البابور الموقع العربي

كأس العالم حتّى لا تكون “آفة حارتنا النسيان” 4/3

368

د. حمد بن عبد العزيز الكواري

فرض كأس العالم علينا جميعًا إيقاعا خاصّا في حياتنا اليوميّة، نستيقظ لننام على وقع المباريات وما يحدثُ في محيط الملاعب وفي الشّوارع والأسواق من حركيّة ونشاط للمشجّعين، حقّا غيّر مونديال قطر عاداتي الشّخصيّة، لم يكن صائبا القول بأنّ كأس العالم مجرّد فُرجة أو منافسات رياضيّة ترفع حميّة المشجّعين أو مجرّد محرّك لاقتصاديّات مختلفة، لأنّ في هذه اللعبة ما يُغيّر حقّا الأفراد والمجتمعات. ربّما لم نكن ندرك ذلك طيلة عقود من متابعتنا لهذا الحدث ونحن أمام جهاز التلفزيون، لا نتعامل معه إلاّ كصورة مرئيّة تحرّك مخيالنا ومتعتنا، بينما اختلف الأمر ونحن نعيش في داخل الحدث وعلى مقربة ممّا يثيره من تفاصيل وكواليس وظواهر. بدا الأمر مختلفًا، بل هو إدراك آخر شبيه بنوع من التورّط وجدانيا وذهنيّا فيما يحدث لا في الملاعب وإنّما وحتّى خارجها في الشّوارع والأماكن العامة والمراكز التجاريّة والأسواق ووسائل النقل، وحتّى في الفضاءات الافتراضيّة التي يتيحها عصرنا الرقمي من جدران الفايسبوك وتغريدات تويتر وعوالم إنستغرام وغيرها من تطبيقات. هل يستطيع أحد اليوم في قطر أن يقول بأنّ المونديال مرَّ من هنا دونَ أن يثير فيه شيئا ما أو يحرّك فيه فكرة أو يدفعه لفعل شيء نبيل والعالم في ضيافته؟

لقد اتّسعت دائرة المبادرات الثقافيّة والمجتمعيّة لتكون هذه النسخة من المونديال استثنائيّة حقّا. سارعت المؤسسات الثقافيّة إلى تأثيث برامج وفعاليّات متنوّعة لفائدة المشجّعين، صارت الدوحة خليّة نحل حقيقيّة لا تهدأ، وفي كلّ يوم أتابعُ فيه المستجدّات، ينتابني الشّعور بأنّ كأس العالم تحوّل إلى حدث ثقافي، ومن بينِ ما استحسنته إقدام بعض المؤسسات الإعلاميّة على توثيق الفعاليات، وتقديم مقاربات عميقة لها، ذلك ما وقفت عليه في كتاب مهمّ للغاية أصدرته مؤسسة “العربي الجديد” تحت عنوان “سحر كرة القدم، أدباء من الشرق والغرب يحكون عن الشّغف باللعبة الأكثر بهجة”، وقد أعدّه وحرّره الأستاذ معن البياري، وضمّ الكتاب حقّا تجارب الكتّاب في علاقتهم بكرة القدم، ووجدتُ فيه بوحًا واعترافات مهمة لمبدعين من كلّ القارات حول منزلة كرة القدم في حياتهم، بعضهم تورّط في اللعبة، وبعضهم ظلّ متابعا لها ومشجّعا، والطريفُ في كلّ تلك الشّهادات اشتراكها في الإقرار بـ “السحر” الذي تمارسه الرياضة الأكثر شعبيّة في العالم، من ذلك ما ذكره الشاعر اليوناني ديمتريس أنجيلس “تكون كرة القدم تعبيرا عن شغف مازال يُوحّدنا أو يفرّقنا. بمعنى آخر، إنّها تثيرنا، تسحرنا، وتجعلنا نحسّ أنّنا أحياء، حتّى لو كانت مشاركتنا الجسديّة قليلة، وبتنا عاجزين عن فعل أيّ شيء ما عدا القفز والصياح بسبب القلق، فيما نحن نشاهد مباراة كرة قدم من الأريكة أو مدرّجات الاستاد”، حتمًا تورّطنا في هذه اللعبة بتفاوت وشعرنا بأنّا صرنا جزءا من الحدث، وفجأة تحوّل “المستهلكون للفرجة” إلى “منتجين للفرجة”، ما يتغيّر فقط هو موضوع الفرجة، وقوانين اللعب!

وزير دولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية

المصدر: الشرق القطرية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار