معلومٌ أن الشخصية الثقافية الفلسطينية الجمعية، اليوم، تشكلت بما لحق النكبة وعامها. والمرجعيات الثقافية لا تبتعد إلى ما دون عام 48. وذلك يعود، لطبيعة الحالة واستثنائيتها، إلى الانقلاب الكارثي الذي حصل ذلك العام، مشتتاً شعباً/مجتمعاً كانت له حياته الثقافية الخاصة، وواضعاً، هذا الشعب، في أماكن تواجده وظروفه الجديدة، تحت أحكام قامعة ساعية لإلغاء هويته الوطنية (بما فيها الثقافية)، في الأرض المحتلة وفي المخيمات خارجها. فما اغتيلت بذلك تلك الحياة الثقافية وحسب، بل أُدخل الشعب، في تشتته، في حالة التراوما، صدمة ما بعد الكارثة، وهو ما حال دون استمرارية للشخصية الثقافية للفلسطيني، التي كانت حاضرة ما قبل النكبة (أو دون استردادٍ لما كانته)، وما تسبب بحالة ركود ومحاولة استيعاب للذات من تبعات الكارثة، فكانت السنوات التالية صامتة، لا ظرف موضوعي ولا ذاتي للفلسطيني ليحافظ عليه، ويواصل، شخصيتَه الثقافية. وكان الانقطاع الذي دام أكثر من عشر سنين، وانكسر مع انطلاقة الثورة الفلسطينية، في الستينيات.
هذا الانقطاع جعل للفلسطيني شخصيةً ثقافية معاصرة، أهم مؤسسيها أسماء معروفة عاشت وأنتجت وأسست، منذ ما بعد منتصف القرن الماضي، حتى اليوم، في الأدب والسينما والنقد والفنون بشتى أشكالها. لكنها، جميعها، تعود إلى ما بعد النكبة، ما جعلني أستهل هذه الأسطر بالقول، إن الشخصية الفلسطينية اليوم، تشكلت (أو تأثرت) بما لحق النكبة، تأسست على أيدي من لحق نتاجُهم النكبة، بالتالي، ما تأثر بها، فكانت في نتاجهم مآس وبطولات.
الانقطاع الذي طال الشعب/المجتمع الفلسطيني في السنوات التالية للنكبة، كان كالثقب الأسود الفاصل بين عالمَين، كان كذلك لسببَين: الأول هو هَول الكارثة، والثاني هو طول الفترة التي احتاجها الفلسطينيون ليخرجوا من التراوما/الصدمة، ويستبدلوا خيمة اللاجئ بخيمة الفدائي، كما كتب غسان كنفاني أدبياً، وكما قال جورج حبش سياسياً.
سينما الحمرا في يافا
لكن، لا تكف الشخصية الثقافية الفلسطينية اليوم عن البحث والعودة إلى ما دون النكبة، إلى الابتعاد عميقاً في هذا المجتمع الحي، في زمن ما قبل النكبة، وليس كلامي هنا بالمعنى السياسي، فهذا وارد ومتداوَل، الكتاب الضخم لإلياس شوفاني «الموجز في تاريخ فلسطين السياسي» يحمل قارئه إلى ما يمكن أن يشير عنوانه الفرعي «منذ فجر التاريخ حتى سنة 1949» (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط1: 1996)، وكذلك يفعل كتاب نور مصالحة الصادر حديثاً «فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ» (مركز دراسات الوحدة العربية 2020) – وبينهما كتب عديدة – إذ يصل تناولهُما الكيانية الاجتماعية/السياسية/الوطنية للفلسطيني إلى النصف الأول من القرن العشرين، مع إشارات إلى الحال الثقافي آنذاك. هو الحال الذي اتخذ لنفسه مساحة واسعة في كتاب ماهر الشريف «المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة 1908- 1949» (مؤسسة الدراسات الفلسطينية 2020)، وفيه عرضٌ لحالات المثقف الفلسطيني وتفاعلاته السياسية، ما قبل عملية إعادة التأسيس لهذه الشخصية، على ركام النكبة التي هدمت لا البيوت والوطن وحسب، بل المجتمع، والثقافة التي راكمها وأنتجها هذا المجتمع.
عودةٌ إذن لا بد منها إلى شخصية المثقف الفلسطيني ما قبل النكبة، إلى الحالة الطبيعية -نوعاً ما، فالصهيونية التي واجهها هذا المثقف تعود إلى بدايات القرن – التي كان فيها المثقف في بلده وبين أهله، يكتب ويتحرك في بيئته. هي عودة، تكون أولاً لاستكشاف حالة ما قبل النكبة في الثقافة الفلسطينية، وثانياً لترميم الثقب الأسود الذي دخله الفلسطينيون، مفجوعين بالفقدان. فقدانٌ بطبقات لا تنتهي، تبدأ بالأهل والوطن والبيت.
الصحافة في فلسطين آنذاك كانت حية، صالات السينما، الحفلات الموسيقية، الكتابة على أنواعها. وكل ذلك إنتاجاً وتلقياً، وبالحدود المتاحة بكل الأحوال.
قد تكون صدفة هذه التي جمعت، زمانياً، بين نتاجَين تناولا الحياة الثقافية في فلسطين ما قبل النكبة: أولهما كتاب بشار شموط «الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع: نشأته وتشتته والحفاظ الرقمي عليه: دراسات أولية وتطلعات مستقبلية» مؤسسة الدراسات الفلسطينية 2020، وثانيهما وثائقي بثته قناة «الجزيرة» هذا الشهر، هو «فلسطين 1920» من بحث وإعداد خلدون الفحماوي، وسيناريو وإخراج أشرف المشهراوي. الكتاب يبحث في النتاج الثقافي بأشكاله البصرية، ما قبل النكبة وما بعدها. والثاني يبحث في الحياة المدينية الاجتماعية والسياسية وكذلك الثقافية، في فلسطين ما قبل النكبة.
أجزاء من الوثائقي والكتاب، إضافة إلى الكتب أعلاه وغيرها، يمكن أن تقدم مدخلاً حيوياً لفهم ودراسة الحالة الثقافية في فلسطين ما قبل النكبة، لغاية أساسية هي كما سبق وذكرت، الاستكشاف والترميم، أو ما سماه محمود درويش «الاسترداد» وما يتبع ذلك من إعادة تعمير للشخصية الثقافية التي تأسست على ما تلا النكبة، تعميرها على أساس استمراريتها. القراءة والمشاهدة حول الحياة الثقافية في فلسطين ما قبل النكبة يعطيان أفكاراً واضحة حول الحضور المعتبَر للثقافة في حياة الفلسطيني آنذاك، وحول المكانة المتقدمة لتلك البلاد ضمن موقعها في خريطة العالم. ويمنحان المثقفَ الفلسطيني اليوم طبقات أبعد في انتماءاته وامتداداته.
الصحافة في فلسطين آنذاك كانت حية، صالات السينما، الحفلات الموسيقية، الكتابة على أنواعها. وكل ذلك إنتاجاً وتلقياً، وبالحدود المتاحة بكل الأحوال. استعادةٌ لذلك من خلال كتبٍ ووثائقيات ظهرت في السنوات الأخيرة (وقد يظهر أكثر في المقبلة) لا تكف عن كونها حاجة بحثية أو وطنية، تتعلق بالكيان السياسي الفلسطيني اليوم، وحسب، بل هي حاجة تتعلق بالشخصية الثقافية الفلسطينية المعاصرة، الجمعية التي تغتني باسترداد الشخصية الموازية لها ما قبل النكبة، وذلك بكلمات درويش، في أحد حواراته، لـ»استرداد ملامحي الأولى، لاسترداد إنسانيتي في صورتي كما هي، لا كما ترسمها الجريمة الكبرى، التي ارتكبت في بلادي من ناحية، ولا كما ترسمها البطولة من ناحية أخرى».
كاتب فلسطيني
القدس العربي