البابور الموقع العربي

ميثولوجيا أدونيس في الأديان الشرقية.. قراءة نقدية في كتاب “الغصن الذهبي” لـ جيمس فريزر

1٬728

مقدمة

 “الغصن الذهبي”[1] ومؤلفه بعد قرنين:

د. محمد حسين بزي

بما أنّ التاريخ علم يعنى بتوثيق الفن والفلسفة والسياسة وغيرهم، ونُطلّ منه على الحضارات والديانات بما يحفظها حاضرة كدروسٍ وعبرٍ في سيرورة لا تهدأ، فإنّ كتاب “الغصن الذهبي” لمؤلفه “جيمس جورج فريزر”[2] الذي ولد في غلاسكو أسكوتلندا عام 1854م. يعد من أهم الكتب التي تمّ تأليفها في مجال الميثولوجيا وعلم مقارنة الأديان، خاصة القديمة منها، حيث تعرّض “فريزر” في هذه الموسوعة الهائلة إلى العديد من التميمات الميثولوجيا المعروفة في الأديان والمعتقدات المختلفة في تاريخ البشر، وقام بوضعها في إطار مقارن موضحًا مدى التشابه، وربّما التطابق بين ممارسات هذه المعتقدات القديمة البدائية وطقوس الديانات الحديثة، وقد أدى ذلك إلى موجة من الغضب العارم في الأوساط المسيحية المحافظة عند صدور كتابه لأوّل مرّة ممّا أجبره على حذف كلّ ما هو معاديًا للمسيحية من كتابه في الطبعات اللاحقة.

ورغم الانتقادات العديدة من علماء الأنثروبولوجيا لبعض جوانب ما جاء به “فريزر” في كتابه، وبرغم أنّ علم الأنثروبولوجيا التطوّري الذي يعد “فريزر” من رواده قد عفى عليه الزمن تقريبًا، وثبت عدم صحة معظم افتراضاته، فإنّ هذا الكتاب الموسوعي لم يفقد أهميته قط، وذلك لغزارة المادة التي جمعت فيه، ويكفي أن نذكر أنّ “الغصن الذهبي” قد كان من أهم المؤثرين على أحد أكبر علماء الميثولوجيا في التاريخ وهو “جوزيف كامبل” صاحب كتاب “البطل بألف وجه” الذي تأثّر تأثّرًا كبيرًا في نظرياته الهامة بكتابات “فريزر”، كذلك ساهم كتاب “الغصن الذهبي” في محو الصورة السيئة التي رسمتها المسيحية عبر القرون عن الديانات الوثنية القديمة.

وقد اعتبره “فرويد” عملًا غنيًا جدًا بما يحتويه من معلومات تفيد في تطوير نظرياته في التحليل النفسي.

وأيضًا تأثر به الكثير من الفنانين والأدباء، منهم: “جيمس جويس”، “إليوت”، و”ماري رينو” وغيرهم.

“فريزر” الذي تعلّم اللاتينية والإغريقية في سن مبكرة، وتابع التخصّص في آدابهما في جامعة “كمبردج”، كان باشر أيضًا في ترجمة قصص وتعليقات الرحالة الإغريقي “بايسانياس”. إضافة إلى مؤلفات أخرى.

والفيزياء التي درسها “فريزر” في جامعة “غلاسكو” لم تمنعه من دراسة المحاماة بناءً على رغبة والده، لكن سرعان ما التحق بجامعة “كمبردج” لينغمس في دراسة الأساطير والأديان القديمة، حيث بدأ عمله الموسوعي “الغصن الذهبي” في النصف الثاني من القرن الثامن عشر متكئًا على لغز مقتل “ملك الغابات” أو الكاهن الملك الذي كان يعبد الإلهة ديانا. ولغز “الغصن الذهبي”، الذي كان لا بدّ للملك المقبل أن يسرقه عن الشجرة المقدسة حتى يثبّت ملكه.

وكأن هذين اللغزين كانا بمثابة الحجّة والذريعة ليبحث “فريزر” في سرّ الطقوس السحرية التي كان يمارسها البدائيون.

ثم تأتي أسطورة النار التي استقاها “فريزر” من “الأساطير الإسكندنافية”، والتي بها ينهي قصّة “الغصن الذهبي”، وهي أسطورة تدور حول “بالدر العظيم Balder le Magnifique .

وهنا، استطاع “فريزر” أن يفسّر لغزي “الغصن الذهبي” و”موت الكاهن / الإله” و”أسطورة النار”، وهي الأساطير التي راحت تنتقل من جيل إلى جيل مرتبطة بانتقال الطبيعة من دورة إلى دورة، ومن عقم إلى خصب، ومن موت إلى حياة.

أقام “فريزر” أسطورة النار على المطابقة السببية بين النار التي تشبه الشمس، والغيوم التي تشبه الدخان، حيث الشبيه يستدعي شبيهه. وخوفًا من هذه الاستدعاءات حُرِّم على الكاهن / الملك ملامسة الأرض أو التراب، لأنّ التراب يتحلّل ويتفكّك إلى ذراته، ولو أنّ الكاهن / الملك لامسه لتحلّل بدوره وتفكّك، لذا فإنّه انطلاقًا من فراعنة مصر ووصولًا إلى أباطرة اليابان، كان للكهنة / الملوك أن يُحملوا على أكتاف خدامهم، أو أن يُبسط السجاد تحت اقدامهم.

ولربّما جاءت عظمة “الغصن الذهبي” من تكريس “فريزر” مجلداته الاثني عشر “لرموز السلطة وقدسياتها”، وهي رموز لا تزال تستبد حتى الآن، لأنّ الكاهن / الملك لا يزال ينعكس بوجوهه المتعددة على وجوهنا، وفي خصبنا وعقمنا سواء الفكري منه أو الديني أو السياسي.

“جيمس فريزر” كان أصيب بالعمى، لكنه تابع أبحاثه لعدّة سنوات في جامعة “كامبردج” من خلال مساعدة طلابه ومعاونيه وعلى رأسهم زوجته “ليلي”، توفي عام 1941م. عن عمر ناهز سبعة وثمانين عامًا، وماتت زوجته بعده بعدة ساعات بواقعة تشبه الأساطير التي درسها، وليدفنا معًا جنبًا إلى جنب في مقبرة “القديس جيل” في “كامبردج”.

أدونيس أو تموز

ترك مشهد التغيّرات الكبرى التي تطرأ كلّ سنة على وجه الأرض أثرًا قويًا في أذهان الناس في كلّ عصر،  وبعثهم إلى التأمّل في أسباب هذه التحوّلات. وقد ظنّ الناس في إحدى فترات التطوّر أنّ الوسائل لتجنّب المصائب هي في أيديهم، وأنّهم يستطيعون أن يعجِّلوا في سير الفصول أو يبطئوا منه بفن السّحر. ولذا أقاموا بعض المراسيم وقرأوا الرقى والتعاويذ.

وعلى مرّ الزمان تقدّمت المعرفة وبدّدت كثيرًا من الأحلام؛ فأقتنع من البشر (بعضهم) والذين كانوا أميل إلى التفكير بأنّ تعاقب الصيف والشتاء والربيع والخريف، لم يكن نتيجة مراسيمهم السحرية، بل إنّ أسبابًا أعمق منها، وقوة أشد بطشًا كانت دائبة على العمل وراء مشاهد الطبيعة المتغيرة. فأخذوا يتصوّرون أنّ نمو الزرع وموته، وولادة المخلوقات الحيّة وموتها، إنّما هي نتيجة لازدياد قوة كائنات إلهية أو نقصانها، وأنّ هذه الكائنات – آلهة وإلهات– تولد وتموت، تتزوج وتلد الأولاد، طبق حياة الإنسان تمامًا.

وهكذا، فإنّ نظرية السّحر القديمة التي تعلل الفصول كانت احتلت مكانها، كما أضيفت إليها نظرية دينية.

ومن أشد التغيّرات ظهورًا ممّا تأتي به الفصول في المنطقة المعتدلة هي تلك التي تطرأ على النبات. وقد كانت شعوب مصر وغربي آسيا تمثل موت الحياة وبعثها السنويين، لا سيما حياة النبات تحت أسماء “أوزيريس” و”تموز” و”أدونيس” و”أتيس”، فشبَّهوا النبات بإله يموت كلّ سنة ثم يقوم بين الأموات.

وموضوع هذا البحث هو موت هذا الإله وبعثه كما افترضه الشرقيون – وهو إله ذو أسماء كثيرة ولكنّه جوهريًا واحد. وسنبدأ الآن بالإله “تموز” أو “أدونيس”.

كان يعبد “أدونيس” الأقوام السّاميّة في وادي الرافدين وسوريا، ثم أخذ الإغريق عنهم عبادته حوالي القرن السابع قبل الميلاد، وكان اسم الإله الحقيقي “تموز”، وما التسمية “أدونيس” إلّا الكلمة السّاميّة ومعناها “السيد” وهو لقب احترام كان يطلقه عليه عبّاده. وفي النص العبري لكتاب العهد القديم كثيرًا ما يطلق هذا الاسم على “يهوه” بشكل “أدوناي”، ولعلّ أصلها أدوني أي “سيدي”. غير أنّ الإغريق على ما يبدو قد أساؤوا الفهم؛ فحوّلوا لقب الاحترام هذا إلى اسم علم.

وهناك أسباب تحدو إلى الظن بأنّ عبادته بدأت بين جنس يختلف عن السّاميين دمًا ولغة، وهم السومريون الذين قطنوا في فجر التاريخ البطاح المترامية في رأس الخليج العربي وأوجدوا هناك حضارة دعيت فيما بعد الحضارة البابلية. ويظهر أنّ “تموز” كان من أقدم آلهتهم، ويتألّف اسمه من عبارة سومرية معناها “ابن الحق”. أو بشكل أكمل: “الإبن الحق للمياه العميقة”.

ويظهر “تموز” في آداب بابل الدينية كزوج أو محب شاب لـ “عشتاروت” الإلهة الأم الكبرى التي كانت تتجسّم فيها قوى التناسل في الطبيعة.

في الأساطير، الناس كانوا يعتقدون أنّ “تموز” يموت كلّ سنة منتقلًا من أرض المسرّات إلى العالم المظلم تحت الأرض، وأنّ قرينته الإلهيّة ترحل كلّ سنة في البحث عنه “إلى البلاد التي لا عودة منها إلى الظلام، حيث التراب مكوّم على الأبواب”. وفي أثناء غيبتها تنقطع عاطفة الحبّ عن الشبوب في الصدور فينسى الإنسان والحيوان على السواء تكثير جنسه، ويهدّد الفناء الحياة بأجمعها.

ولهذا كان الإله العظيم “أيا” يبعث رسولًا لينقذها. غير أنّ إلهة أقطار الجحيم “آلاتو” أو “أرش كيغال” لا ترضى إلّا مكرهة بأن تسمح لـ “عشتاروت” بأن تضمخ نفسها “بماء الحياة” وتعود إلى الأرض العليا، ربّما مع حبيبها “تموز”، لكي تنتعش الطبيعة بعودتهما من جديد.

في مرآة الأساطير الإغريقية يظهر هذا الإله الشرقي في شكل شاب جميل أولعت “عشتاروت” “أفروديتي” به حبًا. ولما كان طفلًا خبأته الإلهة في صندوق وضعته في عهدة “برسيفوني” إلهة العالم السفلي. بيد أنّ “برسيفوني” عندما فتحت الصندوق ورأت جمال الطفل رفضت أن تعيده إلى “أفروديتي”. مع أنّ إلهة الحبّ نزلت بنفسها إلى الجحيم لتفدي حبيبها من سلطان القبر. ولم يحسم النزاع بين إلهة الحبّ وإلهة الموت إلّا “زفس” إذ حكم بأن يبقى “أدونيس” مع “برسيفوني” تحت الأرض شطرًا من السنة، ومع “أفروديتي” في العالم العلوي شطرًا آخر. وأخيرًا قتل خنزير بري الشاب الجميل وهو في الصيد، أو صرعه “آريس”لغيرته إذ تنكّر في شكل خنزير لكي يستطيع أن يودي بغريمه. وما أشد ما بكت “أفروديتي” حبيبها المقتول.

ففي هذا الشكل من الأسطورة لا ريب أنّ النزاع بين “أفروديتي” و “برسيفوني” من أجل “أدونيس” إن هو إلّا الكفاح بين “عشتاروت” و “الآتو” في أرض الموتى، في حين أنّ قرار “زفس” الحاكم على “أدونيس” بالقضاء شطرًا من السنة تحت الأرض وشطرًا فوقها، ما هو إلّا شكل آخر عبّر الإغريق به عن احتجاب “أدونيس” وعودته إلى الظهور مرّة ثانية.

استوطنت أسطورة “أدونيس” بلدتين في غربي آسيا، كانتا تحتفلان بمراسيمه بحفاوة ووقار، وهما “بيبلوس” على ساحل سوريا و”بافوس” في قبرص. وكانت كلتاهما مقرًا عظيمًا لعبادة “أفروديتي”، أو بالأحرى مرادفتها السّاميّة “عشتاروت”.

ويظهر أنّ ملوكًا قد حكموا مدينة “بيبلوس” وأوّل الملوك  اسمه “زيكار بعل”، عاش قبل الملك “سليمان” بحوالي قرن. واسمه “يهوملك” بن “يهاربعل” بن “أدوم ملك” أو “يورى ملك” قدّم للآلهة مدخلًا ذا أعمدة محفورة وموشاة بالذهب وهيكلًا من البرونز، وكان يعبد الآلهة باسم “بعلة جبيل” أي “سيدة جبيل”.

وتدل أسماء هؤلاء الملوك على أنّهم ادعوا النسب إلى إلههم بعل أو “مولوخ” وما “مولوخ” إلّا تحريف كلمة “ملك”. و”بعل” هذا  هو لا شك “ملكارث” أي “ملك المدينة” كما يدل على ذلك اسمه، وهو الإله العظيم الذي سمّاه الإغريق “هرقل”.

ولعل ملوك جبيل اتخذوا على نفس النمط لقب “أدونيس”، فما “أدونيس” إلّا “الأدون” أو السيّد الإلهي للمدينة. ويظهر أنّ بعض ملوك “أورشليم” الكنعانيين القدماء لعبوا دور “أدونيس” في أثناء حياتهم إذ صحّ الاستنتاج من أسمائهم، مثل “أدوني باصاق” و”أدوني صاداق” وهما لقبان إلهيّان لا بشريان. فـ “أدوني صاداق” معناها “سيد البر”، ولهذا فهي مرادفة للقب الملك “سالم” الغريب الذكر و”كاهن الله الأعلى” (كما تسميه التوراة) ملكيصاداق (سيّد البر)، الذي يلوح أنّه لم يكن إلّا أحد هؤلاء الملوك الكنعانيين لـ “أورشليم”. ولذا فإن كان ملوك “أورشليم” الكهّان في القدم يلعبون دور “أدونيس” باستمرار فلا عجب إذا رأينا نساء “أورشليم” فيما بعد يبكين على “تموز” في باب الهيكل الشمالي.

وكان المزارعون السّاميّون يعتقدون أنّ “بعل” أو إله الأرض هو منتج خصبها. فضلًا عن هذا “فإنّ ما للإله من قوة بعث وإحياء لم تقتصر على النباتات في الطبيعة فقط، بل إنّ الـ “بعل” كان يعد مبدأ التوالد الذكر، وزوج الأرض التي يقوم بتخصيبها.

وكانت ملوك “بيبلوس” تحمل الاسم القديم “كينيراس” وقد أمر “يومبي” الكبير بقطع رأس أحدهم لإسرافه في الطغيان. ويقال إنّ سلفه “كينيراس” الذي تذكره الأساطير كان قد شيّد معبدًا لـ “أفروديتي” –أي عشتاروت– في مكان في “جبل لبنان” يبعد مسير يوم عن العاصمة. ولعلّ المكان هو “أفقه” عند منبع نهر “أدونيس” (نهر إبراهيم) على منتصف الطريق بين بيبلوس (جبيل) و “بعلبك”.

ففي هذا المكان، كما تروي الأساطير، التقى “أدونيس” بـ “أفروديتي” لأوّل مرّة أو لآخر مرّة، وفي هذا المكان دفن جسده المهشم. وأنّى للخيال أن يبتّدع مشهدًا أجمل من هذا لقصّة حبّ فاجع، وموت أليم.

كان عبّاد “أدونيس” يعتقدون أنّ إلههم يموت كلّ سنة جريحًا في الجبال؛ فيتضمخ وجه الطبيعة كلّ سنة بدمه المقدس.

ونعرف من النقود والنقوش المكتشفة أنّ ملوكًا فينيقيين حكموا مدينة “كيتيوم” حتى زمن “الاسكندر الكبير”. غير أنّ أعظم مكان لعبادة “أفروديتي” و”أدونيس” كان في قبرص في بلدة “بافوس” في الطرف الجنوبي الغربي من جزيرة قبرص. وكان هيكل “أفروديتي” في “بافوس” القديمة (واسمها اليوم كوكليا) من أشهر معابد الزمن القديم وأبعدها صيتًا. ويظهر أنّ العرف في قبرص سابقًا كان يلزم جميع النساء قبل الزواج على أن يضاجعن الغرباء في هيكل الإله.. ومهما يكن الدافع لذلك؛ فإنّه لم يكن مجرّد انغماس في الفسق الشهواني بقدر ما كان واجبًا دينيًا خطيرًا يُقام به خدمة للإلهة الأم العظمى في آسيا الغربية، وكان صحن الهيكل يزدحم بالنساء اللاتي ينتظرن العمل بهذه العادة، ومنهن من كانت تنتظر هناك أعوامًا. وفي “هليوبوليس” أو “بعلبك” في لبنان، كان العرف يقضي على كلّ عذراء أن تضاجع غريبًا في هيكل “عشتاروت”، فكانت النساء أبكارًا وثيبات يبرهن على حبّهن للإلهة على هذا المنوال. غير أنّ الإمبراطور “قسطنطين” قضى على هذا العرف فيما بعد، وهدم الهيكل، وبنى كنيسة عوضًا عنه.

ولم يجد الناس مغمزًا من مهنتهن قط، بل إنّهم عدّوا تلك المهنة شرفًا رفيعًا لصاحبتها، فنظروا إلى بغايا الهيكل نظرة فيها المزيج من الدهشة والتوقير والشفقة.

وقيل إنّ “كينيراس” كان فائق الجمال، وأن “أفروديتي” نفسها وقعت في هواه. فيلوح – كما لاحظ الباحثون – أنّ “كينيراس” كان بمثابة نسخة عن ابنه “أدونيس” الذي عشقته أيضًا هذه الآلهة الملتهبة العواطف. ثم إن هذه القصص عن غرام “أفروديتي” باثنين من الأسرة المالكة لا يمكن فصلها عن القصّة المأثورة عن بغماليون، ملك قبرص الفينيقي، الذي زعموا أنه وقع في غرام تمثال “أفروديتي” فأخذه إلى مضجعه. وإذا حق لنا أن نحكم على “كينيراس” من اسمه، فإنّ هذا الملك السامي كان كالملك “داوود” عازفًا على القيثارة. فمن الواضح أنّ كلمة “كينيراس” مقرونة بالكلمة الإغريقية “كينيرا” أي “قيثارة” ولست أظننا مخطئين إذا قلنا إنّ موسيقى القيثارة في “بافوس” كما في “أورشاليم” لم تكن مجرّد ملهاة تزجى بها ساعات الفراغ، بل كانت قسمًا من الخدمة الدينية، إنّ الأمثال المستقاة من حياة “أليشاع” و”داوود” وقصصهما تبرهن على أنّ العبرانيين استخدموا موسيقى القيثارة. ففي حين استخدمها “أليشاع” لكي يصل في النشوة إلى ذروة النبوة، لجأ إليها “داوود” لكي ينفي الأرواح الشريرة عن “شاؤول”.

أمّا العنصر الذي لا يتغيّر في أسطورة “أدونيس” هو موته المبكر موتًا عنيفًا.

إنّ الأقاصيص تتباين بشأن نهاية “كينيراس”. فهناك من قال إنّه قتل نفسه عندما اكتشف أنّه ضاجع ابنته، وزعم آخرون أنّه غلب على أمره في مسابقة موسيقية مع “أبولو” فأمر الظافر بموته. ويبدو أنّ حياة مشاهير الرجال في الأزمنة الغابرة مطاطة جدًا، ويمكن أن تطوّل وتقصّر لمنفعة التاريخ، كما يشاء للمؤرخ ذوقه وهواه.

نظام البغاء المقدس

عادة البغاء المقدس لم تكن دائمًا شعبية فحسب. وذلك أنّ الوسيط كثيرًا ما كان كاهنًا، كما أنّ تضحية البكارة كانت تجري في بعض الأماكن – كما في “روما”، وأنحاء “الهند” – أمام تمثال إله ذكر مباشرة، ومعنى هذه العادات ما زال غامضًا.

في “الهند” تدعى الراقصات المكرّسات للخدمة في الهياكل “التاميلية” “ديفاداسي”. أي “خدم أوجواري الآلهة” غير أنّهن في حديث الناس يدعين زانيات. وهناك نقوش تشير إلى أنّه في سنة 1004 ب.م. كان لهيكل الملك “راجا جارا” في “طنجور” أربعمئة من “نساء الهيكل” كنّ يقطنّ مجانًا في المنازل المبنية في الشوارع المحيطة به، ولهنّ من أوقاف الهيكل أراضٍ معفاة من الضرائب.

إنّ مغزى زواج “الديفاداسي” في شكله الأصلي هو هجر الحياة العائلية المألوفة والتكرّس لخدمة الله. والعرف يقضي بأن تكون الفتاة المنوي تكريسها بين السادسة والثامنة من العمر، وعريسها هو الإله الذي يرأس الهيكل المحلي.

الرجال والنساء المقدّسون في غرب أفريقيا

العادة عند الشعوب الناطقة بالـ “يو” في “ساحل الرقيق” هي أن يضاف إلى الكهنة، كهنة جدد عن طريقين هما: انضمام الصغار وتكريس البالغين. ويطلق على الكاهنة كلمة “فودوسي” أي زوجة الإله. ومهمتها الأولى هي البغاء، وفي كلّ بلدة معهد واحد على الأقل لانضمام أجمل الفتيات البالغات من العمر من سن العاشرة إلى الاثنتي عشرة، حيث يبقين لثلاث سنوات ويتعلمن الترتيل والرقص الخاصين بعبادة الآلهة، ويضاجعن الكهنة وتلاميذهم، وعند انتهاء مدة التعليم يصبحن زانيات للجميع. ولا يجد أحد في ذلك ملامة، إذ يعتبرن متزوجات من الإله، ويعد انغماسهن في الفجور إرشادًا منه. وما يرزقن من أولاد يكونون ملكًا للإله. ولا يسمح لهؤلاء النسوة بالزواج لأنهنّ يعتبرن زوجات للإله.

وعند زنوج “ساحل الرقيق” كما رأينا، رجال مكرّسون ونساء مكرّسات، كهنة وكاهنات، والعادات والمعتقدات بين الذكور والإناث متشابهة. فالرجال كالنساء يقضون ثلاث سنوات في التلمذة على كلّ منهم في نهايتها أن يبرهنّ على أنّ الإله يقبله ويعتبره جديرًا بالإلهام.

فإذا كان الشاب مقبولًا لدى الإله فإنّه في أثناء الغناء يرتجف بشدة، ويتظاهر بهزات قوية، ويزبد فمه، ويرقص بعنف جنوني ساعة أو يزيد. وهذا برهان على حلول الإله فيه.

ومن تلك اللحظة يعد كاهنًا للإله الذي يخدمه ووسيطًا له، والكلمات التي يفوه بها وهو في تلك الحالة من الهياج والفورة العقلية، تعتبر وحيًا إلهيًا بشفتي إنسان.

والنساء المقدّسات في آسيا الغربية: اسم الواحدة من هؤلاء المتابعات البابليات هو “قاديشتو” وهي نفس التسمية العبرية “قديشا” أي “المرأة المكرّسة” التي كانت تطلق على زانية الهيكل. وفي مصر كانت المرأة تنام في هيكل “عمون” في “طيبة”، وكان المعتقد أنّ الإله يزورها. والنصوص المصرية القديمة كثيرًا ما تشير إليها باسم “القرينة الإلهية”.

أمّا الرجال المقدّسون في آسيا الغربية: ففيها كان الرجال المقدّسون (قدشيم) يوازون النساء المقدّسات (قدشوت). وبعبارة أخرى كان العبيد المقدّسون في الهيكل متمّمين للإماء المقدّسات فيه.

وكان يعتقد “العبرانيون” أنّ أنبيائهم أيضًا تمسّهم روح إلهيّة وتوحيهم وتنطق بأفواههم، كما يعتقد زنوج أفريقيا الغربية أنّ الإله يتكلّم بفم كهانه ورجاله المكرّسين. ونحن في الحقيقة نعرف أنّ اسم النبي القديم كان “الرائي”، والكلمة تدل على أنّ مهمته الخاصة هي العرافة لا النبوة، بمعنى التّكهن بالمستقبل. ويجوز لنا أن نظن بأنّ الدافع القوي الذي يحدو بالنساء إلى الاستسلام إلى “الأولياء” وهو الأمل في الحصول على النسل منهم. فمثلًا في “حمامات سليمان” في شمالي فلسطين تنطلق من الأرض تيّارات حارة من الهواء، ويدعى أحدها  أبو رباح”، وهو مشهور لكثرة ما تقبل عليه النساء العواقر اللاتي يشتهين الأولاد، فيجعلن الهواء الحار يهبّ على أجسامهن، ويعتقدن أنّ ما يلدن من أولاد بعد ذلك هم من صلب القدّيسين أو ولي المعبد.

إذًا، فإنّ المعتقدات والعادات السورية اليوم قد تشير إلى البغاء الديني الذي كان متّبعًا في تلك الأصقاع نفسها في الزمن الغابر.. فكانت النساء حينئذٍ كاليوم يتضرّعن إلى الإله المحلي “بعل” أو “أدونيس” سابقًا، أو “أبو رباح” أو “مار جريس” اليوم، لكي يهبهن ما يشتهيه قلب كلّ امرأة.

وكانت النساء اللواتي يبغين نسلًا يذهبن إلى معبد “أيسكولابيوس” الكبير. فكنّ ينمن هناك، فيأتيهن في الحلم ثعبان، وإذا حبلن اعتقدن أنّ ذلك من الثعبان. وممّا لا ريب فيه هو أنّ الثعبان كان يُعتقد بأنّه هو الإله بعينه، لأنّ “أيسكولابيوس” ظهر مرّات كثيرة بشكل ثعبان، ولهذا فمن المنتظر أن تنسب أبوة الأولاد الذين يولدون للنساء اللواتي زرن معبد “أيسكولابيوس” إلى الإله الثعبان.

وكذلك قيل إنّ أم “أغسطس قيصر” حبلت به بمضاجعتها ثعبانًا في هيكل “أبولو”، ولذلك كان يعتبر الإمبراطور ابن ذلك الإله. وقيلت أقاصيص مثل هذه عن “أرسطومينيس” بطل “مسينا”، و”الاسكندر الكبير”، و”سكيبو الأكبر”، فقد قيل عنهم جميعًا إنّ آباءهم كانوا أفاعي.

وقد نجد السبب في اعتقاد القوم بأنّ الثعابين آباء لبعض الناس في الإيمان الشائع بأنّ الأموات يعودون إلى الحياة ويزورون مساكنهم القديمة بشكل الأفاعي.

التقمّص

ويعتقد أقوام “الإيبان” في “بورنيو” بأنّ الروح الحارسة لكلّ إنسان (توا) (وتظهر للعيان بشكل أفعى أو لبوة، أو حيوان آخر من حيوانات الأدغال. وهي تعتبر روح أحد الأسلاف الذين اشتهروا بالشجاعة أو الفضيلة، فمن عادات “الإيبان” عندما يموت أحد وجهاء القبيلة ألا يدفن جسده، بل يوضع على الأرض في مكان منعزل في تلّة مجاورة، ويؤخذ كلّ يوم مقدار من الطعام إلى ذلك المكان، فإذا اختفى الجسد بعد بضعة أيام اعتقد الناس بأنّه أصبح “توا” أو روحًا حارسة.

وفي شمال الهند، كان كلّما مات طفل دفن عادة تحت عتبة الباب (لاعتقاد الناس بأنّ روحه ستولد ثانية في العائلة، لأنّ والديه يطآن قبره كلّ يوم. وهذا يفسر قاعدة “الهندوكيين” التي تنصّ على دفن الأطفال عوضًا عن حرقهم. فأرواحهم لا تتلاشى في الأثير مع دخان المحرقة، بل تبقى على الأرض لكي تتقمّص في أفراد العائلة من جديد.)

الجذوع والحجارة المقدسة عند الساميين

في وسعنا أن نتبيّن آثار معتقدات وعادات كالتي سبق ذكرها بين الساميين القدماء. فعندما يتكلّم النبي “إرميا” عن “الإسرائيليين” الذين كانوا يقولون للشجرة أو جذعها: (أنت أبي) وللحجر: (أنت ولدتني)، ربّما لم يقل ذلك مجازًا أو بلاغة، بل قصد أن يندّد بمعتقدات حقيقية شاعت بين معاصريه.

حرق ملكارت والآلهة

إنّ عادة حرق إله المدينة الأكبر رمزًا كانت شائعة في “صور” والمستعمرات الصّورية حتى زمن متأخر. وقد أطلق الإغريق على “ملكارث” إله صور الأكبر “هرقل”، الذي قيل إنّه حرق نفسه في محرقة هائلة، فارتفع إلى السماء في سحابة مرفوقًا بقصف الرعود. إنّ صورة هرقل أو بالأحرى ملكارث، كانت تحرق بانتظام في احتفال مهيب في صور. ولعل ذلك هو الاحتفال أو العيد المعروف باسم “يقظة هرقل”. وتسمية العيد تدل على أن التمثيل الدرامي لموت الإله على المحرقة كان يتلوه تمثيل بعثة الموت، وطريقة البعث يمكن معرفتها من قول أحد الكتّاب الإغريق بأنّ الفينيقيين كانوا يضحون بعصافير السلوى لـ “هرقل”، لأنّ “تايفون” كان قد صرع “هرقل” في أثناء رحلة إلى “ليبيا”، فأعاده “إيولاوس” إلى الحياة، بأنّ وضع تحت أنفه سلوى، فشم الإله الميت العصفور فعادت إليه الروح!..

ويظهر أنّه كان لـ “ملكارث” في “قادس”، كما كان في “صور”، عيد سنوي يصنع فيه تمثال له يحرق في النار.

وفي “قرطاجة” وهي أعظم المستعمرات “الصّورية”، يلوح لنا أنّ آثار عادة حرق الإله رمزًا أو صورة بقيت مماثلة في قصّة “ديدونه” أو “إليسا” مؤسسة المدينة وملكتها. فقد غطت نفسها وهي مستلقية على المحرقة، أو ألقت بنفسها من القصر على كوم من الحطب الملتهب تخلصًا من لجاجة عاشق تكرهه، أو يأسًا من هجر عاشق آخر قسا عليها. وقد استمر الناس في عبادتهم لـ “ديدونه” في قرطاجة ما دامت مستقلة. وكان هيكلها في وسط المدينة تظلله أجام الحور.

وسكان “قبرص” كانوا يعبدون “ملكارث” الصّوري جنبًا إلى جنب مع “أدونيس” في بلدة “أماثوس”، غير أنّ سكانها كانوا يعبدون حتى الأزمنة المتأخرة إلهًا ذكرًا يلوح من صفاته أنّه شرقي صرف. وكان مقرّه الرئيسي في “طرسوس” في سهل وافر الخصب. وقد شبّهوا إلههم على نقود مدينتهم بـ “زفس”. فالكتابة الآرامية على النقود تدعوه “بعل طرسوس”، ويحمل في إحدى يديه سنبلة قمح وعنقود عنب. ومميزات كهذه تنسب إليه تشير إلى أنّه خصب عام،  ينعم على عباده بالشيئين الذين يؤثرونهما على كلّ نِعم الطبيعة الأخرى، وهما القمح والخمر. ولذلك فمن المرجّح أنّه إله سامي، أو على كلّ حال شرقي لا إغريقي.

إنّ الآلهة التي أوجدتها بلاد “كيليكيا” بقيت حية مدة طويلة، وإن تكن قد اتخذت لنفسها صبغة رقيقة من الإنسانية الإغريقية. ولذلك فليس من المستبعد أنّ الثالوث الإلهي في “طرسوس”، المكوّن من “بعل” و”عاثة” و”صندان” كان يمثله الكهنة والكاهنات. وإذا قسنا هؤلاء الكهنة بمن يوازيهم في “أولبا” وفي المعابد الكبيرة في داخل آسيا الصغرى، وجدنا أنّهم في الأصل ليسوا كهنة فحسب، بل هم،  في الوقت نفسه ملوك وملكات، أمراء وأميرات.

إنّ نظرية حرق الملوك والأمراء في الأزمنة الغابرة في “طرسوس” بصفتهم آلهة، تدعمها بوجه خاص حجة مستقلة كلّ الاستقلال عما سبق. فهناك رواية تقول إنّ مؤسّس “طرسوس” لم يكن “صندان”، بل “سردنابالس” الملك الأشوري المشهور، الذي كان انتحاره على محرقة هائلة من أشهر ما تلهج به الأساطير الشرقية. ولربّما حكم الآشوريون “كيليكيا” ردحًا من الزمن، إلّا أنّ التأثير “الحثي” كان على الأرجح أبقى وأعمق. وقد تكون قصّة بناء “سردنابالس” لمدينة “طرسوس” مشكوكًا فيها،  ولكن لا بدّ من سبب لاقتران اسمه بالمدينة.

ويروى أنّ “سميراميس” نفسها ملكة “آشور” الأسطورية حرقت نفسها في محرقة حزنًا على موت حصان عزيز عليها.

وفي “أورشليم” نفسها بقيت ذكريات حرق الملوك، أحياء أو أمواتًا، حتى زمن “أشعيا” النبي الذي يقول: “إنّ المحرقة العظيمة مهيأة منذ القدم، أجل، إنّها للملك قد هيئت”. نحن نعلم أنّ محارق عظيمة كانت تقام دائمًا من أجل موتى “ملوك اليهود”، وليس من قبيل الصدفة المجرّدة أنّ المكان الذي عينه “أشعيا” لمحرقة الملك هو عين البقعة في وادي “حنّوم” حيث كان الآباء يحرقون أطفالهم الأبكار تقدمه لـ “مولوخ الملك”.

حرق الأحياء كان يعد تضحية كبيرة, بل تأليهًا يرفع التضحية إلى مصاف الخالدين, إذ علينا ألا ننسى أنّ كلًا من “هملقار” و”هرقل” كان يُعبد بعد موته. وفضلًا عن ذلك, كان الأقدمون يعتبرون النار مطهرًا قويًا, إذا أحسن استعماله استطاع أن يأتي على كلّ ما هو فانٍ في الإنسان, لكي لا يبقى منه إلّا الروح الإلهيّة الخالدة.

إذًا، يظهر أن عادة حرق الإله, صورة أوفي شخص إنسان يمثله, كانت متبعة على الأقل لدى قومين من أقوام آسيا الغربية, هما الفينيقيون والحثيّون. وقد وجدنا في بحثنا السابق, ما يحدو بنا إلى الظن بأنّ هذه العادة كانت مبنيّة على فكرة قوى النار التطهيرية.

ولهذا قالوا، إنّما نحن نبغي أن نجعله يحيا إلى الأبد, ونضعه بعيدًا عن يد الانحلال والفناء التي لا ينجو من قبضتها كلّ ما تحت السماء، إنّه في النار لا يموت.

الآلهة والزلازل

غير أنّ سكان هذه الأرجاء كانت تذكّرهم بالنيران الفاجعة إشارات أخرى ليست لها لذّة عصير عنبها السخي: فقد كانت “الأرض المحترفة” والأراضي التي تليها جنوبًا بما في ذلك وادي نهر “مياندر” برمته, عرضة لزلازل عنيفة. ففي مدينة “أباميا” التي كثيرًا ما أصابها الخراب, كان الناس يصلون إلى “بوسايدون” إله الزلازل بحرارة فائقة. وهناك قبيلة “كوينبو” من “الهنود الحمر” الذين يقطنون على الضفة اليسرى لنهر “أوكابالي” ويعزون هذه الاضطرابات إلى الخالق الذي يسكن عادة في السماء, ولكنّه بين الحين والحين ينزل إلى الأرض لكي يرى إذا كان ما صنعت يداه ما زال باقيًا. وينتج عن نزوله زلزال.

وفي جزر الفيليبين يعتقد أقوام “باغوبو” بأنّ الأرض محمولة على عمود كبير, ولكن هناك ثعبانًا ضخمًا يحاول إنزالها عنه. فإذا ما هزّ الثعبان العمود ارتجفت الأرض.

وكان “الهنود الحمر” في “بيرو” يظنّون أنّ الزلازل تشير إلى عطش الآلهة, ولذلك كانوا يصبّون الماء على الأرض.

ولنا أن نخمّن أنّ أهالي البلاد الإغريقية التي قاست الأمرين من الزلازل مثل “أكايا” والساحل الغربي لآسيا الصغرى كانوا يعبدون “بوسايدون” كإله للزلازل, وإله البحر معًا. بيد أنّ الانفجارات والزلازل ليست هي الوحيدة التي تركت أثرًا في دين السكان. فقد كان للأبخرة الأرضية السّامة والينابيع الحارة عبّاد يؤمنون بقواها, وهذه تكثر عادة في المناطق البركانية. فكان الأقدمون إذا رأوا الأبخرة تصدر من الأرض؛ قالوا إنّ تلك المنافذ التي ينطلق منها البخار هي مداخل الجحيم. فكان الإغريق يدعونها “منازل بلوتو” (إله الجحيم) – بلوتونيا ومثّلث هذه الأبخرة في “إيطاليا” بإلهة سميت “مفيتيس” كانت تعبد في أجزاء مختلفة من البلاد.

ولا ريب إنّ من أهم الأسباب التي خلقت شهرة “هيرابوليس” كمدينة مقدسة, هو ما فيها من ينابيع حارة وأبخرة أرضية سامة.

وفي “سوريا” ما زالت النساء العاقرات يتردّدن على الينابيع الحارة لكي يحصلن على النسل من ولي أو من جنّي الماء.

طقوس “أدونيس” وجنائنه

لقد تناولنا بالبحث أسطورة “أدونيس” والأقاصيص التي تربطه بـ “بيبلوس” و”بافوس”, فتوصّل البحث بنا إلى أنّ “أدونيس”, السيّد الإلهي للمدينة عند الأقوام السّاميّة, كان يمثله في الغالب ملوك كهنة, أو أناس آخرون من الأسرة المالكة. وأنّ هؤلاء الممثلين البشريين كانوا يضحّون بأنفسهم – إمّا أحيانًا, أو في فترات منتظمة – بصفتهم آلهة.

وفي أعياد “أدونيس” التي كانت تقام في آسيا الصغرى الغربية, والبلاد الإغريقية, كان الناس يندبون موت الإله كلّ سنة, وفي بعض الأماكن يحتفلون ببعثه في اليوم التالي. وفي الهيكل الفينيقي العظيم لـ “عشتاروت” في “بيبلوس” كان الناس يندبون موت “أدونيس” كلّ سنة بالبكاء والنواح ولطم الصدور, مع ولولة وأنغام الناي. بيد أنّهم كانوا يعتقدون أنّه يعود إلى الحياة في اليوم التالي ويصعد إلى السماء أمام أعين عبّاده. ويبدو أنّ العيد الفينيقي كان يقام في الربيع, لأنّ موعده كان يتعيّن باستحالة لون مياه “نهر أدونيس”, وهذا يحدث عادة في الربيع, عندما تجرف كميات كبيرة من التراب الأحمر عن الجبال بفعل الأمطار, فتلون مياه النهر، بل والبحر لمسافة بعيدة بلون أحمر قانٍ كالدّم.

وفي هذا قال “عمر الخيّام”:

” ألا هل شاهدت يومًا وردة تفوق احمرارًا وردة نمت في ثرى ملك نزفت هناك دماؤه؟.. هذه الزهور التي تاهت بها الحدائق إنّما قد سقطت في حضنها من خصلات رأس كان يومًا جميلًا.

***

وهذا العشب القشيب الذي يكسو شفة النهر التي عليها نضطجع – بربك رفقًا به إذ تضطجع, من يدري من أي شفاه جميلة لا نراها قد نما العشب القشيب؟..”

ولعلّ خير برهان على أنّ “أدونيس” كان إلهًا للزرع, ولا سيما الحبوب, يقدّمه لنا ما كان يعرف ب “جنائن أدونيس”. و”الهندوكيون” أيضًا يزرعون جنائن “أدونيس”, ويبدو أنّهم يستهدفون بذلك ضمان خصب الأرض والناس معًا. وفي “صقلية” ما زالت جنائن “أدونيس” تزرع في الربيع كما في الصيف, مما يحدو بنا إلى الاستنتاج بأنّ “صقلية” كانت فيما مضى كسوريا تحتفل بعيد ربيعي للإله الذي يموت ثم يبعث حيًا.

ويحسن بنا أن نورد قولًا للقديس “جيروم” فهو يذكر أنّ بلدة “بيت لحم”, وهي المكان الذي ولد فيه “السيّد المسيح” حسب ما جاء في الكتب النصرانية, كانت تظلّلها غابة مكرّسة لإله سوري أقدم من المسيح, وهو “أدونيس”, وأنّ المكان الذي بكى فيه الطفل “يسوع” كان الناس يندبون فيه عشيق “فينوس”.

وكان الناس يرون “عشتاروت”, خليلة “تموز” الإلهيّة, في كوكب الزهرة (فينوس), وكان الفلكيون البابليون يتتبعون بدقة تحوّلها من نجمة صبح, إلى نجمة مساء, فيستخلصون الآيات من بزوغها وأفولها المتعاقبين.

التمّوزية وشعراء الحداثة العرب

شغلت أسطورة “تموز” رمز الموت والانبعاث شعراء الحداثة العربية، حتى أنّ أسعد رزوق [3] (المتوفى 2007م.) وهو من أبرز الوجوه النقدية في الشعر العربي أطلق عليهم اسم “الشعراء التموزيون”، منهم “خليل حاوي” و”يوسف الخال” و”أدونيس” و”بدر شاكر السياب” و”جبرا ابراهيم جبرا” في كتابه الذي بعنوان “الأسطورة في الشعر المعاصر” والذي صدر في العام 1959م. وأعيد نشره عام 1990م. عن دار الحمراء بعنوان: الشعراء التموزيون “الأسطورة في الشعر المعاصر.

غير أنّ “أدونيس” في ديوانه “قالت الأرض” الصادر عام 1954م. عاد ليستلهم المصير التموزي في موته وانبعاثه، ولكنّه سرعان ما يئس من بطل يستشهد في سبيل أمته ليطلّ على الشعر العربي الحديث عام 1955م. بالقصيدة الرائدة “الفراغ”، والتي تعتبر ضمن الشعر العربي الحديث لمكانة “الأرض الخراب” في الشعر “الأنكلو/سكسوني”.

أمّا السياب الذي سكنه هاجس الإله المنبعث؛ فقد عبّر عنه في قصائد عدّة كان منها: “النهر والموت” و”جيكور والمدينة” و”المسيح بعد الصلب” و”أغنية في شهر آب” و”انشودة المطر” و”رسالة من قبر”.

ولا يخفى أنّ التموزية كأسطورة كانت أثّرت بأدباء ورسّامين ونحّاتين شرقيين؛ لكن لا يتسع المجال لذكر أحوالهم في هذا المقام.


[1] – كنت اعتمدتُ في بداية قراءتي وتلخيصي لهذا الموضوع الهام والشائك على نسخة أدونيس أو تموز (دراسة في الأساطير والأديان الشرقية القديمة)، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، الصادرة عن المؤسـسـة العربـيـة للدراسات والنشــر – بيروت، الطبعة الثالثة 1982م والتي اعتمد فيها المترجم على نسخة The Golden Bough لمؤلفه James George Frazer الصادرة عام 1914م. مع أنّ الطبعة الأولى للكتاب كانت صدرت عام 1900م. وترجمته كانت للجزء الأوّل من المجلد الرابع والتي بعنوان “أدونيس، آتيس، أوزيرس” فقط، وكان “جبرا” قد ترجمها للعربية عام 1945م. ونشرها في بيروت لأوّل مرة عام 1956م. في 188 صفحة من القطع المتوسط كما يذكر في مقدمته. لكن في العام 2014م. قامت دار “الفرقد” السورية بنشر النص الكامل لكتاب “الغصن الذهبي” (دراسة في السحر والدين) في 910 صفحات من القطع الكبير بترجمة نايف الخوص بحلة قشيبة، ممّا اضطرني لإعادة المقابلة والتدقيق بين النصّين المترجمين عن الأصل الإنكليزي، ولم يكن هذا بالأمر اليسير نظرًا لكثرة المشاغل وضيق الوقت.

[2]جيمس جورج فريزر  (1854 – 1941)عالم اسكتلندي متخصّص في علم الإنسان. يتتبّع في عمله الشهير “الغصن الذهبي” تطوّر أديان العالم وأساطيره. كتب أيضًا الطوطمية؛ الأباعد؛ الفن الشعبي في السفر القديم؛ انحرافات في نمو المؤسسات؛ مجموعة مختارات أدبية خاصة بعلم الإنسان.

ولد فريزر في جلاسجو، وتعلم في جامعتي جلاسجو وكمبردج، وكان مدرّسًا لعلم الإنسان الاجتماعي في جامعة ليفربول في إنجلترا. ترك كتابه “الغصن الذهبي” أثرًا بارزًا على تطوّر الآداب الأوروبية الحديثة. كما أنّ أثر الكتاب انتقل إلى لغات أخرى بعد ترجمته إلى معظم لغات العالم الرئيسة.

[3] – ولد الدكتور أسعد كامل رزوق في مرجعيون جنوب لبنان في العام 1936م. وتوفي في بيروت في 6 آذار/ مارس 2007. يعدّ من أبرز الوجوه الفكرية والنقدية في حركة الشعر العربي الحديث، وصاحب مساهمة أساسية في الثقافة اللبنانية والعربية، وفي الكشف عن الفكر الصهيوني التوسعي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار