البابور الموقع العربي

الإرهابيون اليهود

533

“جنود مجهولون: الكفاح في سبيل إسرائيل، 1917-1947”

صورة: ضابط وجنود من الجيش البريطاني أمام فندق الملك داوود، بعد أن فجرته عصابة "إرغون" الصهيونية السرية، في القدس. تموز/يوليو 1946.
 صورة: ضابط وجنود من الجيش البريطاني أمام فندق الملك داوود، بعد أن فجرته عصابة “إرغون” الصهيونية السرية، في القدس. تموز/يوليو 1946.

في ساعات الصباح الأولى من يوم الحادي والثلاثين من تموز/يوليو هذا الصيف، أشعل رجال ملثمون النار في منزلين من منازل قرية دوما في الضفة الغربية. كان أحدهما خالياً. بينما كانت عائلة الدوابشة نائمة في الآخر. أصيب سعد وزوجته ريهام وطفلهما أحمد (4 سنوات) بحروق بالغة بعد أن اجتاح اللهب غرفة النوم. أما علي الرضيع (18 شهراً) فقد مات حرقاً على الفور، وتوفي سعد بعد أسبوع جراء الحروق التي أصيب بها. قبل عام، خطف ثلاثة من المتطرفين اليهود محمد أبو خضير (16 سنة) من أمام منزله في القدس الشرقية. اقتاد الخاطفون الصبي إلى غابة، وبعد أن أوسعوه ضرباً، صبوا “البنزين” على أم رأسه وأحرقوه حياً.

ظل الإعدام حرقاً على الدوام أكثر من مجرد عملية قتل. فهو ينقل رسالة ويحمل دلالة. وكانت رسالة الملثمين الذين ألقوا قنبلة “المولوتوف” على غرفة نوم آل الدوابشة واضحة الدلالة، حيث رسموا على الجدار كلمة NEKAMA! (“انتقام” بالعبرية)، مزخرفة بنجمة داوود السداسية.

لا يعد هذا النمط من الإرهاب اليهودي جديداً. ففي عام 2002، حاولت مجموعة سرية من المستوطنين تفجير مدرسة للبنات الفلسطينيات. وفي عام 1994، أطلق مستوطن يهودي مولود في أميركا النار على مصلين فلسطينيين في مدينة الخليل فقتل منهم تسعة وعشرين. وقبل ذلك بعقد من السنين شن عدد من الخلايا السرية التي لا تجمعها روابط وثيقة هجمات إرهابية ضد أهداف فلسطينية متنوعة، شملت الكلية الإسلامية في الخليل، وحافلات للنقل العام، ورؤساء بلديات في الضفة الغربية.

تعود جذور الإرهاب اليهودي المعاصر إلى الحركات المتطرفة والأفراد المتشددين الذين تجولوا في أرجاء فلسطين في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. وصدر كتابان جديدان لاستكشاف هذه الجذور: “جنود مجهولون” لبروس هوفمان، و”تصفية الحساب” لباتريك بيشوب.

1

عندما كنت في القدس سمعت دوي تسعة انفجارات بالقرب من الفندق الذي نزلت فيه. فجرت مكاتب الهجرة التابعة لسلطة الانتداب في حيفا وتل أبيب، وقتل اثنان من الشرطة الفلسطينية. هنالك ثلاث مجموعات متطرفة، جميعها منظمات عسكرية خارجة على القانون، تتبنى أساليب فاشية موحدة وترتدي أزياء فاشية موحدة، وتشابه قوات الصدمة النازية.

هكذا وصف فريدريك باينتون، مراسل مجلة Reader’s Digest تجربته مع الإرهاب اليهودي في أوائل عام 1944 1. كانت الانفجارات التي سمعها طلقة البداية لحملة العنف التي شنتها المنظمة السرية “إرغون تسفاي ليومي” (“المنظمة العسكرية القومية”، المعروفة أيضاً بالأحرف العبرية الأولى ETZEL) على الانتداب البريطاني. وبعد أحد عشر يوماً من الإعلان عن الحملة في الأول من شباط/فبراير، نسف أعضاء في “الإرغون”، بتوجيه من القائد المعين حديثاً، مناحيم بيغن، مكاتب الهجرة البريطانية في المدن الفلسطينية الرئيسة.

ينتمي بيغن، المهاجر من بولندا عام 1942، إلى الجناح التصحيحي في الحركة الصهيونية الذي أسسه فلاديمير جابوتنسكي. أما الهدف فكان تجديد/تصحيح “الصهيونية العملية” في الحركة العمالية الصهيونية، التي انصب اهتمامها أساساً على بناء مؤسسات وطنية ورعاية مجتمع يهودي في فلسطين. “كانت صهيونية جابوتنسكي التصحيحية الجليلة تضع الدولة اليهودية أولاً، وتؤجل الاهتمام بالمجتمع إلى وقت لاحق. إذ يجب إقامة الدولة اليهودية عبر الدبلوماسية الجسورة والقوة العسكرية”، كما كتب أفيشاي مارغاليت على هذه الصفحات مؤخراً 2. على أي حال، اتفق جابوتنسكي مع منافسيه في الصهيونية العمالية على إحدى القضايا الجوهرية: يجب تحقيق أهداف الصهيونية عبر التحالف مع الإمبراطورية البريطانية.

وبعد توقع جابوتنسكي الصائب هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، نظم خمس كتائب من المتطوعين اليهود للقتال مع البريطانيين. وأمل بأن تعزز المبادرة القضية الصهيونية بعد الحرب، وتشيد الركيزة المؤسسة لقوة الدفاع اليهودية.

خاب أمله في الهدفين كليهما. فالإنجاز الدبلوماسي لن يحققه جابوتنسكي، بل حاييم وايزمن، منافسه اللدود وأعظم السياسيين المحنكين في الحركة الصهيونية، حيث توجت دبلوماسيته الشخصية بوعد بلفور (1917) الذي عبر عن التزام الحكومة البريطانية تسهيل إقامة “وطن قومي للشعب اليهودي” في فلسطين. جرى حل الفيلق اليهودي بعد وقت قصير من انتهاء الحرب. ثم أسس جابوتنسكي منظمة شبيبة الصهيونية التصحيحية، “بيتار”، التي تشكلت فيها قوة مقاتلة جديدة. “قوات الصدمة” التي شاهدها باينتون مثلها أعضاء المنظمة من أصحاب القمصان البنية. أما منظمة “إرغون”، زارعة القنابل التي سمع دويها، فكانت الذراع المسلحة السرية للحركة التصحيحية.

كان أمل جابوتنسكي معقوداً على هدف آخر: فيلق يجيزه البريطانيون قانونياً لمواجهة معارضة العرب الحتمية، لا منظمة سرية تحارب البريطانيين. ظهر التباين بين آراء الأستاذ واستراتيجيات التلميذ على السطح في المؤتمر العالمي الثالث لمنظمة “بيتار” عام 1938، حيث تحدى بيغن منهج جابوتنسكي القائم على مناشدة الضمير العالمي؛ طالب بيغن بالانتقال إلى “الصهيونية المقاتلة”. وحسب تعبير بروس هوفمان في كتابه الجديد “جنود مجهولون”:

كرر جابوتنسكي المذهول مقاطعة كلام تلميذه، وانتقد تشبيهاته التاريخية، كما تساءل بسخرية عن المضامين العملية لدعوة بيغن إلى الانتقال إلى مرحلة جديدة من الصهيونية: الاعتماد على الكفاح المسلح.

تكشف محاضر المؤتمر أن جابوتنسكي هزأ من بيغن، وقارن كلامه بالضجيج الصادر عن صرير الباب: “عديم المعنى وعقيم الجدوى”. ووفقاً لبعض الروايات، غادر بيغن القاعة والدموع في عينيه. لا غنى عن استكشاف الجذور الإيديولوجية لهذا الانقسام لفهم الإرهاب اليهودي، الذي لطخ تاريخ الصهيونية منذ ثلاثينيات القرن الماضي إلى يومنا الحالي.

2

يعتمد كتاب هوفمان “جنود مجهولون” على مواد استخبارية نزعت عنها السرية في السنوات الأخيرة لوصف الإرهاب الصهيوني والكفاح ضده “من منظور السياسيين البريطانيين، والجنود، والمسؤولين، ورجال الشرطة وغيرهم”. ويتوصل إلى نتيجة مفادها أن إرهاب بيغن ورفاقه من أعضاء منظمة “إرغون” كان عاملاً فعالاً في تسريع إنهاء الانتداب البريطاني، الذي امتد ثلاثين عاماً منذ انهيار السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. كانت مهمة بريطانيا وفقاً لمبدأ الانتداب إعداد فلسطين للاستقلال وإقامة دولة. وبعد فشل البريطانيين في إنشاء إدارة محلية، عملية ومحمية، أعلنوا إنهاء الانتداب عام 1948 وتخلوا عن مسؤولياتهم لصالح الأمم المتحدة.

يروي هوفمان الحوادث التي أدت إلى هذا القرار بتفاصيل مسهبة، مشدداً على الخسائر المالية والبشرية والأضرار المعنوية التي ألحقها الإرهاب اليهودي بالبريطانيين. لكن تقييم نجاح الإرهابيين اليهود في تحقيق بغيتهم مسألة أكثر تعقيداً. فقد كان هدفهم المعلن “البعيد” إقامة دولة يهودية على ضفتي نهر الأردن، بينما تمثل الهدف المباشر “القريب” في إلغاء سياسة الكتاب الأبيض البريطانية، التي قيدت بشكل صارم الهجرة اليهودية إلى فلسطين. لم يتحقق أي منهما في واقع الأمر. ولا ريب في أن تحليل إستراتيجيات الإرهابيين ودوافعهم المحفزة يتطلب الانتباه لجذورهم الإيديولوجية التي لم تحظ باهتمام كاف في كتاب هوفمان.

غابت عن كتاب هوفمان “عصبة الأشداء” Brit Habiryonim ، أولى المنظمات السرية المعادية للبريطانيين. مارست أفكار العصبة تأثيراً عميقاً في الصهيونية التصحيحية السرية وفي المتطرفين اليهود منذ إنشائها عام 1930. أسس الحركة ونظّر لها اثنان من المثقفين: الصحافي المتشدد آبا أحيمئير، والشاعر أوري تسفي غرينبرغ. تبنى أحيمئير “إرادة القوة” النيتشوية مبدءًا أخلاقياً، ورأى في ديكتاتورية موسوليني القومية نموذجاً يحتذى مثاله في السياسة. انجرف مبتعداً عن إستراتيجية زعيم الصهيونية التصحيحية جابوتنسكي، وأثار استياءه حين دعاه “زعيمنا الدوتشي”. “السبيل إلى الخلاص لا يمر على جسر من ورق، بل من حديد”، كما كتب معبراً عن ازدرائه للدبلوماسية، ومخالفاً لا وايزمن فحسب بل جابوتنسكي أيضاً.

أكد أحيمئير أن أخطر جرائم الصهيونية هي اتكالها على الأمم الأخرى بدلاً من إرادتها الذاتية، ونقاء المثل، والاستعداد، بل الرغبة في التضحية. لا يناسب هذا المشروع الجماهير، “الروث البشري”، بل القلة الطليعية. اعتبر أحيمئير، متأثراً بتراث الثوريين الروس، العنف السياسي وسيلة شرعية في ترسانة المتحمسين الغيورين، من أصحاب القلوب الطاهرة والنفوس الغيرية المنزهة عن الأنانية.

أضاف غرينبرغ عنصراً صوفياً/باطنياً إلى نزعة أحيمئير الحربية. فقد نشأ في عائلة حسيدية في غاليسيا، واعتقد أن إعادة بناء الوطن القومي اليهودي ليس في الأساس عملية دنيوية للتحرر السياسي بل دراما أخروية للخلاص القومي والبعث الروحي. ولا تعد الصهيونية حركة سياسية بل “حركة ثورية مدنية” هدفها إعادة تأسيس “المملكة” اليهودية حسب العهد القديم. ولا بد أن يحل الهيكل اليهودي محل قبة الصخرة -“موئل المجد الإسلامي”- على جبل الهيكل، المرتبط بـ”عنق أورشليم المقطوعة”، كما كتب في واحدة من أوائل قصائده.

وبسبب هذا المزج بين القومية المحاربة والصوفية الأخروية، عده المعجبون واحداً من أعظم شعراء العبرية، بل اعتبروه نبياً. بينما انقسم عالمه “المانوي” الثنوي إلى يهود وأعداء. اليهود تطهروا حين أصبحوا ضحايا، لكنهم عانوا ضعفاً جسدياً وروحياً، فاقمه زعماؤهم الذين “يعرفون النواح”، لكن يجهلون الثأر. على هذه الخلفية احتفى غرينبرغ بالبطولة المتهورة لباركوخبا، الزعيم اليهودي الذي تمرد في القرن الثاني على الرومان فسحقوا التمرد وأبادوا نصف السكان اليهود في فلسطين. ويرى أن أمثال هؤلاء الزعماء الأبطال حافظوا على الروح القومية حية، ومن ثم انتصروا معنوياً حتى وإن هزموا جسدياً. “عقيدة باركوخبا حية وصادقة، بالرغم من سقوط بيتار [آخر معاقله]”، كما أعلن.

لكن المطامح المباشرة لغرينبرغ وأحيمئير كانت سمة مميزة للثوريين الأوروبيين –من “نارودنيا فوليا” الروسية، إلى “سين فين” الأيرلندية، إلى الثوار البولنديين الذين قادهم جوزيف بيلسودسكي. كان الرجلان جزءاً من مجموعة مفككة الأوصال وغريبة الأطوار من الشعراء والصحفيين والسياسيين، الذين حملوا غالباً اسم “المتطرفين”، حيث تبنوا الرأي القائل إن المصلحة الوطنية تطغى على كل شيء آخر، حتى المبادئ الأخلاقية، وأن وسائل الدفاع عنها تشمل العنف الثوري. ومن أجل ضمان عدم استخدام هذه “الرخصة” لغايات شخصية أو فئوية، وحصر توظيفها في خدمة الأمة، يجب أن تكون بواعث حامليها نقية طاهرة. تتمظهر طهارة القلب هذه في نقيض المصلحة الذاتية: التضحية بالذات.

وعلى غرار ما يحدث مع الأفكار الرومانسية الأخرى عن العنف والبطولة، عمي غرينبرغ وأحيمئير عن حقيقة أن الانتماء إلى حركة عدوانية ومطلقة العنان ربما يكون أيضاً شكلاً من أشكال المصلحة الذاتية الأنانية. ومثلما لاحظ آيزيا برلين بفكره الثاقب فإن أتباعهما الذين روعوا بإرهابهم البريطانيين “أعطوا الأولوية على ما يبدو لإرضاء احتياجاتهم العاطفية/الوجدانية على حساب الأهداف القابلة للتحقق للقضية التي ناصروها”3.

3

أطلق النزاع على جبل الهيكل (=الحرم القدسي) سلسلة من أعمال العنف التي عجلت بتشكيل “الأشداء” و”إرغون”. وفي أعقاب الخلافات المتعلقة بترتيبات الصلاة عند الحائط الغربي (=حائط البراق) عام 1929، قاد شبيبة “بيتار” حشداً غاضباً، وهتف المحتجون “الحائط لنا!”. أدى ذلك إلى انتشار إشاعات تشير إلى أن اليهود يحاولون الاستيلاء على الحرم القدسي، وهو احتمال ما يزال فعالاً في حشد الفلسطينيين4. وفي موجة من الهجمات العنيفة التي شنها الغوغاء العرب، قتل 133 يهودياً بينما تعرض مئات غيرهم للتشويه والاغتصاب والضرب في الخليل والقدس وعشرات من الأماكن الأخرى5.

صدمت حوادث صيف عام 1929 المجتمع اليهودي المحلي في فلسطين (اليشوف)، واستحثت جدلاً حامي الوطيس ضمن الحركة الصهيونية. وضع “المتطرفون” من أمثال أحيمئير وغرينبرغ اللوم على زعماء “اليشوف” مثل ديفيد بن غوريون، الذي اعتبروه خائناً، ومداهناً، وداعياً إلى الاستيعاب والاندماج. ودعوا إلى عصيان مفتوح ضد البريطانيين، وانتهاز الفرصة السعيدة “بالانضمام إلى صفوف الأمم الحية [عبر] التضحية لتحقيق المثل الوطني الأعلى”.

أدرك جابوتنسكي، الذي لم يكن ثورياً، عقم هذه الاقتراحات. لكن بينما دعا مؤيديها في السر “عصبة من أولاد الحرام الروحانيين”، لم يتمكن من إدانتهم في العلن، بعدما عرف شعبيتهم بين قواعد الحركة الصهيونية التصحيحية. في عام 1931، انشق فصيل عن “الهاغاناه” –منظمة الدفاع الرسمية عن “اليشوف”- لتشكيل ما أصبح يعرف في نهاية المطاف بمنظمة “إرغون”. وفي عام 1938، نشر بعض أعضاء الحركة التصحيحية بياناً يعلن تأسيس “جبهة الناشطين التصحيحيين”، طالبوا فيه بنقلة إستراتيجية: التخلي عن “التوجه الإنكليزي”، وتبني “سبيل المقاومة الفعالة، واستخدام جميع الأساليب القتالية التي تحرر الشعوب المضطهدة كلها”. كان مناحيم بيغن أحد الموقعين على البيان، ومن بين مؤيديه أبراهام شتيرن.

وصف ديفيد رازييل أبراهام شتيرن، الذي تحدى زعامته لمنظمة “إرغون”، كما يأتي:

تمثال رقيق من العاج يلبس ربطة عنق مناسبة تعبر عن ذوق رفيع وبزة أنيقة مكوية. باختصار، كان شخصاً ذكياً مجرداً من المبادئ الأخلاقية، يشوه الحقائق إلى درجة أن حدود الواقع الحقيقي لا تعني شيئاً برأيه. كما أنه ديماغوجي مبالغ في التطرف.

وحين توصل رازييل، بوصفه قائد منظمة “إرغون”، إلى اتفاق للإسهام في المجهود الحربي البريطاني، حاول شتيرن التخلص منه ثم تركه في نهاية المطاف وشكل منظمة سرية متشددة ومناهضة للبريطانيين ستحمل اسم “ليحي” (الأحرف العبرية الأولى من عبارة “المقاتلون من أجل حرية إسرائيل”)، التي سيعرفها البريطانيون باسم “عصابة شتيرن”.

لكن شتيرن ورازييل كانا صديقين مقربين في الثلاثينيات، واكتفى شتيرن بأداء مهمات مساعدة في منظمة “إرغون”، حيث قضى معظم وقته في أوروبا يشتري الأسلحة للمنظمات السرية ويقيم معسكرات التدريب في بولندا. كما وفر الإلهام الروحي على شكل مقالات وقصائد نشرت باسم مستعار هو “يائير” (نسبة إلى إلعازر بن يائير، اليهودي “الغيور” Zealot في القرن الأول الميلادي الذي انتهت ثورته المخفقة بانتحار جماعي).

يصف باتريك بيشوب في كتابه “تصفية الحساب” شعر شتيرن بأنه “توليفة من الأبهة الفخيمة، والانتصارية، والعنف الرومانسي”. أما أرثر كوستلر، الذي “غازل” الحركة التصحيحية مدة قصيرة في عشرينيات القرن، فقد ترجم هذه الأبيات من إحدى قصائده:

مثل الحاخام

الذي يحمل كتاب الصلاة المقدس

في جعبة مخملية

إلى الكنيس

كذلك أحمل

بندقيتي المقدسة إلى الهيكل

ويقول في قصيدة أخرى: “سوف نصلي بالبنادق، والمدافع الرشاشة، والألغام”. اقترن في شتيرن ولع مهوّس بالعنف مع هاجس استحواذي بالموت. في إحدى قصائده المشهورة “جنود مجهولون” (تحولت إلى نشيد وطني للإرغون، وعنوان لكتاب هوفمان)، يصف كيف يبنى الوطن الأم من الجثث المرصوصة المدعمة بدم الأطفال.

*

يروي باتريك بيشوب في “تصفية الحساب” قصة حياة شتيرن وموته المثير للجدل باعتبارها حكاية أوهام مهيبة وضلالات خادعة تبلغ ذروتها في الفشل المذل. فبعد أن انشق عن “الإرغون”، شنت منظمة شتيرن بين سبتمبر/أيلول 1940 وفبراير/شباط 1942 هجمات عديدة استهدفت المؤسسات المالية والمكاتب والمسؤولين البريطانيين. أدت إحدى عمليات السطو الخرقاء إلى اعتقال سبعة من أعضاء المنظمة. بينما قتل اللصوص الهاربون في أخرى اثنين من المارة اليهود، ما أثار سخرية الناس الذين حاولت حشدهم. أما محاولات شتيرن الطائشة للتحالف مع إيطاليا الفاشية والمانيا النازية فقد فشلت فشلاً ذريعاً، ودفعت وكالات الاستخبارات البريطانية إلى اعتقال مزيد من رجاله. وبدأ بعض مساعديه الانقلاب عليه.

أمر شتيرن، المعزول واليائس، بتنفيذ عملية مغالية في طموحها: قتل اثنين من ضباط الشرطة البريطانيين، جيفري مورتن وتوم ولكنز. زرع رجال شتيرن قنبلتين في أحد مباني تل أبيب. استهدف الانفجار الأول جلب الضابطين إلى مكان الحادث، لتنفجر القنبلة الثانية وترديهما. لكن مورتن أرسل ضباطاً آخرين إلى موقع الانفجار. وحين انفجرت القنبلة الثانية، قتلت موظفين يهوديين يعملان مع سلطات الانتداب إضافة إلى ضابط بريطاني.

وبدلاً من جذب الجماهير اليهودية وتعبئتها، أجمع اليهود كلهم تقريباً على إدانة العملية. وأعلن الزعماء الصهيونيون أن أعضاء “شتيرن” “حفنة من المجانين” وتعهدوا بمساعدة الشرطة على مطاردة الإرهابيين. وبعد أسبوع أطلق رجال مورتن النار على أربعة من مساعدي شتيرن واعتقلوهم. وسرعان ما سلم ثلاثة آخرون أنفسهم. وفي الثاني عشر من فبراير/شباط 1942، عثر على شتيرن عارياً داخل خزانة ملابس في شقة صغيرة في تل أبيب. أطلق مورتن عليه النار وقتله على الفور، معلناً نهاية حياة شتيرن، القاتل الإرهابي، وبداية تراث يائير، الشهيد الصهيوني.

في عام 1944، عادت منظمة “ليحي” إلى الواجهة ونفذت العشرات من الهجمات الإرهابية، التي دمرت مرافق سلطات الانتداب وقتلت المسؤولين البريطانيين والعرب واليهود على حد سواء. كانت العمليات هذه المرة أشد فاعلية وأعمق تأثيراً، بسبب توجيهات زعيم “ليحي” العنيف المشهور بقسوته التي لا تعرف الرحمة، اسحق يزرنيتسكي (أو إسحق شامير، سابع رئيس وزراء في تاريخ دولة إسرائيل). أما أكثر عمليات “ليحي” المشهودة شهرة وإثارة فكانت اغتيال اللورد موين (نوفمبر/تشرين الثاني 1944) وزير الدولة البريطاني في الشرق الأوسط. فقد كمن شابان من عملاء “ليحي” خارج منزله في القاهرة وأطلقا النار على سيارته من مسافة قريبة حين كان عائداً من مكتبه. القي القبض على القاتلين وأعدما شنقاً فيما بعد.

تبين أن هذه العملية، التي استهدفت حشد الجماهير اليهودية وجذب تعاطفها ودفعها إلى الثورة على البريطانيين، قد استندت إلى خطأ ذريع في الحسابات. فقد أصيب مجتمع “اليشوف” بصدمة مروعة، واعتبرت صحافته الشعبية القتلة “خونة”. كانت أسباب الاتهام وجيهة في الحقيقة. إذ بدأ ونستون تشرشل آنذاك يروج لفكرة إقامة دولة يهودية في جزء من فلسطين بعد الحرب. لكن اغتيال والتر موين، صديق رئيس الوزراء وحليفه السياسي، أثار غضبه وحنقه. “لقد أصاب اغتيال موين خطة تشرشل الجريئة لتقسيم فلسطين بإحباط شديد”، كما يكتب هوفمان.

4

تشكل التأريخ الصهيوني والسياسة الإسرائيلية عموماً بالجدل الدائر حول تسويغ الإرهاب الصهيوني ونجاعته قبل تأسيس الدولة عام 1948. بعض المؤرخين والمنظرين الإيديولوجيين ينسبون إليه فضل طرد البريطانيين، بينما ينكره غيرهم بوصفه مسعى عقيماً بل مخرباً. لكن رواية هوفمان مختلفة قليلاً. فهو يدرك عبثية جهد شتيرن وأتباعه، الذين اعتبرهم البريطانيون “متطرفين ومتزمتين خطرين لكن لا أهمية لهم من الناحية العسكرية”، إلا أنه يجد أن الحملة الإرهابية التي شنتها منظمة “إرغون” من عام 1944 إلى نهاية الانتداب عام 1948، مؤثرة وفعالة. ويستنتج أن “بإمكان الإرهاب ضمن ظروف مناسبة ووفق إستراتيجية صائبة وأسلوب تكتيكي صحيح، أن ينجح في تحقيق بعض أهداف ممارسيه الجوهرية على أقل تقدير”.

تعد هذه المواصفات والمحددات والشروط سليمة نظراً لأن معظم الأعمال الإرهابية التي عاينها الكتاب أظهرت العكس. إذ لم يحقق إجرام العصابات الذي تبناه “يائير” وأتباعه شيئاً باستثناء تحويله إلى بطل للمتطرفين اليهود. على نحو مشابه، لم ينجز عز الدين القسام، الجهادي الثوري الذي دعا إلى العنف ومجّد التضحية بالذات في أوائل الثلاثينيات، لم ينجز شيئاً فيما عدا منح الذراع العسكري لحماس اسمها –ألوية القسام. فقد سحقت ثورته قبل أن تبدأ.

ينسب هوفمان إلى أتباع القسام مسؤولية تأجيج ثورة العرب بين عامي 1936 و 1939 . لكنها، هي أيضاً، فشلت فشلاً ذريعاً. فقد تمثلت أهدافها، إضافة إلى مهاجمة اليهود، في إلحاق الضرر بالاقتصاد اليهودي، وردع المهاجرين الجدد، وعرقلة إقامة المستوطنات اليهودية. لكن أعمال العنف التي شنها العرب استدعت رداً قاسياً وضارياً، أوقع عدداً أكبر من الإصابات بين المهاجمين العرب مقارنة بالمدافعين اليهود، وأدت إلى تأسيس ميليشيا يهودية مسلحة حظيت بالموافقة الرسمية باسم “نوتريم”. وفي الحقيقة، استفاد اقتصاد “اليشوف” من إضرابات العمال العرب وأجبر المستوطنين اليهود على تطوير قوة عاملة مستقلة خاصة بهم. وبعد إغلاق ميناء يافا، اضطر المسؤولون البريطانيون إلى منح الإذن بإقامة ميناء حديث وعميق المياه في تل أبيب المجاورة. ولم يستعد ميناء يافا القديم –أحد المصادر الرئيسة للاستخدام والدخل للفلسطينيين- وضعه السابق قط.

استمرت الهجرة اليهودية حين لاح شبح النازية في أفق أوروبا. تسارع نشاط الاستيطان. واقترحت لجنة بيل البريطانية، التي أرسلت للتحقيق تحت سلطة الانتداب في أعمال العنف، اقترحت لأول مرة إقامة دولة يهودية في جزء من فلسطين التاريخية. وإذا هزم العرب في المعركة العسكرية التي خاضوها من أجل فلسطين عام 1949، فقد خسروا الصراع الدبلوماسي والاقتصادي قبلها بعقد من السنين.

أدرك ديفيد بين غوريون أن الإرهاب العشوائي الذي مارسه الثائرون الفلسطينيون دون تمييز كان “هزيمة ماحقة للسياسة العربية”. تبنت القيادة الصهيونية إستراتيجية “ضبط النفس”. واعتبر الثوريون ذلك ضعفاً. وطالبوا بالرد العنيف والتخلي عن سياسة التحفظ. كما شجعوا “الجنود المجهولين” في قوات “الإرغون” على شن الهجمات، وذكروهم ببيت آخر من قصيدة لشتيرن: “لا يعفي من الواجب إلا الموت”. قتل مئات من العرب الأبرياء وجرح الآلاف في عشرات من عمليات التفجير وإطلاق النار العشوائي التي نفذتها منظمة “الإرغون” في المقاهي والحافلات والأسواق. ومثلما علق هوفمان، ثبت أن هذه الهجمات قد أعطت نتائج عكسية. “دفعت العرب المعتدلين حتى ذلك الحين إلى أحضان الثوار والمتمردين”. تعرضت “الإرغون” للإدانة من العرب والبريطانيين واليهود. ودعاها بن غوريون “حزباً نازياً”.

اعتمدت ثورة بيغن عام 1944 على التحليل المختل ذاته. ومثلما ذكر فريدريك باينتون آنذاك:

الحجة تؤكد أن العرب حين فتحوا أبواب الجحيم عام 1936 أجبروا الحكومة البريطانية بالترهيب على تقديم الكتاب الأبيض، كذلك يأمل اليهود الآن بأن تؤدي الأساليب التكتيكية نفسها إلى ترويع البريطانيين وإجبارهم على الموافقة على الهجرة مرة أخرى.

لكن مثلما لم تدفع الهجمات العشوائية على العرب إلى تخفيف عدائهم في الثلاثينيات، لم يؤد سقوط مئات الضحايا البريطانيين إلى تعديل سياسة سلطات الانتداب المتعلقة بالهجرة في الأربعينيات. ومع ذلك، يرى هوفمان حملة “إرغون” الإرهابية بوصفها عمليات بارعة ومتقنة وفاعلة.

الفارق الذي ميز حملة بيغن، برأي هوفمان، هو إستراتيجيته القائمة على تقويض سمعة البريطانيين وهيبتهم. يستشهد برواية لبيغن:

يؤكد لنا التاريخ وملاحظتنا المباشرة بالحجة والدليل أن نجاحنا في تدمير هيبة الحكومة [البريطانية] في أرض إسرائيل، سوف يتبعه زوال حكمها آلياً.

الشاهد مأخوذ من مذكرات بيغن، التي كتبها بعد سنوات من الحوادث التي وقعت. لكن الأدلة المستمدة من تلك الحقبة تشير إلى أن بيغن كتب مستفيداً من الإدراك المتأخر، أي معاينة الحدث بعد وقوعه. فقد بقيت صلته بـ”المتطرفين”، التي تمظهرت في المواجهة مع جابوتنسكي عام 1938، قوية وثيقة كحالها دوماً. يقول بيشوب: “تعرف بيغن إلى أبراهام شتيرن في وارسو وأعجب به”. وحين تولى القيادة في “إرغون” “كان تواقاً لرأب الصدع القديم بين الإرغون وأتباع شتيرن”.

في الحقيقة، كان بيغن، وفقاً للباحث الإسرائيلي جوزيف هيللر، هو العنصر المؤثر الأساسي في ترويج الأفكار الثورية لأحيمئير وشتيرن وغيرهما من “المتطرفين” ضمن منظمة “إرغون”. وأكدت منشوراته وبياناته منذ الأربعينيات أن الاستعراضات الجريئة للبطولة والتضحية سوف تبعث القوى الهاجعة لدى الأمة من مرقدها، وسينطلق منها “جيش التحرير” لشن “حرب الاستقلال الوطنية” ضد البريطانيين. لكن قيادة “اليشوف” أدانت الإرهابيين وأطلقت حملة مناهضة للإرهاب عرفت باسم “الموسم المفتوح”، بينما بقيت “إرغون” منظمة إرهابية صغيرة وسرية.

*

وعلى الرغم من ذلك كله، مارست عمليات منظمة “إرغون” بزعامة بيغن تأثيراً فعالاً، بغض النظر هل قصد ذلك أم لا. كان بيغن خطيباً مفوهاً مع موهبة خاصة على المسرح السياسي. بينما استحثت المكائد والهجمات التي أمر بها البريطانيين على اتخاذ إجراءات قاسية، ما فاقم مشاعر الاستياء والحنق على سلطات الانتداب وكثف الإحساس العام بالفوضى. تزايدت ردة الفعل السلبية من بلدان العالم على سيطرة بريطانيا على فلسطين، وتركزت غالباً على تقييدها لهجرة الناجين من المحرقة. كما أدت الخسائر التي أوقعها الإرهابيون إلى إضعاف الروح المعنوية لدى مسؤولي سلطات الانتداب. يستشهد هوفمان بكثير من البيانات والتصريحات للمسؤولين العسكريين والسياسيين، فضلاً عن المراسلين البريطانيين، التي عبرت عن الشكوك باستدامة الانتداب في مواجهة إرهاب منظمة “إرغون”. لكن التحديد الدقيق لتأثيره في عملية صنع القرار البريطاني أمر معقد ومركب نظراً لحقيقة كونه عاملاً واحداً من بين جملة عوامل. يلاحظ هوفمان:

ثمة سلسلة أخرى من التطورات الجارفة –شملت المصاعب الاقتصادية التي واجهت بريطانيا بعد الحرب، ومنح الهند استقلالها، وتدهور العلاقات مع الولايات المتحدة حول فلسطين، والضغوط المكثفة للهجرة اليهودية غير الشرعية، وقوة الرأي العام الدولي والمحلي، ومحنة الناجين من المحرقة وبلوى النازحين اليهود الهائمين على وجوههم في أرجاء أوروبا، وتقرير لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين الذي أوصى بإنهاء الانتداب- اجتمعت كلها معاً لدفع الحكومة العمالية باتجاه هذا الوضع اليائس الخطير.

ومع ذلك يبدو أن هوفمان يتفق مع مؤرخين، من أمثال مايكل كوهين، منحوا أهمية أكبر لهجمات “إرغون”، وشددوا على تأثير العمليات الخاصة، مثل تفجير مقرات سلطات الانتداب في فندق الملك داوود (يوليو/تموز 1946) الذي أدى إلى مقتل واحد تسعين شخصاً من البريطانيين والعرب واليهود، وشنق رقيبين في الجيش البريطاني بعد سنة. ويزعم آخرون أن الهجمات “أطلقت بالفعل موجة استياء هائلة معادية للحكومة لدى الرأي العام البريطاني، لكن النخبة المسؤولة عن صنع القرار قد اتخذت قرارها”. كتب المؤرخ الإسرائيلي موتي غولاني يقول: “تأريخ الحقبة متفق عموماً على نتيجة مفادها أن نهاية الحكم البريطاني في فلسطين لم يجلبها الإرهاب العربي ولا اليهودي”6.

فضلاً عن ذلك كله، شجع على التقسيم كبار المسؤولين البريطانيين، ومنهم تشرشل، بغض النظر عن حملة “إرغون” الشعواء. وفي ضوء الظروف المالية والجيوسياسية التي سادت بعد الحرب ودفعت البريطانيين إلى التخلي عن كثير من المناطق في شتى أنحاء العالم، يبدو من المبرر التزام جانب الحيطة والحذر عند التوصل إلى نتيجة تتعلق بالإرهاب اليهودي: في أفضل الحالات، اكتفى بتسريع تخلي البريطانيين عن الانتداب. وما يتضح دون لبس أن الإرهاب يكون في أشد حالاته فاعلية عندما يمنع الدبلوماسية من حل النزاعات7.

جرى تفكيك “إرغون” و”ليحي” بعد قيام دولة إسرائيل، لكن فلسفتهما ما تزال قوة فاعلة في البلاد. أصبح بيغن رئيساً للوزراء عام 1977، وخلفه شامير عام 1983. واحتل الأتباع والأنصار والخلفاء –وما يزالون- مواقع مركزية في الحياة العامة الإسرائيلية. ولا ريب في أن القومية الحربية المقاتلة والحمية الدينية المتحمسة لأحيمئير، وغرينبرغ، ويائير وأتباعهم، تواصلان حث المتطرفين اليهود وتحفيزهم وإلهام الإرهاب اليهودي. أما تحديهما فيعد معركة فكرية وثقافية لا تقل صعوبة عن مهمة تطبيق القانون.

يظهر انتخاب بنيامين نتنياهو –الذي أطلق تصريحات عنصرية قصد منها إثارة الخوف بعد أن تراجعت شعبيته في استطلاعات الرأي- أن مشاعر العنف والآراء المتطرفة التي ناقشها هوفمان وبيشوب ما تزال حية وفاعلة. كان والد نتنياهو، الباحث المختص في تاريخ محاكم التفتيش (توفي عام 2012)- منظراً تصحيحياً انتمى إلى أوساط “المتطرفين”. كما اشتهر بخوفه الرهابي من الإسلام وتأييد الإرهاب في حقبة ما قبل قيام الدولة، بينما عارض أي اتفاق مع العرب، حتى معاهدة السلام مع مصر.

يقاسمه ابنه كثيراً من آرائه على الرغم من الخطابة المنمقة عن حل الدولتين، الذي عارضه في أثناء الانتخابات ثم وافق عليه على مضض فيما بعد. في أوائل مايو/أيار، شكل حكومة جديدة ضمت أعضاء من حزب البيت اليهودي، الذي يؤيد توسيع المستوطنات في الضفة الغربية ويعارض الدولة الفلسطينية. تخلى تكتل “الليكود” بزعامة نتنياهو عن آخر التزامات جابوتنسكي الليبرالية وتحول إلى حزب مستعد لاستغلال الازدراء العنصري للعرب. في الختام: لا غنى عن فهم الجذور الإيديولوجية لزعماء إسرائيل الحاليين إذا أردنا النجاح في تحديهم واستبدالهم.

————————————–

1 “تقرير” باينتون حول فلسطين (مايو/أيار 1944) كتب أصلاً على شكل “مذكرة إلى المحرر”، الذي قرر نشره. لم يمر التقرير دون إثارة الاهتمام في فلسطين، حيث استخدمته المؤسسة الصهيونية لتأنيب منافستها، الصهيونية التصحيحية، بينما استعملته هذه الأخيرة لفضح تحريض المؤسسة الخياني ضدها.

2 انظر:

The Spell of Jabotinsky, “The New York Review, November 6, 2014.

3 انظر:

Isaiah Berlin, “Zionist Politics in Wartime Washington: A Fragment of Personal Reminiscence –The Jacob Herzog Memorial Lecture,” 1972.

4 خططت المنظمات السرية اليهودية التي نشطت في ثمانينيات القرن الماضي لنسف قبة الصخرة. والجدير بالذكر أن زيارة أرييل شارون الاستفزازية إلى الحرم القدسي في أيلول/سبتمبر 2000 أطلقت شرارة الانتفاضة الثانية. كما أن أعمال العنف التي وقعت مؤخراً في القدس اندلعت جراء أنشطة وإشاعات تعلقت بالسيطرة على الأماكن المقدسة.

5 لا يذكر هوفمان عدة جرائم ارتكبها اليهود في أثناء الأيام الثلاثة من أعمال الشغب، لكنها ترد في دراسة هيليل كوهين المثيرة (التي ستصدر عن مطبعة جامعة برانديز):

1929: Year Zero of the Arab-Jewish Conflict.

كما يكشف كوهين عن دليل يثبت أن خلية يهودية سرية خططت لنسف مسجد عمر في القدس. غاب عن كتاب هوفمان هذا وغيره من الأمثلة المبكرة على العنف السياسي الذي مارسه اليهود، مثل الجماعتين السريتين “هاكيبوتز” و”هاميفال” (ارتبطتا باغتيال الشاعر (المثلي) المتزمت والمعادي للصهيونية يعقوب دي هان عام 1942).

6 انظر:

Michael Cohen, Palestine and the Great Powers, 1945-1948 (Princeton University, 1982); Josepf Heller, “Review of Palestine and the Great Powers, 1945-1948,” Middle Eastern Studies, Vol. 23. No. 4 (1987), p. 549; Motti Golani, The End of the British Mandate for Palestine, 1948 (Palgrave, 2009), p. 9.

7 من الواضح أن إستراتيجية “إرغون” كانت محفوفة بالمخاطر. ومثلما كتب ناشط تصحيحي بارز في مذكراته: “الحظ ساعد إرغون. فقد ضمت الحكومة البريطانية عناصر كانت ترغب في دفعها إلى اتخاذ إجراءات عقابية وانتقامية واسعة النطاق ضد اليشوف. ولو قبلت الحكومة البريطانية مقاربة هؤلاء، لتحولت الإرغون في التاريخ اليهودي إلى عنصر تدميري. وحين نعاين الماضي من منظور الحاضر، نعرف أن الجدار البريطاني الذي كنا مع الإرغون نطلق عليه النار مزعزع الأركان وآيل للسقوط”. انظر:

Binyamin Eliav, Memoirs (in Hebrew; Am Oved, 1990).

المصدر: مقال مترجمNew York Review of Books

منتدى العلاقات العربية والدولية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار