البابور الموقع العربي

أفق النقد ومحدودية الرؤية

295

د. رامي ابو شهاب

للنقد مفاهيم تتغاير تبعاً للمنظور الذي يمكن أن نختبره من خلاله، ولاسيما تلك العلاقة التي يمكن أن تتصل بجدلية الموضوع بغض النظر عن تمظهره، وسياقاته، فضلاً عن الخلاصات المنهجية التي تتصل به، وهنا نلاحظ أن ثمة اختلافات عميقة بين منطلقات النقد، ومقاصده، لكن – ثمة على الدوام- تلك التفاصيل المعرفية لمفهوم النقد، وتأتي تبعا لمعطيات واضحة أو تحديدات منهجية، لكن ثمة أيضاً ما يكمن خلف النقد من نوايا، وجوانب قيمية تتصل بالممارسة وحدودها.
إن الباحث في تعريف كلمة (النقد) سيواجه الكثير من التعريفات اللغوية، غير أننا نتجاوز ذلك لنتصل بالتعريف الاصطلاحي، ومع ذلك فإن المعاجم العربية كما معاجم اللغات الأخرى، تتوافق على معنى التمييز بين الجيد والرديء، كما الارتكاز على معنى الحكم الذي يمنح دلالة موافقة أو رفض، وهي في كل الأحوال عملية لا تبدو في بعض المجالات، ولاسيما في العلوم الإنسانية سوى ضرب من الاستحالة، فليس ثمة حقيقة مطلقة، وليس هنالك منطلق اختباري يخلص إلى نتائج حاسمة لا يمكن التشكيك فيها. وهذا يدركه كل من اشتغل في العلوم الإنسانية، على الرغم من كل محاولات تمكين البعد العلمي بالمعنى الإمبريقي، أو التجريبي، لكن تبقى العلوم الإنسانية تحتمل قدراً من تلك المساحة التي يمكن أن يجتمع عليها الكل من حيث توفر منهجية، أو منهج محدد يقود إلى نتائج مقبولة.
إن تعريف كلمة النقد يتقاطع في المرجعية الفلسفية مع العديد من المفاهيم، غير أنه ينحو نحو أهمية الخروج من هذه الدائرة الضيقة، التي تنتج عن أفق مدرسي، ففعل النقد في التعريفات الفلسفية يدعو إلى تجاوز هذه الصيغة التي تعني حكما سلبياً أو فعل استهجان تجاه موضوع ما، فالنقد على الرغم من وظيفته التي تعني امتلاك الأداة مشفوعة للحكم بين الجيد والرديء، بيد أنه يحيل إلى ممارسة معنية بنموذج تحليلي يستهدف تمكين وظائف معنية؛ كأن يميط اللثام عن الظواهر أو الأنساق، إذ يوضح لويس ألتوسير ذلك حين يقارن بين العلم والفن من حيث الوظيفة، في حين أن دور النقد يختزل الكثير، حيث يرى بأن العلم والفن يعطياننا الموضوع نفسه، لكن بطريقة مختلفة، فالفن يعتمد الشعور والإدراك في حين أن العلم يعتمد المعرفة (التجريبية) لكنه يضيف بأن على النقد ينتج معرفة بالعمليات التي تقوم بإنتاج التأثير الجمالي، وهنا نلاحظ بأن وعي «ألتوسير» يعلق بالعمل الأدبي، وما ينتجه من أيدولوجيا تضمر خلف الجمالي، وهكذا نخلص إلى أن النقد ليس فعلا تقنياً أجوف، إنما هو نمط من أنماط التفكير والاشتباك مع العالم عبر الرؤية.
تذكر الموسوعات جملة من مدارس النقد وأنواعه، وهنا لا يبدو النقد محصوراً بمعيارية ساذجة، إنما هو يمارس صيغة صيغ من التفكير والتحليل التي ينبغي أن تتجاوز النموذج الاختزالي الساذج الذي يكمن لدى بعض العقول التي لم تتمكن إلى الآن من إدراك الفروق والتمايزات، علاوة على صيغ التحول التي يعيشها الإنسان، فهناك أنواع من النقد: داخلي أو مغلق، وخارجي، كما يوجد نقد جمالي، وثقافي، وانطباعي، وغيره الكثير، فليس للنقد وجهة واحدة تتصل بمنظور واحد يخلص فقط إلى جيد أو رديء، كما أن هنالك مستويات للنقد تقرأ الموضوع تبعاً لتصور ثقافي على سبيل المثال يُعنى بدراسة النماذج الجيدة كما الرديئة على حد سواء، ومن هنا ننتقل إلى مشكلة أخرى تتعلق بفكرة، وتنهض على أن العملية النقدية هي ممارسة تستوجب التفكير، والتحليل، لكنها أيضا تعني امتلاك خصائص معينة من حيث القدرة على جعل العقل متفتحاً، يتقبل الآراء، ويزنها، كما الأهم أن يتقبل الرأي، والرأي الآخر، وألا ينساق إلى نموذج عصابي تجاه من يخالفه الرأي، فالنقد يتصل بنيوياً بمبدأ الآراء والمناقشة والتحليل، وهذا ربما يقودني إلى أن أزمة الإنسان العربي، بدءاً من مرحلة ما بعد الاستعمار تكمن في غياب تقبل الرأي الآخر، والانفتاح على الآراء، كما تجاوز الذاتية المفرطة، والأنا… والأخيرة تعد عاملاً محورياً في الخيبات الحضارية التي يعاني منها العقل العربي؛ لأن هذه المعضلة نشأت في الثقافة، وعلى مقاعد الدراسة.

لا يمكن لأي منا أن يصادر حق الآخر بالنقد، لكن لا يمكن أن تصادر حق الآخرين بالنقد أيضاً، فهذا العالم متسع، وللناس أهواء، وكل يصدر عن ثقافة، ورؤية، وليس هناك من أحد يمتلك حق الوصاية لأن يصدر صكوك المعرفة، والغفران.

النقد… أسطورة المعرفة المطلقة

حين وضع الفيلسوف إيمانويل كانط كتبه كانت تحمل قاسماً مشتركاً، ونعني كلمة «نقد» غير أنه لم يكن ينطلق من هذه المحدودية، التي تميّز بعض الفهم المحدود لكلمة نقد، فهو ينطلق من تلك المشروعية التي تعني استحالة أن تعطي ملكاتنا معرفة موضوعية مطلقة، وهنا تكمن إشكالية (الموضوعية) لدى البعض، إذ تنحرف فتصبح ذاتية مفرطة تكاد تصل حد النرجسية من حيث رؤية الذات بوصفها متعالية، فتبدأ بإصار الأحكام.
ولعل معضلة الحكم، ومحاكمة الآخرين لا تعني على الإطلاق عدم الموافقة على محاكمة ما ينتجه الآخر (الموضوع) كما يمكن أيضاً نقد الذات المنتجة، لكن ضمن حدود تتقبل معنى الاختلاف في النظر للموضوع، وعدم الانزلاق إلى لغة لا نقدية، وهي اللغة التي تبدو شائعة في المجتمعات العربية التي تعاني من أهم عائق حضاري للتقدم، ونقصد الرغبة بنبذ المغاير، حيث تبدو اللغة النقدية موجهة للذات أو الشخص لا للموضوع.
ولعل تنظير كارل بوبر بخصوص نقد المعرفة المتأتية من التجربة القائمة على الحواس والأدوات المساندة، لا تسلم من ادعاء الحقيقة، كونها لا يمكن أن تصدر إلا عن معرفة مخصبة مسبقاً، حيث لا شيء يوجد في العقل ما لم يكن موجوداً بداية في الحس، وبهذا فإن الخلاصة تعني بأننا إزاء عالم مسكون باللايقين، حيث تبقى محاولات الإنسان لإصدار الحكم والتقين ممارسة معرفية، لا يمكن أن تستكين، إنما تكمن قيمتها في الحيوية، أو تلك الدينامية الداخلية التي تبقي الحياة على وهجها وفاعليتها ضمن إطار جدلي لا منجز.
لنتأمل ما الفرق بين الناقد والأكاديمي، فالناقد يمكن أن يكون حاملاً للصفة الأكاديمية، لكن ثمة بعض الأكاديميين لا يمكن أن نعدهم نقاداً، فهناك من حصل على شهادته العليا في مجال التخصص بوصفها ممارسة علمية تستجلب وظيفة ما، لكن في الحقيقة ينبغي توفر عمق لا على المستوى المعرفي حسب، بل على مستوى القدرة على ممارسة تفكير يرقى لاكتناه موضوع معرفته من منطلق ثقافي وحضاري، كون ممارسة النقد تعني الانفتاح، فلا جرم في أن تصاب الممارسات النقدية بعقم كونها تعلق في الجزئية، وهنا لا يمكن أن ننكر بأن هذا المبدأ بات منبوذاً على مستوى المعرفة، والأفضل أن ننظر إلى الصورة الكلية؛ لأن التصور الجزئي يفتقر إلى رؤية نقدية حقيقية (موضوعية) تجاه العالم. إن من يمارس هذا التصور يبقى رهين نموذج تلقيني يحاول أن يفرضه على الأجيال الجديدة، وعلى الآخرين، ويمكن أن يُفسر هذا لدى بعض الدارسين، ولاسيما الذين لا يدركون بأن العالم قد تغير، وربما تجاوزهم، فالوعي ما زال متجمداً في ما اعتادوا عليه، وألفوه، وكما يذكر الخبراء التربويون والنفسيون بأن الإنسان في طبعه يقاوم التغيير، وهذا ما يقودنا إلى إفساد قيمة المعرفة من حيث القدرة على البحث، عما هو خارج الذات التي باتت مسكونة بمعرفة تكلست بفعل الزمن؛ ولهذا فإن المنظور النقدي يعلوه هذا الصدأ، بحيث تبقى الأدوات التي يمارسها الباحث نتاج وعي ساكن، أو أن يعلق بمنهج مستقر آمن ينهض على أدوات قياس تخفف عناء التفكير، كما تميل للنمطية، ومن هنا يمكن تفسير عقم العقلية العربية عن الإبداع والابتكار كون الممارسة التي تشغل حيز الأروقة التعليمية والصفوف – على مستوى المدرسة والجامعة – هي نتاج هذا النموذج، لكن تبرز مشكلة أخرى، ولاسيما حين نرى أن هذه العقول قد أحاطت بها مجموعة تميل إلى الغوغائية، وهذا ما يفسر وجود جوقة المطبّلين والمصفقين، لأي وعي رجعي تبعاً لدوافع فردية، أو لقصور في الوعي، أو نتيجة الإحساس الدائم بالمظلومية، والأخيرة معضلة تعاني منها بعض الذوات لتمسي مرضاً لا شفاء منه، في حين يمكن أن نحدد دوافع البعض للتهليل نتيجة وجود الرغبة التي تنتج عن سعادة بإثارة التنازع والتشاحن بين البشر.
وختاماً، لا يمكن لأي منا أن يصادر حق الآخر بالنقد، لكن لا يمكن أن تصادر حق الآخرين بالنقد أيضاً، فهذا العالم متسع، وللناس أهواء، وكل يصدر عن ثقافة، ورؤية، وليس هناك من أحد يمتلك حق الوصاية لأن يصدر صكوك المعرفة، والغفران، وهنا نخلص إلى أن معضلة العقل العربي تتأتى من أنه لا يؤمن بالحرية، والاختلاف، فداء الوصاية، وادعاء المعرفة المطلقة لأي سبب من الأسباب؛ سواء أكان بداعي الخبرة أم الشهادة أم حتى تراكم الكتب المؤلفة، لا يعني في أي حال من الأحوال بأنك على صواب دائماً! فلكل منا عيوب، وأوهام، وأخطاء، كما تحيزات، لكننا حين نمارس النقد، والتحليل نبقى في حدود منطقية بحيث نتوجه للموضوع لا للذات، مع الحرص على أن تبقى لغتنا لغة نقدية تعكس قيم المثقف أو الأكاديمي، ولنا في هذا حوار آخر.

كاتب أردني فلسطيني

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار