؤكد على الغربلة الاجتماعية والثقافية والسيكولوجية للتدفق العصبي للألم، لأن صلابة الفرد كشيء بسيط وفاعل في مجتمع معين توجد ما بين المنبه والإدراك الحسي للألم، للتيار المؤلم، وقد توجد بالمناسبة قواعد ضمنية قد تغيب عن الشخص، لكنها تحدد إلى حدّ ما علاقته بالمنبّة الألمي، وهذه العلاقة لا تستجيب لأي جوهر خالص لأنها ببساطة تترجم الارتباط جد المعقد الذي يوجد بين تغيرات التوازن الداخلي للجسد وبين ما يحسه الفاعل الذي تعلم كيف يعرف هذا الاحساس وكيف يدمجه في نسق معنوي وقيمي، فمثلما هو حال الجوع أو العطش، فإن الألم معطى بيولوجي، وما دام الناس لا يتذوقون أكلهم بنفس الطريقة ولا يبحثون في وجباتهم عن أذواق متشابهة، ويتذوقون بطريقة مغايرة غذائهم مانحين إياه معنى خالصاً، فإنهم أيضاً لا يتألمون بنفس الطريقة ولا بنفس قوّة الإثارة، لأنهم يعطون لألمهم قيمة ومعنى مغايرين، كل حسب تاريخه وانتماؤه الاجتماعي”[24][25].

عسكرة المشاعر

تشير سوسيولوجيا المشاعر إذن إلى العملية التي يتعلّم الأفراد فيها مجموعة التوقعات، القوانين، الممارسات والنتائج لتجاربهم العاطفية[26]، ومن الصعب عملياً أن تفلت كافة المناهج الأخرى في دراسة المشاعر من حدود هذا التعريف، فما حاجتنا إذن إلى نحت مصطلحات جديدة كـ “عسكرة المشاعر”، أو، ما الذي يمكن لعملية عسكرة المشاعر عند الجنود أن تضيفه في دراسة وفهم المشاعر الانسانية على وجه الخصوص؟

الإجابة بدون مقدمات، هي الدفع بدراسة المشاعر إلى أقصاها على المستويين النظري والميداني، كما هي في هذا الواقع حقيقة[27]، ذلك بأنّ الحرب كما يقول كلاوزوفيتش هي “ميدان الكدّ والمعاناة والخوف الذي يمكن أن يسحقنا ما لم نجعل من أنفسنا ميداناً بطبيعة منافسة، أي ذو قوّة جسدية وروحية معينة”[28]، وذلك بأننا نحيل من خلال هذا المصطلح إلى المعنى الخاص لعملية بناء/صناعة الجنود في المجتمع ككل وداخل المؤسسة العسكرية كوحدة اجتماعية خاصة.

وهذا يعني الوقوف مسبقاً على فرضية – سنرى دعاماتها خلال هذا الملفّ – أنّ الجندي بجانب كونه مُعطى وحالة جسديّة خاصة، هو أيضاً وبشكل لا يقلّ أهمية مُعطى وحالة شعورية خاصّة (عسكرية) يرى الجنود فيها أنفسهم ويتعاملون مع هذا الميدان ومع الآخرين من خلالها أثناء وبعد الخدمة، أي أنها حالة طويلة المدى تتخطى بشكل واضح مكان نحتها الأول.

على المستوى الميداني، المشاعر في الحياة العسكرية مساحة مربكة جداً، وخصوصاً السوداء منها كالخوف، الندم، الملل، إلخ. وتعامل المؤسسة العسكرية معها لا يتبع المناهج العلمية في دراسة المشاعر ويتبعها في نفس الوقت، أو يمكن القول “يتم تجاوزها” بطريقة ما، فالخوف في حالة وجوده الطبيعية يشكّل خطراً لا نقاش فيه على عملية صناعة الجنود، لكن وكما سنرى لاحقا، لا يبحث الجيش في نهاية المطاف على القضاء عليه تماماً، على الخوف أن يبقى، أو أن يُبقى عليه في صورة محددة له، وهي “الخوف الجيّد” لا “خوف الأدرينالين” كما يقول أحد الجنود. من هذا كلّه، استطعنا أن نستنبط أن هناك حالة شعوريّة خاصّة يتم العمل عليها في الجيش، وهو ما أطلقنا عليه بـ”عسكرة المشاعر”، عسكرة الخوف في هذه الحالة.

كما أنّ هذه المشاعر مرتبطة بشكل مباشر بحياة أو موت الجندي ومن يرافقه، وبحياة من يقابلهم على الجهة الأخرى، وهذه في الحقيقة دعوة لدراسة تجربة سجن أبو غريب مثلاً وعلاقتها بملل الجنود الأمريكان حينها، أو علاقة نفس الشعور بتصرفات الجنود الإسرائيليين على الحواجز “الطيّارة” والثابتة، ولكل منّا ذكريات شخصية غزيرة في هذا الموضوع.

من جانب آخر، هناك قناعة شخصية، عليّ الكشف عنها مبكراً هنا، وهي عملياً الدافع الداخلي الرئيسي “لديّ” للاهتمام بدراسة الجيش والحرب بشكل عام. يعتقد علماء التطوريّة الاجتماعية بأن أفضل مرحلة عمريّة لملاحظة التطوّر لدى الانسان هي ما بين فترة الرضاعة إلى سن الرابعة-السادسة من حياة الطفولة، وهذا يفسّر كمّ الأبحاث الهائل في كافة مجالات العلوم الانسانية على هذه الفترة الزمنيّة بالذات. “أعتقد شخصياً” بأن العالم الحقيقي هو العالم الذي يعيشه الجيش والجنود، العالم باللون الأخضر الفاتح كما قلت أو سأقول، وهو العالم الذي نعيشه ويعشيه أي انسان في حالة الحرب-المعركة، ليس لأن هناك عالم حقيقي فعلاً، وإنما لتجرّد هذا العالم من ترف التأويلات والأفكار والنظريّات العلمية والفلسفية الكبرى وتعامله الصريح (العاطفي والعاطفة كعقل) مع ما يهمّ الناس حقاً-الآن.

****

الهوامش:

[1] Darwin, Charles, The Expression of the Emotions in Man and Animals, second edition, London, 1890, p : 387.

​[2]  برجسون، هنري، الأعمال الفلسفية الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2008، ص: 17.

[3] Darwin, Charles, The Descent of Man, and Selection in Relation to Sex, Princeton University Press 1981, p : 51.

[4] Id., p : 41.

[5] James, William, What is emotion ?, Mind, Vol. 9, No. 34, Apr., 1884, p : 189.

​​[6]  انقسم العلماء بطبيعة الحال حول هذا الموضوع، البعض منهم أكّد على أن المشاعر الانسانية هي ظواهر عضويّة حيويّة، أي أنها معطيات بيولوجية تأتي على شكل استجابات طبيعية لمؤثر خارجي (Gasanov, 1974)، وهناك من صمّم على أن الأفراد يعبرون عن مشاعرهم بطريقة طوعيّة وواعية، أي أنها لا تتمظهر إلا بعد أن تتم معالجتها عقلانياً، وبمجرد أن الفرد فسّرها منطقياً أو اجتماعيا تخرج للعيان (Tomkins, 1962, 1963 ; Ekman et al., 1972). أنظر: Montandon, Cléopâtre, La Socialisation des émotions : un champ nouveau pour la sociologie de l’éducation, Revue française de pédagogie, vol. 101, 1992.

​[7]  الطبطبائي، السيد محمد حسين، أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، المجلد الأول، ص: 314-316.

[8]  مصدر سابق، ص: 342-343.

[9]  مطهري، مرتضى، شرح المنظومة، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، بيروت 2009، ص: 21. ​​

[10] Dulau, Pierre, Heidegger, Pas à Pas, Paris, 2008, p : 24.

[11]  أنظر أيضاً: Graham Harman, Martin Heidegger Explained : From Phenomen to Thing, Open Court, 2007. Edith Blanquet, Apprendre à Philosopher avec Heidegger, Broché, 2012.

​[12]  مصدر سابق، أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، المجلد الأول، ص: 140-141، 149، 336.

[13]  الطبطبائي، السيد محمد حسين، أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، المجلد الثاني، ص: 27، 35-38، 41، 43-44.

[14]  الطبطبائي، السيد محمد حسين، بداية الحكمة، ص: 11، 35-45.

[15]  مصدر سابق، أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، المجلد الأول، ص: 343.

[16] Turner, Jonathan, The Sociology of Emotions: Basic Theoretical Arguments, Emotion Review, Vol. 1, No. 4, October 2009, p : 340.

[17] Montandon, Cléopâtre, La Socialisation des émotions : un champ nouveau pour la sociologie de l’éducation, Revue française de pédagogie, vol. 101, 1992, p : 106.

[18] Thoits, Peggy, The Sociology of Emotions, Annual Review of Sociology, Vol. 15, 1989, p : 317.

​[19]  أنظر: خطاب دونالد رامسفيلد في الكابينيت الأمريكي بعد أقل من يوم واحد من هجمات 11 أيلول. منشور في صحيفة النيويورك تايمز، 22 مارس 2004.

[20]  تورين، آلان، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، المنظمة العربية للترجمة، 2011، ص: 24-25.

[21]  بحسب تعريف كليفود غيرتز لها، فالثقافة هي “نمط من المعاني المتجسدة في رموز تنوقلت تاريخاً، وهو نظام من المفهومات المتوارثة يعبر عنها بأشكال رمزية، وبواسطة هذه الأشكال يتواصل الناس، وبها يستديمون ويطورون معرفتهم حول الحياة ومواقفهم منها. غيرتز، كليفورد، تأويل الثقافات، المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص: 224-225.

أما تعريف إدوارد تـايـلـور الـذي قـدمـه فـي أواخـر القرن التاسع عشر في كتابه عن الثقافة البدائية والذي يذهب فيه إلـى أن الثقافة هي : “كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعرف وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في مجتمع”. نظرية الثقافة، عالم المعرفة، ع 223، 1997، ص: 9.

لكن عادة، عندما يتم الإشارة إلى التعريف الآنثروبولوجي للثقافة، غالباً ما يكون القصد هو نسبيّة هذا المفهوم، فما هو جميل في مجتمع ما، يمكن أن يكون قبيح في مجتمع آخر، وهكذا.

[22]  لو بروتون، دافيد، سوسيولوجيا الجسد، روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2014، ص: 99-100.

[23]  مصدر سابق، ص: 101.

[24]  مصدر سابق، ص: 103.

[25]  الحالات الدراسيّة في هذا المجال كثيرة، وسنذكر هنا اثنتين نعتقد باهميتهما البالغة: مارك زبورويسكي: قام بدراسة مختلف المواقف تجاه الألم في مستشفى أمريكي عند مختلف المجموعات الاجتماعية: الإيطاليون، اليهود، والأمريكيون المتأصلون. هوارد بيكر: قام بدراسة كيف يمكن لمجموعة أن تكيّف وتقولب تعلّم أشكال حسيّة جديدة في سياق استهلاك الماريجوانا. أنظر: مصدر سابق، ص: 103-106، 107-109.

[26] Handbook of Emotions, 4th edition, The Guilford Press, New York, 2016, p : 68.

[27]  المقصود هو واقع القتال-العسكر. يقول رون هنريكسن في نصّ “المحاربون في المعركة: ما الذي يدفع بالأفراد إلى القتال على أرض المعركة؟”: “اتفقّ جميع الأدباء في التاريخ على أن المعركة حدث وجودي في حياة الفرد، وبغضّ النظر عن الفكرة الاجتماعية القائلة بأن الحرب تشكّل جزءاً من شيء مهم أو أهمّ، مثل صياغة التاريخ، فالجنود الذين خبروا تجارب القتال كثيراً اكتسبوا قدرة ادراكية – حسيّة عالية المستوى، احساس كثيف بالوجود على قيد الحياة، وتجارب عاطفيّة خارقة، حيث المشاعر كالحبّ والكره تؤخذ إلى مناطق متطرفة لا نعلم مداها حتى الآن”.

Henriksen, Rune, Warriors in combat – what makes people actively fight in combat?, Journal of Strategic Studies, 30:2, 2007, p : 188.

​[28] Clausewitz, Carl von, On War, Oxford University Press, 1976, p. 46.

عسكرة المشاعر في الجيوش الحديثة: معنى أن تكون جندياً (3)

مجدي عطية

نشر بتاريخ:29-11-2016

الخوف في الحياة العسكرية

هل يخاف الجنود؟

منهجياً، يأتي هذا الفصل من الدراسة، أو هكذا تنبغي قراءته، بعد الفصل اللاحق، والذي خصصناه لتعريف الخوف، لكن، نظراً لارتباط تعريف الخوف بآليات عسكرة المشاعر عند الجنود ارتباطاً وثيقاً (الفصل الأخير)، آثرنا هذا الترتيب.

في أطروحة الماجستير التي نحن بصدد الاشتغال عليها حتى هذه اللحظة، قررنا أن يكون “التجنيد المهني في جيش المشاة الفرنسيّ” موضوع الدراسة الرئيسي. ولتفسير هذه الظاهرة الآنثروبولوجية القديمة، قمنا بعدّة تحقيقات اثنوغرافية مع جنود فرنسيين دارت رحاها حول سؤالين اثنين: لماذا وكيف أصبحوا جنوداً؟

وُضِعت لهذا العمل فرضيتان تم فحصهما من خلال هذه اللقاءات الميدانية مع الجنود:

أولاً: ينضمّ الجنود للجيش من دون إرادة حقيقية منهم، هم مجبرون على اختيار هذه المهنة الصعبة سواء بسبب منابعهم الاجتماعية والاقتصادية القاسية، فهم غالباً أفراد غير متعلمين، وجدوا صعوبة في إدماج أنفسهم في سوق العمل الفرنسيّ. أو أنهم ورثوا هذه المهنة تقليدياً عن آبائهم، فكانت لهم على شكل خيار وحيد ممكن. وهم غالباً ذكور، أو لأنهم كذلك.

ثانياً: التجنّد المهنيّ في الجيش ليس أمراً قدريّاً، خيار المهنة العسكرية ليس عبثياً ولا يأتي بالصدفة، وإنما هو قرارٌ هوياتيٌّ بالدرجة الأولى أن يدخل الأفراد الجيش، فهم ينضمون إليه لأنه يمثّل شيئاً مهماً لهم، أو لأنه بالنسبة إليهم تلك الصورة التي يحبّون اعطاءها لذواتهم (فرصة عمل = فرصة هويّة[1])، وقد تكون: الرياضي، المحارب، المرتحل، والشهيد، الخ. هي إذن عملية توفيق بين صورة متخيّلة لذات جندي محتمل، وتَمثُّل لهذه الصورة في مقاعد شاغرة يقترحها الجيش.

لم تصمد كلتا الفرضيتين أمام المعلومات الواردة من الميدان، وخرجنا بنتيجة أولية أدّت بنا إلى صياغة فرضية ثالثة للفحص فيما تبقى لنا في ذاك البحث من نصيب. لاحظنا أن التجنيد المهني في جيش المشاة الفرنسي لا يمكن أن يتم اختصاره إما في آليات قدريّة أو في تمثيلات هوياتية. لكن في نفس الوقت، لا يمكننا أيضاً أن نرفض هذه الاحتمالات للظاهرة والتي لطالما شكلت جزءاً من حديث الجنود. الفكرة ببساطة، هي أنه عندما يعبّر الجنود عن قرار إنضمامهم المهني للجيش، لا يفعلون ذلك بطريقة واحدة أو نمطية، وإنما بشكل ديناميكي أغنى بكثير مما يمكن تخيله وحشره في فرضيتين أو ثلاثة.

هنالك إذن مجموعة متنوعة من الدوافع التي يمكن أن يشكل جزءاً منها ما يسميه “القدريون” آليات قدرية، وأجزاء أخرى يمكن أن تشكل ما يسميه “الذاتيون” تمثيلات هوياتية. وإن أي محاولة لفرض واحدة من هذه التوجهات النظرية هي عملياً قصقصة للحقيقة الاثنوغرافية ولصقها حسب معايير هذا التوجه.

انطلاقاً من هنا، قلنا بأنّ خيار الدخول في الجيش خيارٌ زمنيٌّ، أي أنه يُبنى على مدار مسار بيوغرافي غنيّ جداً، فيكون في لحظة تاريخية ما ذلك اللقاء مع فرصة عمل تتمثّل للجندي المحتمل في أكثر من معنى، وليس فقط في الصورة التي يحبّ أن يصبحها.

واعتقدنا أن مفهوم “الحاجة” عند الآنثروبولوجي البريطاني برونيسلاف مالينوفسكي يمكن أن يكون أكثر فعالية لو تم توظيفه هنا كتعبير عن حيثيات فرصة العمل كجندي، إمكانات هذه الفرصة الكامنة، أو بكلمات أخرى، كل ما يمكن أن تعنيه فرصة العمل كجندي للجندي المحتَمل. هذا لأنه وبحسب تعريف مالينوفيسكي الهرمي للحاجة، يمكن أن تأخذ الأخيرة أبعاداً كثيرة، اقتصادية، اجتماعية، نفسية، بيولوجية، الخ[2]. ويمكن أن تكون كلها أو بعضها حاضرة في لحظة ما في المسار البيوغرافي للجندي المحتمل كما لاحظنا في سير حياة الجنود التي قمنا بإعادة بنائها بأدوات منهجية معقدة إلى حد ما[3].

هنا فرضية جديدة إذن، لكن هذه المرة مبنيّة على سير حياة جنود في جيش المشاة الفرنسي، وعلى أدبيات اثنوغرافية عالجت نفس القضية، فإذا استطعنا أن نثبت أن المسار البيوغرافي للجنود المحتملين يتدخل حقاً في بناء قرارهم بالإنضمام إلى الجيش، باختيار الجندي كحرفة، نستطيع القول بأن التجنيد المهني في جيش المشاة الفرنسي ليس صدفة ولا عبثيا، لكنه خلقٌ اجتماعي-ثقافي للجنديّ، يُحمل في الوقت نفسه على التجارب الاجتماعية الماضية المترسبة في داخل شخص الجندي المحتمل، والقدرة على التصرّف واتخاذ القرار أمام الظروف غير المتوقعة، وهذا ما يطلق عليه عالم الاجتماع الفرنسيّ بيير بورديو مفهوم “الهابيتوس”[4] أي الطبع أو السجيّة.

وتبعاً لنفس المنطق، هنالك أيضاً ما نسميه الخلق العسكري للجندي، يُحمل على الاشتغال الدؤوب على المستويين الجسدي والنفسي (العاطفي)، والذي غالباً ما يتم اعتبار الجندي المستقبلي فيه “قادمٌ جديد” يشكّل “خطراً محتملاً (challeng or opportunity) على منظومة التعاون المفروضة داخل هذه الجماعة”[5].

هناك ما يشبه عملياً هذه الفرضية في أدبيات علم الاجتماع العسكري. مؤخراً وقعت عيناي على دراسة بعنوان “أسطورة الدافعية الذاتية للقتال” للباحث الأمريكي بروس نيوسوم، يحاول فيها الإجابة على سؤال ما الذي يجعل الأفراد يقاتلون في المعركة؟ بالتمييز بين ما أسماه “الدوافع الذاتية/الداخلية والدوافع الخارجية للقتال”.

بالنسبة له، الدوافع الذاتية للقتال هي مجموعة الدوافع التي يحملها الجندي معه من العالم المدني إلى العالم العسكري، وراثياً، ثقافياً، أو اجتماعياً. أما الدوافع الخارجية للقتال فهي مجموعة الدوافع التي تخلقها التجربة العسكرية، سواء من خلال التدريب وأشكال أخرى من عملية إعادة الضبط التي يتعرض لها الجنود منذ اللحظة الأولى لدخولهم المعسكر”[6].

في المجمل، تبحث الدراسة في هذين البنائين للجندي الفرنسيّ. بدايةً، معرفة المسارات الاجتماعية الأكثر عرضة للإنضمام إلى جيش المشاة، ومقارنتها ببعضها البعض وبأمثلة عالمية أخرى. ثمّ، معرفة كيف تتم عملية نحت الجنود داخل المؤسسة العسكرية نفسها، وإن كانت ثمّة مصلحة لنا هنا، فهي أن نسلّط الضوء على هذه المساحة المثيرة للجدل بين سؤالين في التجنيد المهني عادة ما يتم الخلط بينهما، ونظنّهما نحن مختلفين: لماذا ينضم الأفراد إلى الجيش (المهنة)؟ هذا هو السؤال الأول، ولماذا يستمر هؤلاء في الجيش (المهنة)؟ وهو السؤال الثاني الذي تأخذ الاجابة عليه شكل الإجابة على سؤال “كيف يتم خلق الجنود داخل المؤسسة العسكرية”؟

وبهذا المنظور الديناميكي في دراسة التجنيد المهنيّ، نريد أن نسلّط الضوء أيضاً على سؤال المساحة بين ما هو مدنيّ وما هو عسكريّ في الحالة الفرنسية؟ هل هناك قطيعة كاملة بين المسار البيوغرافي قبل الإنضمام وبعده؟ هل هناك استمرارية؟ استمرارية مقطوعة؟ ماذا بالضبط؟

في وسط هذا كله، تحتل المشاعر موقعاً رئيساً، لا سيّما في البناء الثاني للجندي داخل المؤسسة العسكرية، وقد لاحظنا منذ البداية أن الجنود لا يكتفون بالشكل الخارجي للجسد في تعريف أنفسهم كجنود، بينما، أصروا جميعاً على على الجانب النفسي، المعرفي، العاطفي في ماهية الجنديّ، وهذا يعكس بالضرورة تجارب عاطفية عَبَرها هؤلاء في خضمّ تبلورهم كجنود بالعمل المستمر على هندسة حالة نفسية خاصة داخل الجيش وعلى المدى الطويل، ولعل مقولتهم الشهيرة “مظلّي ليوم واحد، مظلّي للأبد” تشي ببعض من شيء.

جمعت الدراسة تعريفات عديدة للجنديّ من الجنود أنفسهم، وتدور كلها حول الجمع بين المستوى الجسدي والمستوى النفسي لهذه الحالة أو كيف تصيرها. كما وتعكس هذه التعريفات أيضاً فهماً خاصاً لطبيعة دور الجندي، للجيش، من خلال فهمهم الخاص لطبيعة المعركة، وفي هذا يقول الكولونيل ميشيل غويا في شهادته “تحت النار”:

“المعركة ليست ظاهرة عادية، وإنما حدث خارق للعادة، والأفراد المشاركون فيها لا يقومون بها بطريقة معتدلة. كشيء يمزّق قوانين الفيزياء النيوتونية بجاذبيته القوية، الاقتراب المباشر من الموت والخوف الذي ينتجه يشوّهان الأفراد ويدفعان بتصرفاتهم إلى أقصاها. توزيع الأدوار لا يخضع حينها لقوانين الاحتمال الطبيعي، والتي غالباً ما يكون فيها كل الأفراد متشابهين، وإنما  لقانون القوّة، هناك، بين السحق والتسامي، كثير يقوم بالقليل وقليل يقوم بالكثير. هناك، حيث القليل من الوسائل، والكثير من التطرّف”، وهي أيضاً، “اقتحام عالم قلّما كانت مساحته أكبر من بضعة مئات الأمتار، وفي لحظات لا تزيد في الغالب عن بضع ساعات. هذا العالم الجديد هو عملياً اختراق لعالم ادراكاتنا المعتادة، هو مكان ما بين الحقيقة والوهم، تجد نفسك فيه مجبرا وبكل حواسك على تشرّب كل مشاعر حياتك في دقائق معدودة”[7].

بكلمات أخرى، عندما أعطت شخصيات الدراسة الرئيسية تعريفاتها للجندي، الذي كان يدور في خلدهم هو تماماً هذه الصورة لما قاموا أو سيقومون به، وهذا الدور للجيش الذي قدّر له أن يعيش هذا الجزء الصغير الكبير من العالم بلونه الأخضر الفاتح، ومن أجل القيام بكل هذا بحرفيّة عالية، وجب عليه الاستعداد، صناعة، بناء، خلق، تحضير الجنود جسديا ونفسيا أو عاطفياً. وما تسليط الضوء في هذه الدراسة على الخوف بالتحديد، إلا لأنه إحدى أولى العقبات والتحديات التي تواجه الجنود والجيش في هذا المسار.

لكن علينا أن نشير هنا إلى نقطة مهمة، لا يتمّ التعامل مع الخوف في هذه العملية كلها بهذه الصراحة التي نتعامل بها نحن الآن. وإنما، يؤخذ الجندي الجديد، القادم الجديد، كله مرة واحدة كتهديد يشكّل خطراً، أو على الأقل خطراً محتملاً على منظومة التعاون في الجيش كشكل من أشكال الجماعة البشرية، وما قصدنا قوله من خلال هذا النص بعسكرة المشاعر هو عملياً عملية صناعة الجندي كاملة، تشمل بطبيعة الحال إقامة حالة نفسية عسكرية يرى الجنود فيها أنفسهم، ويعتمد الجيش في هذا على خمسة تكتيكات رئيسية سنراها بالتفصيل في الفصل الأخير هنا. 

ممّ يخاف الجنود؟

ساق الجنود أمثلة كثيرة تملّكهم فيها الخوف، لكن، لن نستطيع عرضها بالتفصيل وكيف تم التعامل مع تلك اللحظات في هذه المادّة، إلا أننا سنستعيض عن ذلك بدراسات أخرى أقيمت خصيصاً لهذا الموضوع وتمّت فيها الإحاطة بخطوط عامة متينة عن هذه الأمثلة:

كتاب “علم نفس الصراع والمعركة” لعالم النفس العسكري الصهيوني بن شاليط: نشر شاليط هذا الكتاب عام 1988، وقد أراده محاولة لفهم العوامل النفسية التي تقود الرجال إلى المعركة، وزّعها على أحد عشر فصلاً كما يلي: مقدمة، تصوّر الصراع والمعركة، نموذج لتصرف الصراع والمعركة، ما هو الاعتداء؟، أصول الاعتداء وتقديره، ما هو العدوّ؟، شجاعة، انضباط، تقدير المواجهة والمعركة المحتملة، لبنان: وجه المعركة، خاتمة.

في الفصل الثاني، يقول شاليط أنه اعتاد أن يسأل الجنود بعد كل معركة ما الذي وجدوه أكثر رعباً وتوتراً فيها؟ ثم يضيف: الجواب الذي توقعته إنطلاقاً من قراءاتي في أدبيات الحرب، أفلام هوليوود، ومن الأبحاث العلمية المتخصصة هو “الموت” أو “أن يُصاب ويُترك في أرض المعركة” – ولتأكيد هذا التوقّع، يحيلنا هذا الجندي عالم النفس إلى دراسة “ستوفر وآخرون” نشرت عام 1949 تحت عنوان “الجندي الأمريكي”[8] -، لكنه فوجئ بعدم التركيز على الخوف من الإصابة الجسدية أو الموت، بقدر التركيز الكبير على الخوف من “خذلان الآخرين”[9].

يرينا الشكل الآتي أكثر العوامل أو الحالات إخافة للجندي الصهيوني في المعركة أو قبلها أو بعدها، وهو قادم ومقيّم بحسب شاليط من جنود قدامى (قوات خاصة وضباط صف غير مكلفين : NCOs) وضباط (ملازمون وألوية: قادة كتائب وقادة فصائل)، أي أنّ، لدى جميعهم خبرات قتالية تؤكد على قيمة هذه الإحصائية.

علّق شاليط على هذه النتائج بقوله أن التنوّع في تصوّر ما هو المخيف بالنسبة لهؤلاء الجنود واضح جداً. وفي الحقيقة، صحة هذه النتائج هنا، لا تعني بالضرورة صحتها في مكان آخر، إذ أن عاملاً كخذلان الرفاق يمكن أن تتغيّر أهميته وفقاً لروح الجماعة ومدى التزامها في كل وحدة قتالية، وأن تُترَك في أرض المعركة أو أن تخطف يمكن أن تزداد أو تقلّ حدته تبعاً لطبيعة وأحداث المعركة، أو تبعاً للتصوّر الموجود عن الخصم، فعلى سبيل المثال، الخوف من أن يُخطف “أحدٌ منا” على يد السوريين كان بالنسبة لنا أكبر بكثير من أن يُخطف على يد المصريين، ولربما تغيّر هذا العامل في سيناء أو في جبهات لواء غولاني[11].

وقد قام شاليط بدراسة مشابهة أيضاً على جنود حفظ السلام السويديين الذين لم تكن لديهم بعد دراية بتجارب القتال الحقيقي. وفي هذه المرة، تلقّى منهم الإجابة التي توقعها في الدراسة السابقة ولم تأته، الخوف من الموت أو من الإصابة كأحد أكبر مصادر الخوف لديهم. واستخلص من كل هذا، أن العلاقة عكسية بين الخبرة بالمعارك وتجارب القتال وبين الخوف من الموت أو من الإصابة.

اتفقت مع هذه النتيجة الكثير من الدراسات والتجارب العلمية التي أقميت حول العلاقة بين ممارسة الأنشطة الخطرة والخوف من الموت (Scharder & Wann 1999, Feifel & Nagy 1981, Alexander & Lester 1972, Griffith & Hart, 2002).

على سبيل المثال، اكتشف Scharder  و Wann في تجربتهما لعام 1999، أن القلق من الموت لم يكن مؤشراً دقيقاً على المشاركة في الرياضات عالية الخطورة، وافترضا في نهاية المطاف أنّ لعمر المشاركين الشباب (21.8) أثر محتمل على هذه النتيجة[12]. 

ويعلّق الملازم كولونيل الأمريكي ديف جروسمان مؤسس “علم القتل : killology”[13] في كتابه “في القتل” بالقول أنّه “في دراستي كلاً من بيركن وشاليط نرى أن الخوف من الموت أو من الإصابة ليسا سبباً أولاً للحالات النفسية الصعبة في القتال، لقد وجد شاليط أنه حتى في المجتمعات والثقافات التي تقول لجنودها بأن الخوف الأناني من الموت أو من الإصابة يجب أن يكون هاجسكم الأول، أي، حلالٌ عليكم ذلك، إلا أن الخوف من خذلان هذا المجتمع أو هذه الثقافة يبقى هو الهاجس الأكبر على عقول هؤلاء الجنود!”[14].

وعلى العكس من ذلك تماماً، توصلت بعض الدراسات إلى نتيجة مفادها أن الأفراد المشاركين في أنشطة مهنيّة فيها خطر الموت حاضر باستمرار، يعانون من قلق-خوف من الموت بشكل أعلى من الأفراد في المهن الأخرى

على سبيل المثال، أثبت Hunt, Lester, and Ashton (1983)  أن مستوى الخوف من الموت لدى الجنود وأفراد الشرطة أعلى من رجال الأعمال وطلاب الجامعات بشكل عام[15].

كيف نحلّ هذا التناقض إذأ؟ من جهة هناك دراسات وتجارب علمية ومواد اثنوغرافية تؤكد أن تجربة القتال، أو بمعنى أوسع، تجربة ممارسة الأنشطة الخطرة تقلل من مستوى الخوف من الموت لدى الممارسين. ومن جهة ثانية، هناك دراسات وتجارب علمية ومواد اثنوغرافية تؤكد أن الخوف من الموت أعلى في الأنشطة ذات الخطر العالي والحضور المستمر لفكرة الموت من الأنشطة ذات الطبيعة المدنية البحتة.

نفترض إذن كما افترض نيوسوم، أن ما نطلق عليه “تكيّف الجنود” (Military adaptation) أو عدم تكيفهم في أرض المعركة يعتمد أولا على المسار البيوغرافي الذي أتى منه كل جنديّ على حدة، ثانيا وبشكل أساسي، على عملية صناعتهم كجنود التي تشمل كما قلنا إقامة حالة جسدية ونفسية خاصة. ولهذا السبب، فإن دراسة كيف تتم عملية صناعة هؤلاء الجنود في الجيوش الحديثة هو أمر لا مفر منه في أي حال من الأحوال.

كتاب “في القتل: التكلفة النفسيّة لتعلم القتل في الحرب والمجتمع” للملازم كولونيل الأمريكي ديف جروسمان: نشر جروسمان هذا الكتاب في مدينة نيويورك عام 1996، أي قبل تقاعده من الحياة العسكرية بثلاث سنوات،.كان رقيباً في الفرقة المظلّية 82، ثمّ قائد كتيبة في فرقة المشاة 9، ثمّ ضابط للأركان العامة وقائد سريّة في فرقة المشاة 7، وانتهى به المطاف إلى أستاذ في علم النفس في الأكاديمية العسكرية للولايات المتحدة والمعروفة أيضاً باسم “ويست بوينت”.

يفتتح جروسمان كتابه واصفاً إياه بهذا التشبيه:

“في حال كنتَ بكراً يجهّز لليلة زفافه، أو تواجهك صعوبات جنسية مع شريكك، أو في حال كان الفضول هو ما يحركك، ستجد اذا مئات الكتب المتوفرة في هذا الموضوع. أما لو كنت جندياً شاباً “بكراً”، أو ضابط حديث العهد وينتظر تعميده بالنار، إذا كنت محاربا قديما أو شريكاً لمحارب قديم وتواجهك اضطرابات نفسيّة بسبب تجارب القتل السابقة، أو في حال كان الفضول هو ما يحركك مرة أخرى، فإنك لن تجد في هذا الموضوع أية أعمال متوفرة على الطريقة العلمية… في القتل، هو إذن محاولة متواضعة لتصحيح هذا الخطأ، ومن خلال القيام بهذا الدور، يرسم هذا الكتاب صورة مطمئنة للطبيعة البشرية، فبالرغم من العنف والحرب، الإنسان في طبيعته ليس بقاتل”[16].

الذي بين يدينا بطبيعة الحال، هو كتاب عن القتل، يشرّح فيه المؤلف نفسية القاتل، طرائق هذا الفعل وتبعاته المختلفة. يضيف جروسمان أنه كتابه هذا هو أيضاً مساهمة في النقاش الدائر حول مسببات العنف في “شوارعنا”، لماذا وكيف تساهم “الميديا” وشبكات ألعاب الفيديو في ذلك؟ والطريقة التي تستنسخ فيها هذه العملية لتكييف الجنود والضباط حديثي العهد على فعل القتل. وقد جعل من الكتاب نصيباً لا بأس به للخوف كعقبة أساسية أمام القتل كفعل “ضروري” للجنود، وهذا بالتحديد سبب اهتمامنا به.

يشير الشكل التالي إلى الخيارات المتاحة أمام كل جندي في أرض المعركة، وهو المدخل الذي يعتمده جروسمان لدراسة الخوف عند الجنود.

يقوم هذا النموذج على أساس أنه أمام مصدر ما للخطر، تستنفر مجموعة من العمليات الجسدية والنفسية لتحضّر وتدعم الجندي في هذه الحالة على اتخاذ قراره، إما القتال ومتابعته، أو الهرب والخضوع. متلازمة اضرب أو اهرب هي إذن الضبط المناسب لأي مخلوق في مواجهة الخطر. ولنقفز مباشرة إلى قرار الهرب والخضوع، يضع جروسمان الخوف مباشرة في موقع المسؤول عن هذه الحالة ويصفها بيولوجياً بالقول:

“عندما يخاف الإنسان، فهو يتوقف كلياً عن التفكير بدماغه الأمامي الذي يميزّه كإنسان، ويبدأ بالتفكير بدماغه الأوسط الذي يشترك فيه مع باقي الحيوانات، وفي منطق العقل الحيوانيّ، من يصدر الضوضاء الأعلى أو من ينفخ نفسه أكثر، هو من يفوز”[18].  

حتى يُفهم هذا النموذج بطريقة صحيحة، وبشكل خاص، الجزء الذي يتعلق منه بالخوف: لماذا يخاف الجندي ولا يستطيع أن يقتل؟ أو لماذا يخاف ويخضع؟ نحن بحاجة إلى فهم ما يعرف بـ “قانون القوة في المعركة” الذي يتحدّث عنه جروسمان هنا[19]، إلا أن أفضل ما كتب فيه هو الكولونيل الفرنسي ميشيل غويا في كتابه “تحت النار”، وهو ما سنتطرق إليه مباشرة.

كتاب “تحت النار: الموت كفرضيّة للعمل” للكولونيل الفرنسيّ ميشيل غويا: صدر هذا الكتاب قبل عامين من الآن، وهو بلا شكّ أهم ما كتب بالفرنسية في أدبيات المعركة، كتاب غني بالأمثلة العسكرية والمراجع التي يحيلنا إليها، وقد أعطانا منذ قراءته للمرة الأولى دفعة قوية لإنجاز هذه الدراسة وأطروحة الماجستير.

كتاب “تحت النار” عبارة عن محاولة من غويا لإعادة فهم تجربته العسكرية بطريقة علمية منهجية، ويريد من خلال هذا كلّه أن يجيب على سؤال واحد فقط: كيف يقوم رجال عاديون بأمور خارقة للعادة؟

يبدأ الكولونيل ببكائيّة حول تراجع مكانة الجيش في المجتمع الفرنسيّ أمام الحركات التحررية والنزعات اللاعسكرية التي بدأت باجتياح البلاد انطلاقاً من سبعينات القرن الماضي، وقد أطلق على هذه الحالة مفهوم “عقيدة النقي والتامّ”، وأراد بها عقدة النقاء والتمام التي سيطرت على عقول الفرنسيين في ذلك الوقت. مشكلة غويا مع هذه العقيدة العقدة هي عدم تركها أي مساحة ممكنة للنقاشات التكتيكية والملاحظات البراغماتية التي كانت في أوج شبابها على مستوى البلدان الأخرى، استمر جنود فرنسا بالقتل والموت يقول، لكن بلا اهتمام من أحد، بل، وباحتقار من المؤسسة العلمية وحتى من المؤسسة العسكرية نفسها[20].

يتحدّث بعدها مباشرة عن المعركة وقانون القوة، وهو ما سنتوقف عنده لاستكمال شرح فكرة الخوف من القتل السابقة عند ديف جروسمان.

يقول الضابط النابليوني شارل آردانت دو بيك في وصف منحنى المارشال إتين ماكدونالد عن الخوف في معركة فاغرام التي وقعت في الخامس والسادس من تموز عام 1809:

“من 22000 جندي، 3000 بالكاد وصلوا مواقعهم في الصفوف الأمامية. ال 19000 الذين تغيّبوا، هل كانوا خارج المعركة؟ لا. وبالحد الأقصى، ثلث هؤلاء وهي نسبة ضخمة نوعاً ما كان بامكانهم في النهاية أن يصلوا إلى مواقعهم ; ال 12000 الغائبين حقيقةً هذه المرة، ماذا حلّ بهم؟ هل تعثروا في الطريق وسقطوا أرضاً؟ هل غلبهم النعاس وناموا في الطريق؟ هل تظاهروا بالموت لئلا يكملوا المسير نحو المعركة؟ لا شيء أسهل من القيام بهذا النوع من التدحرج الخامل، وليس هناك ما هو أكثر شيوعاً”[21].

المعركة قانون قوّة يقول غويا، ويقوم هذا القانون على ما يسمّى بمبدأ باريتو 80/20 = 20/80، أي أنّ 80% من أهداف القتال، يحققها 20% من الجنود، أو يمكن القول، 20% من الفاعلين ينتجون 80% من الأحداث. وبالتالي، هناك حيث يسيطر الخوف، 20% من الأهداف/الأحداث ينتجها 80% من الجنود/الفاعلين. يمكن بطبيعة الحال أن تذهب الأمور في المعارك إلى تطرّف أكبر من هذا، فيحقق 5% من ال20% نصف العمل المطلوب، ويمكن أن تبقى كما هي أو أن تذهب أكثر باتجاه رجحان الكفة.

دعونا نتخيل قانون القوة – المعركة خطّاً ملتوياً على منحنىً هندسيّ. على يسار هذا الخطّ الضيّق عمودياً في مدار (أ) التي تمثّل لنا روح المبادرة، الكفاءة والفاعلية والتنسيق، نجد “مغنّيي الحرب”، وهم على سبيل المثال ال3000 الذين اخترقوا الخطوط النمساوية في معركة فاغرام وقتلوا هناك. على يمين الخطّ، الممدود أفقياً في مدار (ب) التي تمثّل لنا العدد، نجد “الكومبارسات”، وهم كثر كما رأينا.

وكما قفزنا في شرح جروسمان عن خيارات الجندي المتاحة إلى حيث يسيطر الخوف، سنفعل هنا الشيء ذاته وسننتقل مباشرة إلى اليمين وأقصى اليمين في قانون القوة في المعركة، حيث يسيطر الخوف أيضاً على تصرفات الجنود.

على اليمين لقانون القوة: “الكومبارس”:

يقلّل الخوف من القتل عند هذه الكتلة الكبيرة من الجنود ليس فقط روح المبادرة، وإنما كافة القدرات الجسدية والعقلية. يقدّر الكابتن لافارج أنه في جميع كتائب المشاة المشكلة من 600-800 مقاتل والتي شاركت في المعارك بين عامي 1914-1915، لم يتبقّ في كل تشكيل إلا 200-300 بعد مضيّ سويعات قليلة على القتال، ولم يكن لأغلب هؤلاء مطلقاً أية تأثير على مجريات القتال[22].

يعتقد الكولونيل هنا، أنه وبدرجات متفاوتة، سنجد هؤلاء “الكومبارس” في كافة أشكال القتال. ففي مهمة قصف جوّي سنة 1917 يصفها صاحبها الطيار الفرنسيّ اندريه شايانت بعد ملاحظته لستّ طائرات ألمانية (boches[23]) في مجال طيرانه:

“أرى أمامي رفيقين لي، ثم أشير لهم: “تعالوا معي”، تبعوني لكن بروحية معطوبة، وأضعت الألمان! عدت إلى رفيقاي وجعلتني في المنتصف، دفعت بهم إلى الأمام، ثم وجدت الطائرات الألمانية مرة ثانية، رسمت الخطّة في رأسي وأشرت لرفيقان: “أنا سأهاجم”. كنت محظوظاً جداً بالقضاء وحدي على الألمان حتى آخر طيارة منهم. ثم بعد عودتي إلى المعسكر، بحثت عن رفيقاي، لم أجد أحداً… هنا تعلم حقاً من هو صديقك الحقيقي ومن لا، من يذهب معك على الموت ومن يتظاهر بالذهاب… من يختفون تماماً عندما تكون بأمس الحاجة اليهم ولا تراهم إلى في النهاية، عندما لا يكون هناك أي مصدر للخطر! محركات طياراتهم تهذرب كرجل معه الحمى، وبنادق طائراتهم معطلة! في الحقيقة، لقد هوجموا من فوقهم ولا يعلمون حتى الان كيف استطاعوا الهرب والخروج من المعركة”[24].

على الأرض مجدداً، هذا ما يؤكده الجنرال دو بي، رئيس قسم التدريب والعقيدة القتالية للجيش الأمريكي طوال سنوات السبعينات من القرن الماضي:

“لو تركت الأمور تسير لوحدها، فقط 10% من الجنود من يأخذ بنفسه روح المبادرة، بالحركة أو بإطلاق النار والقنابل. الآخرون، سيدافع كل منهم عن مهامهم التي اوكلت اليهم بالمعنى الأوليّ أو الخاص جداً، لا أكثر ولا أقلّ. لا يمكنك عملياً الاتكال عليهم، فهم مبرمجون على خطوط عريضة لا يستطيعون أو لا يريدون الخروج من حدودها، ومنهم ضباط! ستظلّ تقول: “اعمل هذا، اعمل ذاك، اطلق على هذا الهدف، اطلق على ذاك، اذهب هناك”. تجد نفسك في نهاية المطاف بين رقيب واحد جيد وثلاثة أو اربعة جنود ليقوموا بكل العمل”[25].

يتفقّ مع هذا كثيرون، والأمثلة على اليمين من قانون القوة في المعركة هائلة، في الكتاب وخارجه، لكن ليس من الضروري أن تُعرض كلها في دراسة واحدة أو في سبيل توضيح قانون واحد.

يعقّب ميشيل غويا على هذه الأمثلة بالقول بأن هؤلاء الرجال خضعوا لقوتين كبيرتين ومتناقضتين، الأولى كابح قوي جداً حدّ من قدرتهم على التفكير، والثانية حاجتهم الملحّة للتصرف[26]. ولهذا تجدهم قد تبعوا قوانينهم الشخصية في القتال لا قوانين المؤسسة العسكرية المنتمين اليها.

أما على اليمين الأقصى من قانون القوة-المعركة، فتسيطر كمية أكبر من الخوف على تصرفات الجنود، وترى حالات خوف أكثر تطرفاً تبدأ بالعويل والصراخ وفقدان الوعي، وتنتهي بأن يلقّم الجنديّ سلاحه ويُقتل دون أن يطلق النار! وغالباً جدا ما يتحول من بقي من هذا كلّه على قيد الحياة إلى ما يعرف بحالات الصدمة أو ما بعد الصدمة.

*****

الهوامش:

[1]  أنظر: Ronald Hatto, Anne Muxel et Odette Tomescu, Enquête sur les jeunes et les armées : images, intérêt et attentes, Etude de l’Irsem n°10 , 2012. Jean-François Léger, Pourquoi des jeunes s’engagent-ils aujourd’hui dans les armées ?, Revue française de sociologie, 2003/4 Vol. 44, p. 713-734

.[2] Piddington, Ralph, Man and Culture : An evaluation of the work of Bronislaw Malinowski, Routledge & Kegan Paul, London, 1957, p : 34.

[3]  استخدمنا في جمع السير الذاتية للجنود نوعين من اللقاءات المنهجيّة، الأول شائع جداً ويسمّى عادة باللقاء النصف مباشر (entretien semi-directif)، وقد بررنا اعتماده بأنه لا يمكن إطلاق العنان للمخبر في الحديث فيخرج عن إطار المبحوث عنه. الأداة الثانية وهي ما قصدنا عملياً حين قلنا معقدة، اللقاء التصريحي أو لقاء التجلّي (entretien d’explicitation) الذي طوّره عالم النفس الفرنسي بيير فيرميرستش لإعطاء مصداقية أكثر للمعطيات الاثنوغرافية، ويقوم هذا اللقاء على مبدأ تجزئة أحداث الماضي إلى أكبر عدد ممكن في الوصف من أجل الوعي بالوعي القائم حينها وإعادة التصريح به لفهمه الآن. أما مبرر استخدامه، فهي الانتقادات الموجهة لمنهج السيرة الذاتية باعادة بناء الماضي، أو صناعة نسخة أخرى منه وأن الرواية لا يمكن أن تفلت بأي حال من الأحوال من تأثيرات ذاتية الراوي نفسه.

أنظر:

Balas-Chanel A., L’entretien d’explicitation. Accompagner l’apprenant vers la métacognition explicite, Éduquer, 2002.

Petitmengin C., Décrire son expérience vécue en « deuxième personne » : Une méthode d’entretien pour contribuer à une science de la conscience, Sciences 5, 2006.

Cazemajou A., Pauline ou la poupée qu’on bascule (Intervention au Centre national de la danse Lyon/Rhône-Alpes, novembre 2011), Expliciter, 2013.

[4] Wacquant, Loïc & Bourdieu, Pierre, An Invitation to Reflexive Sociology, Polity Press, 1992, p : 18.

[5]  Candau, Joël, Pourquoi coopérer ?, Terrain, 2012, p : 15.

[6] Newsome, Bruce, The myth of intrinsic combat motivation, Journal of Strategic Studies, vol 26, no 4, Decembre 2003, pp. 24-46, p. 24.

[7] Goya, Michel, Sous le Feu, Tallandier, 2014, P. 23, 25.

[8]  Shalit, Ben, The Psychology of Conflict and Combat, Praeger, New York, 1988, p : 10.

[9]  Grossman, Lt. Col. Dave, On killing : The psychological Cost of Learning to Kill in War and Society, Back Bay Books, New York, 1995, 1996, p : 52.

[10]  Israeli Defense Force (IDF), Unit of Military Psychology, unpublished report, 1974. Cited in : ibid, The Psychology of Conflict and Combat, 1988, p : 11.

[11] Id., p : 10.

[12] Griffth, James D. ; Toms, Ali ;  Reese, Joey ; Hamel, Michael ; L. Gu, Lucy, Attitudes toward dying and death : A comparison of recreational groups among older men, OMEGA, Vol. 67(4) 379-391, 2013. [13] See also : (http://www.killology.com/).

[14] Ibid., On killing : The psychological Cost of Learning to Kill in War and Society, 1995, 1996, p : 53.

[15] Ibid, Attitudes toward dying and death : A comparison of recreational groups among older men, OMEGA, Vol. 67(4) 379-391, 2013.

[16] Id., p : xiv.

[17] Id., p : 7.

[18] Id., p : 8.

[19]  مصدر سابق، أنظر ص: 67-68.

[20] Ibid., Sous le Feu, 2014, P. 20.

[21] Ardant Du Picq, Charles, Etudes sur le combat, Paris, Champs libre, 1978, p : 94.

[22] Capitaine Laffarague, Réflexions sur la part que l’on doit attribuer à l’individu et à l’unité d’infanterie dans le combat, Revue d’infanterie, 1926-1. Cité dans : ibid., Sous le Feu, 2014, p : 36.

[23]  يطلق الفرنسيون على الألمان مصطلح “بوش”، وهي كلمة تحقيريّة إلى حد ما، وقد شاع استخدامها أثناء الحربين العالميتين.

[24] Jules Roy Guynemer, L’Ange de la mort, Albin Michel, 1986, p : 212. Cité dans : id., pp : 36-37.

[25] Changing An Army, An Oral History of General William Depuy, www.geocities.com/jeffduquette/Depuy.html. Cité dans: id., p: 27.

[26] Id., p : 33.

ما هو الخوف؟

يخاف الجنود إذن، من خذلان الآخرين، من القتل قاتلاً أو مقتولاً، ومن الاتصال الأول بالنار، من الفجوة بين المتوقع والحقيقي، من العزلة، ومن الذكريات (الخوف الذاتي الاسترجاعي[1])، من خوف الآخرين معي، الخ. لكن، ما هو الخوف عملياً؟

في علم الأعصاب، إن ما نطلق عليه نحن الخوف، ما هو إلا اللحظات التي تبعث فيها الأميجدالا برسائل عاجلة إلى معظم أجزاء المخ، التي تثير إفرازات في الجسم – هرمونات، وتجنّد مراكز الحركة -أضرب أو أهرب- وتنشّط الجهاز الدوري (cardiovascular system)، والعضلات، والقناة الهضمية.

كما تبعث دوائر كهربائية (دارات عصبيّة) أخرى من الأميجدالا إشارة عاجلة إلى هرمون النوريباينفرين (norepinephrine) لوضع مناطق المخ الرئيسية في حال استعداد، بما فيها تلك المناطق التي تجعل الأحاسيس أكثر يقظة، مما يؤثر في المخ ويدفعه إلى حافّة الانفعال.

وتبعث الأميجدالا أيضاً بإشارات إضافية إلى جذع المخ، فيستقر على الوجه تعبير الفزع، وتتجمد الحركات غير المتصلة بالعضلات، وتتسارع ضربات القلب، ويرتفع ضغط الدم، ويبطؤ التنفس. وهناك إشارات أخرى تلفت الانتباه الشديد إلى مصدر الخوف، وتجهّز العضلات لرد الفعل وفقاً لما يقتضيه الموقف. وبالتزامن مع ذلك، تتحول أجهزة الذاكرة القشرية (cortical memory system) لاستدعاء أي معرفة متصلة بالحالة الطارئة الراهنة، ليكون لها الأسبقية قبل استجماع خيوط التفكير[2][3].

ما الأميجدالا؟ أو بالأحرى، لماذا يحصل كل هذا عندما نخاف؟

مصطلح الأميجدالا (amygdale  أو  amygdala) قادم من اللغة اليونانية ويُعنى به حبة اللوز. في العربية، يستخدم مصطلح النتوءات اللوزية لقول الشيء ذاته. ولدى كلّ منّا اميجدالتان توازي كل منهما الأخرى في أقصى جذع المخ بالقرب من قاعدة الدائرة الحوفية، في الطبقات تحت القشرية من الدماغ الأمامي.

تقليدياً، عرفت الأميجدالا بدورها في عمليتي الشبق والإباضة، وكان هذا هو كل ما نعرف عن هاتين اللوزتين[4]. إلا أنه كان علينا الانتظار حتى ثمانينات القرن الماضي لنرى كيف تلعب الأميجدالا دوراً أساسياً في المشاعر، وشعور الخوف بشكل خاص.

كان ذلك على يد عالم النفس الأمريكي المتخصص بقضايا الذاكرة والمشاعر جوزيف لودو الذي أظهر لنا عام 1991 كيف تحدد الأميجدالا أفعالنا العاطفية قبل حتى أن يعي العقل ما الذي يحصل! هذه عمليّة معقّدة وتحتاج إلى شرحها مباشرة بعد الانتهاء من هذه الفقرة، إلا أنها أيضاً عملية ممتعة وجميلة ستذهب بعد أن تتمكن منها إلى أقرب باب أو سلّم طوارئ، وستحاول عبثاً أن تقنع نفسك بأن لا وجه شبه بين الأمرين.

المهم أنه وبعد هذا الاكتشاف لـ لودو، تحولّت الأميجدالا إلى تربة خصبة للأبحاث العلمية. أعمال بحثية جديدة أظهرت أيضاً أن الأميجدالا جزءٌ بالغ التعقيد والحيويّة مرتبط بمناطق أخرى من الدماغ بشكل قوي، وأنها تلعب دوراً آخر أساسياً في بعض الاضطرابات السلوكية عند الخوف، أو التوتر، أو الكآبة والتوحّد، الخ[5].

كيف تعمل الأميجدالا عند الخوف؟

بعد أن يستلم المهاد (thalamus) الإشارات الحسيّة السمعيّة أو البصرية من الخارج، يترجم هذه المعلومات إلى لغة الدماغ (langue cérébrale) ويبعث بها إلى القشرة الدماغية الجديدة (néocortex) بهدف تحليل هذه المعلومات ومن ثمّ، إعطاء القرار بالاستجابة المناسبة للظرف في تلك اللحظة، فإذا كانت الأمور تتطلب استجابة عاطفية، تُرسل القشرة الجديدة إشارة إلى الأميجدالا من أجل تفعيل المراكز العاطفية المطلوبة، فنرى على سبيل المثال تعريف الخوف الذي بدأنا به هذا الفصل من الدراسة ماثلاً فينا أو أمامنا.

هذه العقلانية وهذا التأنّي هو ما يحصل وما يجب أن يحصل طوال الوقت، إلا أن جوزيف لودو لاحظ (في حالة الخوف) مجموعة صغيرة من الدارة العصبيّة (رسالة المهاد إلى القشرة الجديدة) تأخذ طريقاً مختصراً إلى الأميجدالا دون المرور بالقشرة الجديدة، وهو ما يسمح باستجابة أسرع لكن أقلّ دقّة، لأن الأميجدالا ليست مركزاً لتحليل المعلومات وإنما لتوزيع الأدوار والأوامر، وهذا يفسّر مرة أخرى لماذا يتقدّم تجلّي الشعور بالفرار على إدراك ماهيته كرعب.

والحقيقة، أنه بهذه الطريقة التي تعمل بها هاتان اللوزتان، واللتان نشترك بهما مع الكائنات الحية الأخرى، نفذنا من الموت المحقق مرات عديدة كان علينا فيها القفز بعيداً عن مصدر الخطر قبل التأمل فيه وتحليل احتمالات النجاة أو الموت. إلا أن السؤال الذي راودنا عند الحديث مع الجنود عن عملية صناعتهم كجنودٍ، هو: هل تصلح هذه الطريقة في القتال؟ هل تنقذ الجنود من الموت فعلاً، أم أن الأميجدالا هنا تنقلهم من “الدلف” (الخوف) إلى “تحت المزراب” (الموت أو التصرف الخاطئ) ؟ ويبدو أن هذا السؤال هو نفسه اجابته، ليس مسموحاً للجندي أن يتخذ قرارات خاطئة، كما أنه، ليس مسموحاً له أن يموت، ولذلك، على معجزة ما أن تتحقق هنا، كأن يتم الحفاظ على الدارة العصبيّة الأولى من المهاد إلى القشرة الدماغية الجديدة إلى الأميجدالا لكن بسرعة الدارة العصبيّة الثانية من المهاد إلى الأميجدالا مباشرة، لكن، هل هذا حقاً ممكن!

نعلم مسبقاً أن أثر “الثقافة” على “البيولوجيا” (الانسان) كبير إلى حد لم نكن نتصوره، وهذه بكل الأحوال القضية المركزية الثانية في حقل “الآنثروبولجيا الإدراكية”، في حين الأولى هي مرونة الدماغ البشري وإلى أعمار متأخرة نوعاً ما. أو بكلمات أخرى، يمكن نظريا وتقنيا التدخل لإحداث تغيير ما في الضبط الطبيعي للإنسان، لكن، هل تبقى هذه القاعدة صالحة عند الحديث عن المشاعر، وشعور الخوف بالتحديد، علماً بأن الغالبية العظمى في حالات الأخير هي حالات غير مصطنعة ولا يمكن تجنبها.

وبالرجوع إلى تعريف ستيفين جون سافيل له، فالخوف هو عمليا الفجوة بين الخطر وبين الطريقة التي تم تخيله بها[6]، ثم أن هذا التعريف للخوف أو فكرته، عادة ما تتم الإشارة به في الأدبيات العسكرية إلى أمرين، الأول، طبيعة ومغزى التدريبات العسكرية للجنود، أما الثانى فهو اعتماده كسبب للاضطرابات النفسية (Posttraumatic Stress Disorder). كيف يتدخل الجيش اذن، وما طبيعة الآليات التي يعتمدها في صناعة جنوده، وبالتالي، في عسكرة مشاعرهم – خوفهم؟ هذا ما سنتبينه في الفصل الخامس والأخير في هذه الدراسة.

الهوامش:

[1]  حصلت هذه الحالة مع أحد الجنود الذين قمنا بإعادة بناء سيرهم الذاتية.

[2]  جولمان، دانييل، الذكاء العاطفي، عالم المعرفة، 2000، ص: 36.

[3] LeDoux, Joseph, Emotional Brain Revisited, Copernicus Center Press, 2014, pp : 41-42.

[4]Kawakami, Masazumi ; Seto, Katsuo ; Terasawa, Ei ; Yoshida, Kazuchika, Mechanisms in the Limbic System Controlling Reproductive Functions of the Ovary with Special Reference to the Positive Feedback of Progestin to the Hippocampus, 1967.

[5] Adolphs et al., 2005; Bishop et al., 2004; LeDoux, 1998; Mah et al., 2007; Spezio et al., 2007; Truitt et al., 2007; Williams et al., 2006 : Cited in : Johnson, Ryan ; Breedlove, S. Marc ; Jordan, Cynthia, Astrocytes in the Amygdala : Hormones of the limbic system, 2010, pp : 23-24.

[6] John Saville, Stephen, Playing with fear: parkour and the mobility of emotion, Social & Cultural Geography, 9 : 8, 2008, p. 95.

[7]  مصدر سابق، الذكاء العاطفي، 2000، ص: 39.

صناعة الجنود: خمس آليات ممكنة في عسكرة المشاعر 

بالرجوع إلى التعريف العسكري للجندي، وإلى فكرة الخوف كما هو (التعريف العصبيّ للخوف)، نجد أنفسنا بالضرورة أمام علاقة صراع بين عالمين ينتصر فيه أحدهما على الآخر، إمّا أن يترك الجنديّ الجيش لأنّه لم يستطع التحكم بخوفه، وليس هذا هو الهدف الذي أنشئت الجيوش من أجله، وإمّا أن ينتصر الجندي على خوفه، وهذا هو الحال بكلّ تأكيد.

لكن، كما سبق وقلنا في الفصل الثاني، إنّ أول ما لاحظناه في ميدان هذه الدراسة هو أنّه في عمليّة صناعة الجنود، لا يتمّ التعامل مع الخوف بهذه الصراحة التي نتعامل بها معه الآن، باستثاء بعض الوحدات القتاليّة الخاصّة أو السرّيّة. بكلمات أخرى، لن نجد في أيّ حال من الأحوال، مدرّبًا يقول لجنوده: “هاكم أمثلة على الخوف، وهذه الطرق التي يمكن التصرّف بها!” الخوف كما عمليّة صناعة الجنديّ عملية أكثر تعقيدًا من ذلك.

ولهذا، يؤخذ الجندي الجديد، القادم الجديد، كلّه وحدة واحدة كتهديد يشكّل خطرًا (free-rider)، أو على الأقلّ خطرًا محتملاً (فرصة وتحدّي) على منظومة التعاون في الجيش كشكل من أشكال الجماعة البشرية؛ وما قصدنا قوله من خلال هذا النصّ بعسكرة المشاعر هو عمليًّا عمليّة صناعة الجندي كاملة، والتي تشمل بطبيعة الحال إقامة حالة نفسيّة عسكريّة يرى الجنود فيها أنفسهم؛ ويعتمد الجيش في هذا على خمسة تكتيكات رئيسية:

أولاً: الطبيعة الشخصيّة (البناء الاجتماعيّ للجنديّ):

عندما سألنا الجنود كيف أمكنهم التحكّم بخوفهم في أرض المعركة، كانت الطبيعة الشخصيّة هي أول ما تمّ استحضاره على ألسنتهم بطريقة مباشرة وغير مباشرة، باستخدام تعبيرات مثل “هذا أنا”، “هذا في داخلك”، “كبرت هكذا”، أو “عندما كنت صغيرًا لم أكن أخاف أحدًا”، وتعبيرات أخرى يزخر بها دفتر ملاحظاتنا.

ولمّا حاولنا النبش أكثر وراء هذه الأجوبة، وجدنا أن كلّ مسار بيوغرافي فيه آليّات لا تحصى لصقل شخصية الفرد ومناعته أمام المشاعر السوداء، ويتمّ أحيانا الانتباه فعلاً إلى أنّ من هذه رياضة الجودو مثلاً، أو التزلّج، القراءة، والمخيّمات الجبليّة-الدينيّة (Scoutisme)، فيُشار إليها كآليات بطريقة مباشرة.

وأحيانا أخرى، تكون طبيعة الحياة بحدّ ذاتها، أي بكلّيّتها، آليّة للتصالح مع الخوف على المستوى البعيد، كالنشأة في حيّ شعبيّ لأب عربيّ مفقود وأمّ فرنسيّة وأخوة في السجن، إلخ. وفي هذه الحالات غالبا ما يكون هناك صعوبة في الإشارة بالاصبع إلى آليّة بعينها، فيقول كما سمكة تُسأل عن سبب قدرتها على العيش تحت الماء: “هذا أنا، هكذا أنا…” أمّا وسط هاتين الحالتين، فالأمور أوضح بكثير، كالنشأة مثلاً في كيبوتس يهودي أرثوذوكسيّ في إسرائيل، وعن ذلك، يقول إيتان، وهو أحد الضباط السابقين في الجيش الإسرائيليّ:

“لقد ولدت في كيبوتس أرثوذوكسي، وكبرت هناك حتى فترة خدمتي العسكريّة. كوّنت كثير من العلاقات مع الجنود الذين كانوا يتدرّبون في الجوار. لطالما استضاف الكيبوتس جنودًا يوم السبت، رأيناهم في الحمّامات، كانوا يعبرون من حقولنا في مشيهم الطويل… لهذا، كبرت أنا مع هذه المشاهد من تدريبات الجنود، مجيئهم، مغادرتهم، ولذلك، كنت مستعدًّا لخدمتي العسكريّة. أخبرني أصدقائي الجنود الكثير عن تجاربهم، وهكذا فعل إخوتي، ولم تكن اللياقة البدنيّة عائقاً بالنسبة لي. كانت لديّ خططي الخاصّة، كنت أريد أن أخدم في وحدة مكافحة الدبّابات عند المظليّين، تسمى “tau”. هناك كان أخي من قبلي، وهي وحدة راقية جدًّا يتمّ تدريب أفرادها على التعامل مع صواريخ مضادة للدبابات. مهام الوحدة ممتعة جدًّا، وأفرادها مستواهم عالٍ جدًّا. أن تخدم في فريق صغير جداً مع جنود طيّبين، وتبقون معا طوال الوقت، هذا ما شدّني فعلاً في الحياة العسكريّة. عرفت آنذاك أني سأصبح ضابطًا وسأخدم لأربع سنين وليس فقط مدّة الخدمة الإجبارية. كان هذا عُرفاً في العائلة.”[1]

يمكن جديّاً فهم هذا الجانب بمفهوم الهابيتوس عند عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، وما هو إلّا تاريخ حياة كلٌّ منّا الثقافيّ كما البيولوجيّ المسجّل في جسده.

دور الجيش هنا يتمثّل في القدرة على ملاحظة هذه المزايا واستغلالها بما يرضي الطرفين، وهنا تبدأ رحلة انصهار الفرد في مجموعته.

ثانياً: أثر المجموعة، الإلتزام والثقة بالاخرين:

الانصهار في المجموع وانصهار المجموع في الفرد، هو أقوى ما يشير إلى الحياة العسكرية، وهو ما تعتمد عليه عمليّة بناء الجنود أكثر من أيّ عاملٍ آخر. في الجيش، لا يبقى الجنديّ بمفرده لحظة واحدة، فهو في اندماج عالي المستوى ومستمرّ بالمجموعة: الخلود إلى النوم، النهوض من النوم، تمارين الصباح، وجبة الصباح، تمارين ما بعد الفطور، راحة ما بعد التمارين، حصص ما بعد الراحة، راحة ما بعد الحصص، الخروج في مناورة، الخروج في مشي المسافات البعيدة، الذهاب إلى المعركة، إلخ. كل هذا يحدث في جماعة.

وهذا باعتقادنا هو ما دفع يورام، أحد خبراء تفكيك القنابل في الجيش الإسرائيليّ للقول:

“في الجيش، تنهار كافّة حواجز الاتّصال الفيزيائيّ بالآخرين، هناك تلامس دائم، تمشي، تستحمّ، تلمس، تعيش مع الآخرين، كل شيء نقوم به سويًّا. أعتقد بأن أكثر مكان يلمس فيه الأفراد بعضهم البعض هو الجيش. ولا أستطيع حقًّا تفسير ذلك، ربّما لأن الحياة قاسية في الجيش، لدرجة أنه باستطاعتك أن تصفع رفيقّا لك كي تساعده، وهذا يعطي كليكما شعورًا بالراحة.”[2]

انتبهت روز هاير وزميلتها ليلي بانهولزر إلى دور هذا الإنصهار في المجموعة في خلق الإلتزام عند الجنود، في “خلق محاربين ملتزمين”، وهي الدراسة الميدانيّة الي قامتا بها عن مجموعات عسكريّة من جمهوريّة الكونغو الديمقراطيّة ونشرت عام 2014. حاولت الباحثتان الدفع بهذه الفكرة بين حقيقتين في المجال العسكريّ، من جهة، إنّ أيّ خلل وظيفيّ لمجموعة ما في الجيش لا يؤدّي فقط إلى تمرّد أو عصيان في هذه المجموعة، وإنّما بإمكانه أن يقود أيضًا إلى تفتّت قويّ جدًا، أو إلى انفجار في المجموعة إن صحّ التعبير، وبالتالي سيؤدّي هذا الخلل إلى القضاء على المجموعة بالكامل. من جهة أخرى، هناك أمثلة استطاعت أن تُرينا هذا الأثر بطريقة معاكسة، دورا كوستا وماثيو خان فحصا، على سبيل المثال، لماذا استمرّ جنود الحرب الأهليّة الأمريكيّة بالقتال بالرغم من العديد من القيود: عائد مادي ضعيف جداً، وخطر الفرار من الخدمة، علماً بأنّ الجندي الذي يهتمّ بمصلحته الشخصية لن يفكّر مرتين بقرار الفرار من الجيش، إلّا أنّنا وجدنا، يقول الباحثان، أن 90% من جنود جيش الاتّحاد استمرّوا في الخدمة رغم كلّ شيء، ونصف هذا العدد أعاد تجديد عقده للبقاء في الجيش.[3]

فسّرت هاير وزميلتها بانهولزر هذه الظاهرة الآنثروبولوجيّة بالقول بأنّ الرابط بين الأوامر المعطاة وتنفيذها بوفاء ليس دائماً وثيقًا كما نتخيّله، بل في الحقيقة، يعتمد تنفيذ الأوامر بشكل كبير على مستوى الالتزام (committment) لدى الجنديّ تجاه مجموعته، وأضافتا، الجنود الملتزمين أظهروا في دراستنا تماسكًا أكبر، مما أدى إلى أداء أفضل في القتال.

إذًا، الوجود والبقاء في مجموعة له آثاره على نفس الجنديّ وجسده، وبإمكاننا هنا أن نتخيّل الجنديّ عجلة مسنّنة صغيرة في ماكينة كبيرة، تدور الماكينة كلّها بدورانها فيها وتدور بدوران الماكينة كلّها فيها.

لكن، علينا ألّا نقع في فخّ الطوباوية في نظرتنا للمجتمع العسكريّ فنقفز عن استثناءات خطيرة جداً مثل إمكانيّة إعادة إنتاج البناء الطبقيّ الاجتماعيّ داخل الجيش، خصوصًا في مجتمع كالمجتمع الإسرائيليّ الذي تعتبر المؤسّسة العسكريّة فيه أداة رئيسيّة في هذه العمليّة، وذلك بحكم العلاقة القوية بين مفهوميّ المواطنة والطبقة في إسرائيل من جهة أولى، وهشاشة المساحة بين ما هو مدنيّ وما هو عسكريّ فيها من جهة ثانية؛ أو فشل المؤسّسة العسكريّة الإسرائيليّة في تحديد عناصر تعريف الجنديّ وتطبيقه بشكل عادل، أي فشلها في أن تكون مؤسّسة شاملة بالرجوع إلى تعريف إيرفنج جوفمان لها.[4]

ثالثاً: التدريبات العسكريّة وبرمجة الجنود (Drill):

لو وجّه إليك السؤال: كيف أصنع جيشاً؟ قل بلا تردّد: جماعةٌ ودوران. وانظر بعدها إلى النجوم والكواكب وتأمّل ضالّتك.

“الدريل” عبارة عن أسلوب قديم-جديد لتعليم الجنود الحركات الواجب تعلّمها، ويقوم على مبدأ إعادة الحركة حتى العطش والارتواء، أي حتّى تنفذ كلّ طاقتك في تعلّم الحركة المطلوبة وإتقانها. لكنّ التحدّي أمام الجيش هو في أن تتحوّل الحركة المطلوب إتقانها إلى حركة تلقائيّة واعية لا إلى ردّة فعل طبيعيّة غير واعية، وهذه عمليّة صعبة، بل شرحها أصعب كما رأينا مع جنود المشاة، إلا أنّك في لحظة ما، تدرك أن هناك فرق فعلاً بين أن ترتمي أرضاً وتأخذ وضعيّة هجوم بمجرّد أن وصلتك إشارة ما، وبين أن ترتمي أرضاً بدون أخذ وضعيّة صحيحة مرتبطة بنفس الإشارة السابقة.

وهو تحدٍّ فعلاً له قوّته في برمجة الجنود. أحد الأمثلة الرائعة على نجاح هذا الأسلوب في تطوير تلقائيّة تكيّفيّة، يقول الكولونيل دييف جرسمان، يمكن أن نجدها في كتاب الضابط البريطاني جون ماسترز “الطريق من ماندالاي” (The Road Past Mandalay) الذي سرد لنا فيه قصة عنصرين من فريق أسلحة رشّاشة كانا في ساحة من ساحات القتال أثناء الحرب العالميّة الثانية:

“العنصر رقم (1) كان ابن السبعة عشر عاماً، عرفته جيداً. مساعده العنصر رقم (2) كان مستلقياً على الجانب الأيسر من زميله، ورأسه جهة العدوّ أمامًا. تناول مخزن الرصاص بيده والحديث عن العنصر المساعد، أي رقم (2)، واستعدّ منتظرًا إشارة رقم (1) بالقول: “غيّر”. بدأ رقم (1) بإطلاق النار، ردّ عليهم عنصر ياباني بإطلاق النار وكانت المسافة قريبة جدًا. تلقّى رقم (1) رصاصة في وجهه وأخرى في عنقه قتلتاه، إلا أنه لم يمت في المكان الذي كان مستلقيًا فيه، أي خلف المدفع الرشّاش. لقد تدحرج إلى اليمين بعيداً عن سلاحه، ويده اليسرى “معلّـقة” تعطي إشارة إلى مساعده العنصر رقم (2): تولَّ الأمر (take over)، كأنّه مات ويده لم تمت! لم يكن العنصر رقم (2) بحاجة لأن يدفع بالجثّة جانباً ليتولّى أمر السلاح، لقد كان قد أفسح المجال ذاته بذاته.

كانت الإشارة مبرمجة (drilled) في جسد وعقل الجنديّ الميّت من أجل ضمان أنّ سلاحه لن يسكت أبدًا.”[5]

أمّا عن علاقة هذا الأسلوب بعسكرة الخوف لدى الجنود، فقد قلنا بأنّ الغاية الأسمى التي يتطلّع إليها الجيش هي أن يتمّ الحفاظ، في حالة الخوف عند الجنود، على الدارة العصبيّة الأولى من المهاد إلى القشرة الدماغيّة الجديدة إلى الأميجدالا، لكن بسرعة الدارة العصبيّة الثانية من المهاد إلى الأميجدالا مباشرة، والدريل كما يقول جروسمان يتكفّل بهذه المهمة. وفي وصفه له يقول:

“نحن نقوم بذلك، ببساطة، لأنه يعمل عندما يكون الأفراد خائفين. لا نقول للأطفال في المدارس ماذا يجب عليهم أن يفعلوا عند نشوب حريق في المدرسة، أي على طريقة أ، ب، ت… وإنّما نحضّرهم لتلك اللحظة، فإذا أتت فعلاً، يقومون بالفعل الصحيح تلقائيًّا.”[6]

بقي علينا أن نفرّق بين الدريل وبين مفهومين مشابهين، ولا يجب الخلط بين الأوّل وأيّ الآخرَين. الأول وهو الروتين، القيام بنفس التمارين والحركات يوميًّا في المعسكر ليس ضربًا من الروتين. في الحقيقة، واجهنا صعوبة في بداية هذا البحث في التفريق بين الأمرين، إلا أنّ اللقاءات الميدانية مع الجنود أوضحت لنا أن الروتين في الحقيقة هو أكبر عدوّ يجب أن يخشاه الجنديّ، وكانت الإحالة دائمًا إلى أنّ الروتين (حسب الفهم العسكريّ له) هو أن لا تقوم بشيء عمليًّا، أو أن تكون وحيدًا، في حين أن الحياة العسكرية هي حركة ودوران جماعيّ مستمرّ منذ اللحظة الأولى التي يدخل بها الفرد الجيش إلى آخر لحظة في حياته كلّها (حركة ذات مغزى). ولعلّ جزءًا من هذا يفسّر لماذا أجاب 75% من الجنود الفرنسيّين العائدين من القتال في اقليميّ كابيسا وسوروبي في أفغانستان بـ “نعم” عندما طُرح عليهم هذا السؤال عام 2010: لو امتلتكم القرار، هل ستعودون إلى القتال هناك؟[7]

المفهوم الثاني الذي لا يجب الخلط بينه وبين الدريل هو المحاكاة، وهذا الأخير هو أسلوب ثالث للجيش في بناء الجنود، هندسة المشاعر، عقلنة الخوف… وهو ما سنتطرّق إليه مباشرة.

رابعاً: المحاكاة (bivouac)

أشرنا سابقًا، وإن بطريقة عابرة، إلى أنّ أحد مصادر الخوف عند الجنود هو الفجوة بين المتخيّل والحقيقيّ، والمتخيّل بطبيعة الحال من الخيال، الناعم والمريح؛ أما الحقيقيّ فهو من الواقع والحقيقة العنيفة مهما كانت بساطتها.

في هذه الأداة الرابعة يخرج جنود المشاة إلى الميدان، غالباً ما تكون غابة قريبة، ويتمّ التخييم هناك لمدّة أسبوع على أقلّ تقدير، وذلك من أجل القيام بمحاكاة قتاليّة للاقتراب أكثر ما يمكن من القتال الحقيقيّ، وهذه أمثلة بسيطة: النوم في العراء، تعلم الأكل من عُلَب الجنود في المعركة، التدرّب على المشي التكتيكي، التدرّب على حماية المعسكر، التدرّب على الهجوم على المعسكر، التدرّب على اطلاق النار (رصاص أبيض)، تعلّم كيف تشكّل مجموعة، إلخ.

الهدف إذًا، استدخال المعارف والقيم العسكريّة في الجنود، وتقليص ما أمكن من المساحة بين الهُـنا وأرض القتال الحقيقيّ، أو ما يسمّى بضباب الحرب.

خامساً: التعميد بالنار (Jus in Bello)

في حقيقة الأمر، يبقى كلّ ما ذكرناه في آليّات صناعة الجنود وهندسة المشاعر كلاماً لا قيمة له ما لم يتمّ تعميد الجنود عمليًّا بالقتال. إنّ أوّل معركة يخوضها الجنديّ هي أشبه ما تكون بيوم الحساب الذي يُكرَم فيه الجنديّ أو يُهان. فالحرب كما يقول آلان بيترسون تزوّدنا بفرصة تغذية قدرتنا على تحمّل الألم وحتى التشوّه والتحكّم في المشاعر، لأن أيّ علامة ضعف أو حساسيّة تصدر منّا يمكن أن تفسَّر كإشارة على مثليّة الجنس، أي رجولة فاشلة[8]، أو إشارة على ما تطلق عليه أورنا ساسون ليفي “الجسد الخاطئ”، وهو الجسد الذي يفشل في أن يصبح محاربًا، يقابله “الجسد المختار” أو الجسد المحارب” الذي يثبت رجولته من خلال ضبطه لمشاعره، أي أنّه يتغلّب على التوتّر، الخوف، الفوضى، الارتباك، وكل ما يميّز ساحة المعركة[9].

أمّا حالات الصدمة يقول الكولونيل ميشيل غويا تأتي بغالبيّتها من المفاجأة، من الضغط الذي تولّده الفجوة بين ما تمّ تعلّمه والتدرّب عليه وبين ما نحن فيه الآن، ولذلك، فإن المعارك الأولى التي يخوضها الجنود هي بهذا المعنى “صادمة”، لأن أغلب من يخوضها مبتدئين[10].

أثناء الحرب العالميّة الأولى، قام الطبيب بيير مينارد بقياس ضغط العديد من الجنود المرابطين في الصفوف الأماميّة على مسافة 100 متر تقريبًا من العدوّ، ورأى بأنّ جميع هؤلاء الجنود قد أصابهم الخوف دون استثناء، عنيفًا أحيانًا واحيانًا أخفّ حدّةً، لكن عند الجميع دون استثناء[11].

إنّ الصدمة أو الخوف بهذا المعنى أمر لا يمكن تجنبّه بأي حال من الأحوال، وبذلك، يكون التعميد بالنار هو الآخر أمر لا بدّ منه للعبور إلى عالم العسكر والقتال الحقيقيّ.

في النهاية، نؤكّد مرّة أخرى على أنّ هذه الآليات في عسكرة الخوف لا تهدف عمليًا إلى القضاء تمامًا على وجوده. على الخوف أن يبقى، ولهذا يمكن لمفهوم “عسكرة” أن يوازي بمعناه مفهوم “عقلنة”، حيث على الجندي أن يخاف وألاّ يخاف في نفس الوقت، ولهذا قلنا بأنّه إن كان لا بدّ من معجزة أرضيّة ما أن تحصل هنا، وما هي بيولوجيًا إلا أن يتمّ كيّ دارة الأميجدالا الكبيرة لتصبح بسرعة الدارة القصيرة، وهذا ما تتكفل به الآليات الثلاثة بعد الأولى بصورة أوليّة تحضيريّة، والآليّة الأخيرة بصورة فعليّة حقيقيّة.

ولا يقتصر الحديث هنا على الخوف، أو على المشاعر السوداء فقط، حتى وإن كان تركيزنا عليها. في الحقيقة، إنّ عسكرة المشاعر كمعنى ضمني لصناعة الجنود تعني ضبط النفس والوعي بذلك، أو ما يشير إليه المصطلح العبري كور رواح-Kor ruach (קור רוח)، وهو كما يعرّفه بن آري القدرة على التصرّف بثقة، وإتّزان ورباطة جأش تحت ظروف قاسية، وهي أعلى قيمة في عالم العسكر الصهيوني[12]، وكما يتمّ قمع وإعادة تأهيل بعض المشاعر من أجل الوصول إلى هذه الحالة النفسيّة المثاليّة لدى الجنود، يتمّ تعزيز مشاعر أخرى كالفخر والسعادة، الحنين والشهوة إلى حدّ ما؛ ويبدو أنّ الأمور تذهب بهذا الإتّجاه المرن أكثر فأكثر، وبالرغم من الانتقادات الكبيرة، تقول ساسون ليفي، فإنّه يسمح للجنود الصهاينة اليوم بإظهار حدّ معيّن من الحزن والألم، وحتّى البكاء في جنازات الرفاق[13].

إذاً، “يمكنك البكاء، لكن دون أن تشهق.” بهذه العبارة التي قالها أحد جنرالات الجيش الصهيوني لجنوده يمكن اختصار جوهر عسكرة المشاعر وبها نختم هذا الفصل.

خاتمة: “جنود ما-بعد-الانسان في حروب ما-بعد-الحداثة”

“وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر: أصبح الجنديّ شيئًا ما يُصنع، فمن عجينة ذات غير شكل، ومن جسم غير مهيّأ، تمّ صنع الآلة التي دعت الحاجة إليها، فتمّ نصب وتقويم الأوضاع تدريجيًّا، وببطء تمّ الضغط المحسوب على كلّ جزء من أجزاء الجسم للتحكّم به، ولتطويع المجمل، ولجعله بصورة مستمرة جاهزًا، واستمرّ هذا الضغط، بصمت، في تكريس آلية العادات، وباختصار، لقد تمّ طرد الفلاح وأعطي له مظهر الجنديّ. وتمّ تعويد المجنّدين الجدد على رفع الرأس عالياً ومستقيماً، وعلى الوقوف بانتصاب دون إحناء الظهر، وعلى ابتلاع المعدة ونفخ الصدور، وعلى تقويم الظهر. ومن أجل تعويدهم على هذا، واكتساب هذه الوضعية أوقفوا إلى الجدار بحيث تلامسه أعقاب القدمين، وعضلة الساق والكتفان والقامة وكذلك ظهر اليدين، بعد فتل الذراعين إلى الخارج، دون ابعادهما عن الجسد. ويدرَّبون كذلك على عدم تثبيت نظراتهم بالأرض، بل التطلّع بشجاعة إلى من يمرّون أمامه، وعلى البقاء جامدين بانتظار الأوامر، دون تحريك الرأس ولا اليدين ولا الرجلين. وأخيراً يدرَّبون على السير بخطوات ثابتة، الركبة وباطنها مشدودان، ورأس القدم منخفض وإلى الخارج.”[14]

هذا بالضبط ما يقوله ميشيل فوكو عن بدايات فكرة صناعة الجنود، إلا أنه لم يكن أوّل ولا أدقّ ما لوحظ عن هذه العمليّة، وعلى أيّة حال، ما يتّفق عليه فوكو ومجموعة ممّن أرّخ هذه الفكرة هو أنها نشأت انطلاقاً من القرن السابع عشر، وتبلورت أوّل صيغة ثابتة لها (كما وصف فوكو) في النصف الثاني من القرن الثامن عشر:

(De Briquet 1761, Borhan 1789, Tilly 1990, Kümmel 2006, Caforio 2006, Foucault 1975, Vigarello 2001).

عملياً، دون الحاجة إلى النظر في هذه الأدبيّات المتخصّصة (تأريخيّاً) بنشوء عمليّة صناعة الجندي في القرن السابع والثامن عشر، نستطيع التنبّؤ بذلك بطرق أخرى غير مباشرة، وأعتقد أن هذه الطريقة في البحث أفضل من أجل فهم أوسع لما نبحث فيه ولما آلت إليه الأمور الآن. ولكي نفهم بدايةً ما الذي نبحث عنه بالضبط، المقصود بصناعة الجنديّ هو أن يوجد موديل (مجموعة معايير) محدّد تم اعتماده في لحظة تاريخية ما أو بالتدريج من أجل أن يصبحه كافّة الجنود؛ وينطبق هذا أيضاً على مراكز اجتماعيّة أخرى، وينطبق أيضاً على المؤسّسات، كالدولة، أي الدولة الحديثة أو ما يعرف بدولة ويستفاليا، وكالجيش أيضاً، أو ما يعرف الآن بالجيوش الحديثة (mass armies) التي اعتمدت بشكل أساسي في وجودها على الخدمة العسكريّة الإجباريّة وكانت بذلك للدولة كـ”أداة لاحتكار العنف الشرعيّ على بقعة جغرافيّة محددة”[15] كما يعرّفها ماكس فيبر، لأن الخدمة العسكريّة الإجبارية كما يتفق أغلب الدارسين لها[16] هي بمثابة طقوس عبور الأفراد من عالم اللامواطنة إلى عالم المواطنة، أو يمكن القول، هي أداة الدولة لإدخال الأفراد في الطابع الوطني العام. الفكرة الجوهريّة هنا، هي أنّ نشوء صناعة الجنديّ مرتبطة بنشوء الدولة الحديثة، وبالتحديد، نشوء الجيوش الحديثة، ونشوء كل ما ذكر هو عمليًّا نشوء المعيار كمفهوم.

وبتقريب عدسة فيبر أكثر على موضوع حديثنا، فالضابط كما يقول لا يختلف عن أي موظّف آخر إلا في كونه صاحب مسمّى (خانة) وظيفي مختلف في دولة أبرز ما يميزها هو كونها منظمّة بيروقراطيّة لا يُتبَع فيها الفرد الشخوص وإنما القواعد، فالضابط إذًا ينغبي عليه أن يحترم القاعدة الموضوعة رسميًّا، ومن هنا يكتسب شرعيّة سلطته[17]. لم يعد الوفاء بعد الآن لمصالح متفرّقة تنتج إمّا مرتزقة أو جنود لا شكل لهم، وإنّما الوفاء لمؤسّسة تعرف بالضبط كيف تريد مواطنيها وجنودها[18]، وهنا ينتهي فيبر بالقول بأنّ هذا هو ما أعطى ولادة لما أصبح يسمّى آنذاك بإعادة ضبط الجنود[19].

أفضل من تتبّع نشوء وتطوّر صناعة الجنديّ هو المؤرّخ الفرنسيّ جورج فيغاريلو في كتابه “الجسد مصنوعًا”. وفيما يتعلّق بنشوء هذه النظرة الجديدة للجسد، يرجع فيغاريلو إلى دروس في أدب المظهر والحديث كانت تحتكرها الطبقة الأرستقراطيّة في فرنسا لتعليم أولادها، كأصول لعمليّة صناعة الجنود[20]، وللوهلة الأولى، تُوقعنا هذه العودة إلى الأصول في تناقض، إذ كيف تعتمد الجيوش الحديثة التي نشأت أساساً كتحدٍّ للجيوش الأرستقراطية ومنظومة سلطتها نفس النموذج الأرستقراطي؟!

أقول مثلاً في نصّ الأطروحة الذي لم ينشر بعد: “قد يكون هذا الكلام عن نشوء صناعة الجسد (redressement du corps) في محيط طبقات اجتماعيّة متميّزة (société distiguée) ولغايات ارستقراطيّة متعارضًا مع ما توصّلنا إليه فيما سبق، وهو أنّ نظام الجيش الحديث (l’armée de masse) قام بالأساس متحدّيًا نظام الجيش الأرستقراطي، فكيف يتحدّى نظام نظامًا آخر ومن ثمّ يتبنّى نفس أدواته؟ هل كان هناك فعلا تواصل بين النظامين؟ وهل الجيوش الحديثة امتداد للجيوش الأرستقراطية الكلاسيكية… ويمكن أن نطرح هنا ألف سؤال، إلّا أنّ أيًّا من هذه الأسئلة سيعبّر بشكل دقيق عن حقيقة الأمر. علينا إذًا أن نغيّر من طريقة نظرتنا لتطوّر الأمور، ونتذكّر بأنّ الحديث هنا عن موديل، بمعنى، علينا أن نتذكّر كما يقول فيغاريلو بأنّ عمليّة صناعة الجسد لا تقوم بدون نماذج (modèles) وأنّه بمجرّد اعتماد نموذج ما فهو يخلق جذوره ذاتيًّا [21]. يصبح السؤال إذًا، أيّ موديل اعتمدته الجيوش الحديثة آنذاك؟ هل هو نفس الموديل الأرستقراطيّ الذي ثارت ضدّه أم موديلها الخاصّ الجديد؟ ويبدو أنّ الإجابة محسومة مسبقاً بالقطيعة مع النظام القديم. يبقى إذًا أن نتعرّف على ملامح هذا الموديل الجديد وعلى دلائله الآنثروبولوجيّة، والأهم أيضا، إذا ما زال معتمَدًا حتّى يومنا هذا في صناعة الجنود أم لا”.

هذا هو السؤال المهمّ فعلاً، وهو سؤالنا لهذه الخاتمة، هل تعتمد المؤسّسة العسكريّة اليوم (الغربيّة بالدرجة الأولى) نفس نموذج وأدوات صناعة الجنود التي استحدثتها انطلاقًا من القرن السابع عشر؟ وإلى أين تتّجه الأمور؟ علماً بأن هذه المؤسسة واجهت انطلاقًا من القرن الماضي ثورة في الشؤون العسكريّة أدّت إلى ما أطلقنا عليه في نصّ سابق “حرفنة الجيوش”، وهي كما قلنا عمليّة استجابة لتغيّرات عديدة أبرزها فشل المدرسة العسكريّة الكلاسيكيّة في حروب من نوع جديد كحروب الأنصار، مكافحة التمرّد، وغيرها من المسمّيات.

وهي أيضاً، الحاجة إلى جيش عملياتيّ، أكثر أتمتةً وأقل اعتماداً على الإنسان، جيش مرن وخفيف، سريع وأكثر سهولة في انتشاره أو اشتباكه في أكثر من موقع وفي كلّ موقع بأكثر من قوّة، وهذا من خلال التكنولوجيّات العالية، ووحداته وجنوده الأكثر تأهيلاً جسدًا ونفْسًا لهذا الشكل الجديد من الحروب. المعلومة والسرعة هما أسلحته الأولى قبل الحديد والنار.

وهو جيش في عمليّة تبلور مستمرّة، بحيث محطّته النهائيّة المتوقّعة هي الأتمتة الكاملة، أي الحصول والتصرّف في الوقت الحقيقي وبعيدًا ما أمكن عن الانسان[22]. وعلمًا بأنّ الخدمة العسكريّة الإجبارية تم استبعادها في سبيل “استراتيجيّة دفاعية أكثر حداثة وفعاليّة، وأقل تكلفة” كما قال الرئيس الفرنسي جاك شيراك في خطاب إعلان تعليق سياسة الخدمة العسكريّة في فرنسا[23]، والخدمة العسكريّة كما قلنا هي بداية أداة الدولة الفرنسيّة الحديثة الأولى احتكارها للعنف الشرعيّ، أي في صناعة المواطنين الجنود، وانتهاؤها يعدّ مؤشراً على دخول الدولة الفرنسيّة وجيشها طور عمليّة الحرفنة.

وبالرجوع إلى كتابات زيجمونت باومان في الحداثة والحداثة السائلة، نجد أنّ ما يعنيه بالحروب الجديدة هو الانتقال من الثابت، الصلب، والمنتظم وهي الأهمّ، إلى الغير منتظم والقائم من حيث المبدأ على فوضى وعشوائية الحداثة السائلة. فالحداثة من وجهة نظره بنيت على أفكار تنويريّة لشموليّة منتظمة تفضّل من تلقاء نفسها إزاحة العشوائيّ والمزدوج جانبًا في سبيل ترسيخ شيئيّة العالم؛ أمّا الحداثة السائلة فهي عابرة للإدارة الوطنيّة بالمعنيين النظري والجغرافي، وفي هذا المجال الجديد، يعمل الانسان كمستهلك فرداني أكثر منه كمواطن عضو في جماعة معيّنة.

هذه الظروف الجديدة ولّدت، كما يقول، نوعين من الحروب الجديدة: حروب معولمة تخاض باستخدام أنظمة عسكريّة متقدمة، وحروب تولّدها العولمة وتخاض في الفراغ الذي خلّفه انهيار قواعد الدولة القديمة (الحديثة). وفي هذا المجال الجديد أيضاً، أكثر أشكال القتال شيوعًا هي “المعارك الاستخباراتيّة” التي لا يطلب من الجنود فيها احتلال أرض الخصم والسيطرة عليها، وإنّما، استكشاف عزيمة الخصم ومدى قدرته على الصمود، ومعرفة أمهات قرارات الخصم وسرعته في تنفيذها، ولذلك، فإن أدقّ تسمية يمكن أن نطلقها على جنود هذه الحروب الجديدة هي أنّهم خبراء ومتخصّصين[24].

كريس غراي، المتخصّص في حروب ما بعد الحداثة وصاحب مقال تحمل هذه الخاتمة عنوانه يعتقد فيه بأنّ هذه الحروب الحديثة حملت في طيّاتها تناقضًا كبيرًا. من جهة، قامت هذه الحروب على تصاعد الاعتماد على التكنولوجيات المتطوّرة في خوضها، ومن جهة أخرى، حقيقة أنّ العديد من هذه التكنولوجيات بل أكثرها فعاليّة (بالمعنى الفيزيائي) لا يمكن استخدامها، كأسلحة الدمار الشامل؛ وقد تضاعف هذا التناقض في حروب ما بعد الحداثة كثيرًا، فمثلًا، مشاريع الـ ” Cyborg soldie”[25] زادت من من وزن المقاتل بدل أن تجعل منه أكثر خفّة ورشاقة بما يتواءم وطبيعة الحروب الجديدة. فالتكنولوجيا كما يقول غراي جعلت وتجعل من الجسد “عاريًا أمام العاصفة” (vulnerable) أكثر من أيّ وقت مضى[26].

لكن، ما الذي يعنيه كلّ هذا، هل تختفي المشاعر إذًا من حياة البشر وحياة الجنود كما في فيلم Equilibrium لكورت ويمر؟ وهل تختفي صناعة الجنود كما اختفت الجيوش الأرستقراطيّة؟ دعونا نذكر مرّة أخرى بأن الحديث دائما وأبداً في عمليّة صناعة الجنود هو حديث عن موديل-نموذج ما يتمّ اعتماده، وبذلك، يتحوّل سؤالنا عن النموذج الذي اعتمدته الجيوش الحديثة في صناعة جنودها إلى سؤال عن النموذج الجديد الذي تعتمده الجيوش المحترفة – جيوش ما بعد الحداثة – في صناعة جنودها. كما ويجدر بنا التذكير بأن الحديث هنا وفي أطروحة الماجستير مع وعن جنود المشاة، ثم أنّ عمليّة حرفنة أو أتمتة الجيوش أو الثورة في الشؤون العسكريّة عمليّة تحدث الآن، وأنّه حتى لو وصلت هذه العمليّة ذروتها وهي كما قلنا “أتمتة كاملة للمعركة”، نفترض أنّ هذا لا يعني بالضرورة إلغاء وجود الجنود، وبالتالي إلغاء فكرة صناعة الجنود.

على أيّة حال، هناك سؤال آخر وأخير لهذه الخاتمة، عوضاً عن هذه الكتابات الأكاديميّة عن عصر وحروب ما بعد الحداثة (وهي أكثر من أن تحصى) وهو هل هناك مشاريع رسميّة أو على الأقلّ مصادر أوليّة لعمليّة صناعة جنود اليوم وغداً ودور المشاعر في ذلك؟

للإجابة على هذا السؤال، وجب علينا البحث في أرشيف “مركز منظومات جندي الجيش الأمريكيّ” أو ما يعرف بـU.S. Army Natick Soldier Systems Center (NSSC). عقد هذا المركز في الفترة الواقعة بين كانون أوّل 1989 وتشرين أوّل 1990 خمس جلسات عصف ذهني ضمّت خبراء من مركز ناتك نفسه وجنود وضبّاط فاعلين في الجيش الأمريكيّ ركّزوا فيها على تعريف وصقل مفهوم منظومة الجنديّ (Soldier System)، وقد دعت الحاجة لذلك عدّة أسباب بحسب الورقة النهائيّة التي خرج فيها المركز من هذه الجلسات:

أوّلاً، الحاجة المستمرّة لتحسين كل ما يخصّ الجنديّ لتحسين أدائه في المعركة وبالتالي كسب الحرب، وبالتأكيد تقول الورقة، فإنّ “إعتبار الجنديّ كـ single well-organized system تقدّم بشكل فعّال على اعتباره collection of individual items.

ثانيًا، لفت انتباه المراكز العليا في الجيش لاستغلال تأثيرهم على مصادر التمويل والبرمجة، لأنّ المساواة بين أيّ منظومة رئيسيّة في الجيش كمنظومة الدبّابات ومنظومة الجنديّ كأحد العناصر الحاسمة في تقدّم الجيوش يولّد اهتماماً متجدّداً بها (بالتالي ضمان بقاء الجنود). ثالثًا، تعزيز قدرة الجندي على القتال والبقاء ضمن حدّ تكنولوجي معيّن، لأن ما تمّت ملاحظته من خلال التجهيز التقنيّ الكامل للجنديّ هو عملياً أخذْ مساحة كبيرة من عبء مهنة الجندي الجسدي والقاؤها على الجانب النفسيّ، الهدف إذًا من منظومة الجندي هو ضمان أن يعمل الجندي بكامل إمكاناته واحتمالاته. وانطلاقًا من ذلك، تمّ تعريف منظومة الجندي كالآتي: “نظام عمليّاتي يدفع بالقدرات القتالية كالقتال، الأمر والسطيرة، الحماية، الاكتفاء والحركة إلى أقصاها، وذلك من خلال تحقيق التكامل الكامل بين الجندي الفرد مع العقيدة العسكرية، التدريب، القيادة، التنظيم، والعتاد لمواجهة التهديد/البيئة. ويتمّ قياس الفعّاليّة من خلال أداء الفرد بشكل عامّ ضمن تخصّصه كجندي ومن خلال الأداء العمليّاتي للوحدة ككل.”[27]

هو ذا إذًا، منظومة الجندي هي عمليًّا وضع للانسان في مركز شبكة من العلاقات المعقّدة بين منظومات مختلفة تساهم جميعها في صنعه، ويفترض بهذا تحسين كفاءته في القتال. بصيغة أخرى، تمّ توسيع نموذج صناعة الجنديّ التقليديّ أو دفعه إلى أقصاه ليشمل ليس فقط التدريبات العسكريّة، وإنّما أيضًا، كما كان منهجنا في هذه الدراسة، المسار البيوغرافيّ للجنديّ، وأثر المجموعة والمعركة وغيرها. وبهذا، نخلص إلى إنّ الجسد كان وما زال وسيبقى الميدان الرئيسيّ في صناعة الجنود، أمّا دوره ومكانته العمليّة، أي في الحرب، فيتمّ تحديد ما إذا كانت أساسيّة أو ثانويّة فقط من خلال شبكة العلاقات هذه كما يوضّح الشكل الخامس والأخير في هذه الدراسة.

المصدر: موقع باب الواد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار